بانفـراط عـقد الجبهة الوطنية مع حزب البعث اشــتـدت هجمة النظام الارهابية الـدموية في داخـل الـوطن منذ بداية عام 1978 والتي طالت الآلاف من بنات وابناء الشعب العراقي من كل قوميـاته واقليـاته واطيـافه، وزجت بهم في المعتقلات والسجون السرية في اقبية الامن العامة الارهابية السيئة الصيت ومورست ضدهم شتى انواع التعذيب والممارسات الوحشية، انتهت بالتصفيات الجسدية والاعدامات وغيبوا في مقابر جماعية لا يعرف ذويهم شيئا عن مصيرهم منذ ذلك الوقت، وشمل الارهاب تهجيـر العوائل العراقية تحت حجة التبعية.. وامتدت حملة النظـام الارهابية الى خارج الـوطن باغتيالات شملت كل من لا يتفق مع سـياسة البعث، استشهد طلبة واسـاتذة على يد اسـتخباراته في السـفارات العـراقية. كما حدث في اليمن الديمقراطية وفي بلـغــاريا.

حينها تطلب الامر من فروع رابطة الطلبة العراقيين والمنظمة الحزبية في الاتحاد السـوفياتي ومنها فرع طاشقند -جمهـورية اوزبكسـتان السوفياتية بالقيام بنشاطات، لقاءات، ندوات واجتماعات سياسية بين اوساط المنظمات الطلابية والحزبية العربية والاجنبية والسوفياتية لشرح وتبيان الموقف وما آلت اليه الاوضاع في العراق ولفضح ممارسات النظام بارهـابه للناس في الداخل والخارج.. واقتضى ذلك بناء ومد شتى الجسور والعلاقات الاممية بين الطلبة الدارسين في طاشـقند آنذاك. واقامة هكذا علاقات ونشاطات تتطلب مزيدا من الوقت والجهد والعـدد والامكانيات وحتى المادية، حينها كان معظم الطلبة غير المنتمين للبعث منقطعين عن الصلة بأهلهم وذويهم واخبارهم لضرورات امنية، والتي لم ينج حتى الأهل وسكناهم عن مداهمات رجالات الامن العشوائية وتهديداتهم. 

اقتضت المهمة بالقيام باي نشاط او فعالية طلابية يمكن استثمارها في تناول الوضع السياسي في داخل الوطن وكان الأمر في غاية الصعوبة وخصوصا مع المنظمات الطلابية السوفياتية في جمهورية اوزبكستان التي تلاقي حرجـا عند اللقاء في توضيح وشـرح الوضع السياسي لها، وذلك لوجود العلاقات الرسمية المتميزة مع العراق، أو مع بعض المنظمات الطلابية العربية  في تذبذب المواقف من قبل بعض طلبتها من جـراء سـياسة ترغيبهم وجـرهم والتأثير عليهم بشتى الدوافع والاساليب، الاغـراءات، السـهرات والبذخ المادي الذي قدمه لهم ازلام النظام في السـفارة والحزبيون البعثيون .

حلت الذكـرى الخامسـة والاربعـون لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي وكان لزاماً على المنظمة الحزبية ان تعـد فعالية على شرف ذكـرى التأسيس المجيدة وتخليد الشهداء وجعلها صوتا قويا على ما يدور داخل الوطن من اضطهاد وممارسـات قمعية. وقد تمت هذه الفعالية بمحض الصدفـة فكانت حقا تظاهرة  مـدوية بجهود ثلاثة طلبة واستاذ عراقي مجهول تم فيها  فضح سياسة الارهاب الدموي للنظام وما يتعرض له الشعب العراقي بقومياته واقلياته.

حصلت العلاقة مع الاســتاذ العـراقي الكـردي الشـيوعي احمد صالح بخشي وذلك من خلال احـد الطلبة اليـونانيين (كوركيس) الدارس في قسم الفلسفة في جامعة طاشقند. اسـتاذ احمـد صالح البخشي كان اسـتاذا في قسم اللغة العربية في الجامعة، انساناً بسيطاً طيباً بعراقيته، افـرحه واسـره وصول الطلبة العراقيين الجـدد واللقـاء بهم والتعرف عليهم. هاجر البخشي الى الاتحاد السوفياتي مع قائد الثورة الكردية ملا مصطفى البارزاني ورحلته الطويلة الى هناك، امست له عائلـة ومجال عمـل في الجامعة فاستقر ض في طاشـقند.

حُجزتْ القاعة الكبيرة في الجامعة، دُعيتْ المنظمات الطلابية والحزبية، وبفضله غصت القاعة بالطلبة الاجانب والاوزبيك المدعوين عبر دعـوة استاذهم البخشي الطيب لحضور المناسبة، اُلقيتْ الكلمات للمنظمات الاجنبية وعلتها الكلمة الجريئة للطلبة الشـيوعيين اليونانيين تضامناً مع الشعب العراقي بمواجهة الدكتاتورية، اتصل البخشي ببعض معارفه لحضور هذه الفعالية من الاكـراد في الاماكن القريبة لاوزبكستان ودعاهم لحضور هذه الفعالية، جلبوا معهم مأكولاتهم وادواتهم الموسيقية واستمرت الدبكات لساعة متأخرة من الليل، واتصل البخشي للغرض ذاته باحـد معارفه عضو الاكاديمية  في طاجيكستان حـسن نقاش، من مدينة كـربلاء (وصل الى طاجيكستان فترة انقلاب 63) وكريمته الطالبة في القسم العربي، (التي تساءلت بكيفية الاتصال والتواصل بأهل والدها بالعـراق حيث لا تعـرف عنهم الا القليل).

اشترك الطلبة الثلاثة، وبينهم  الشهيد ابو تيسير،   سـمير مهدي شـلال ، بامكانيات بسيطة في معرض الرسم  للبوستر السياسي وفازوا ببعض الجوائز الفنية، وحدث الشيء غير المتوقع هو اللقاء بالإذاعة – القسم  العـربي، حيث دُعيتْ لهذه الفعالية والمعـرض الفني المقام على شرف الذكرى، وتسنت لهؤلاء الطلبة امكانية التطرق للوضع السياسي، وطـرح ما يدور في الوطن بتـدهـور الاوضاع السياسية ..الامر الذي ادى الى ذعـر وجنون ازلام السفارة وطلبة الاتحاد الوطني البعثيين من امكانية وكيفية احياء هذه المناسبة وفِي  الجامعة والحضور الكبير للطلبة والمعرض الفني المقام رغم محدودية الإمكانات  المادية والعدد الذي لا يتجاوز عـدد اصابع اليد الواحدة.

كم كان الاسـتاذ البخشي فخـورا مبتهجاً، وها هـو قـد حقق نجاحاً بإقامة هذه الفعالية التي اعتبرها انتصارا لقضية الشعب العراقي ولما يعانيه الشعب الكردي من اضطهاد، وكم كان فرحا ً لهذا العـرس، فرحـا منتشياً التقى بامتـداده بإخوانه من العراق بعد فراق، وكم للعـراق من البنات والابناء المجهولين المهجرين المشردين في ارجاء المعمورة واصقاعها يلتقــون من حيث لا تـدري ... لم يكن متوقعاً ما انجز.

عند الانتهاء من المراسيم دعاهـم الاستاذ صالح البخشي لشقته البسيطة المتواضعة في طاشـقند، شـاي وحلوى عيـد الحـزب، نصـر وفخـر وفرحـة وامل، استخرج أواني وصحـون وابريق شـاي منقـوش عليها صـور الزعيم عبـد الكـريم قاســم وشـعار الجمهورية العراقية محتفظاً معتـزاً بها طيلة السـنين. انتقاما من هذا النشاط تعـرض الطلبـة العراقيين من غير البعثيين لاعتـداء وحشي من قبل الطلبة التابعين للسـفارة واصابة أحد الطلبة السـوريين من الدراسات العليـا بجروح بليغة، نقـل على إثرها الى المستشفى حيث مكث فيها لفترة طويلة للشفاء. في 1979 تم نقـل قسم من هؤلاء الطلبة من طاشـقند الى مدن اخرى للاتحاد السوفياتي وذلك لمقتضيات أمنية اجبروا عليها من قبل السلطات السوفيتية كحل لعـدم حصول احتكاك بينهم وبين طلبة الاتحاد الوطني، بقى البخشي وبقيت ذكراه الجميلة في قلوب معارفـه ومواطنيـه العراقيين وطلبته، بعد ذلك انتقل الى طاشـقند احـد الزمـلاء العاملين في مجـال الصحافة والترجمة (رادوغـا) والاذاعـة، توثقت الصلة والعلاقـة الطيبة والتعـاون بينه وبين الاسـتاذ البخشي فيما بعـد.. كان الاسـتاذ البخشي ابناً عـراقيـاً مجهـولا..

الاسـتاذ احمـد صـالح البخشـي ... تحية وسلاماً اينما حللت.

في ذكرى التأسيس، للشـهداء مجـدا .. للحـزب مجـدا.

عرض مقالات: