الفنان صلاح جياد كان واحدا من المؤسسين لهوية اكاديمية متميزة في الفن العراقي المعاصر، وهو واحد من المؤسسين لفن عراقي حديث إذا اقتنعنا بخصوصية العديد من التجارب العراقية. أطلق اللغة التجريبية في فنه عبر جماعة الأكاديميين في منتصف السبعينات وظل خلال عمله الفني ملحا على ادخال عمله في السياق الشكلي الموضوعي، فخطوطه العريضة التي اكتسبت لونا جديدا تبقى على صلة بالمناهج التقليدية للتأليف الفني وكأنها نتاج تأمل طويل يقربها احيانا من الاتجاه التصويري الذي يصّر على خلق واستمرارية الصلة بالعالم المرئي انطلاقا من التجريد، وهذا ما يميز مرحلته الاخيرة. فقد جعل لوحته صورية تحافظ في الوقت نفسه على قيمتها التعبيرية التجريدية العامة بخطوطها المتشابكة والمتقاطعة مع ضربات الفرشاة العريضة السريعة التي تموهها وتجعلها غامضة وضبابية احيانا.      

تضعنا اعمال صلاح امام حالات من التأمل والتأويل والاحالة الى اشكال او التلميح اليها من خلال استخداماته التي لم تكن مألوفة في عمله السابق، سببها طبيعة تواجده الطويل وسط صراع التيارات الفنية التي تعيشها العاصمة الفرنسية. استخدامه لتقنيات جديدة نتج عنها ما يمكن تسميته بـ" اللوحة البنيوية"، وهي الجمع بين الظواهر الشكلية التي تحافظ على سمة التناسق المكتمل والتبادلات المريحة في عملية البناء، مع الحفاظ على مفهوم الحساسية التي توجه عملية الخلق في المفهوم التقليدي. فهو يبدأ بالحاسة ليجد لها اشارات ومزايا منظورة في هيكل اللوحة وجسدها، وارتباط هذا الجهد باللون والطريقة المتبعة في استخداماته المعبرة عن الانفعالات المباشرة بصورة اختبارية تكون احدى المكونات الاساسية لعملية الخلق الفني عنده. بيد ان هذه الاختبارية لا تقتصر على كونها وسيلة لبلوغ التكامل الفني، بل انها تشكل جزءا هاما من اختبار المادة او تقنية الحرفة، لذا فان تباين مختلف الاساليب الفنية لفنان مثل صلاح جياد وامتلاكه عدته المهنية الاكاديمية الجيدة يجعل منه حرا ومقتدرا على اضافة مفردات ومعان جديدة الى القاموس التشكيلي بفضل المنهج الاختباري والعلاقة المباشرة بالمادة والتقنية التي تدفعه للتفكير والتأمل والاكتشاف من خلال مراقبته لما يحيطه لاستثماره بشكل اوسع وفي مجالات اكثر تنوعا، وايضا بدراسة خصائص العمل الجديد والافادة منه ومما يقدمه. فالفنان يذهب في تخيله ربما الى حيث لا يستطيع المشاهد اللحاق به، إما لِما تختزنه افكاره من مكامن، او بسبب افتتانه بالطلائعية وشغفه باستلهام التوجهات الحداثية الجديدة في محاولة لتجاوز تلك البناءات التعبيرية الرصينة في اللوحة التي اشاعت اسمه في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، من اجل مواجهة جمالية جديدة.

الابهام والغموض يدفعان بالمشاهد الى البحث والتغلغل في اعماق عمل صلاح جياد، فهو على ما يبدو يعمل كثيرا على كسر الحدود وتخطي كل عمل يقوم به بانفتاح على الافكار الجديدة، ربما غير آسف على ماض يشاد اليه بقوة ويعتبر جزءا مهما من تراث الفن العراقي المعاصر.

يتهيأ لنا، وفق ما ذكرناه اعلاه، ان صلاح قد تملكته حساسية عالمية صاغتها التيارات الغربية التي يعيش بين احضانها منذ ثلاثة عقود، وانه هو الاخر قد تم احتواؤه كما حصل لعدد كبير من الفنانين العراقيين في المنفى. وهو وإن حاول تخفيف اعتماده على مدلول محدد ورؤية تعكس مفهوما وادراكا خاصا لهذه المركبات التعبيرية، الا ان عنف الصورة المتمثل بخشونتها والتي تحمل تركيزا معنويا ورمزيا يجعل لها لغة خاصة تمتلك نموها الداخلي والذاتي في محاولة لتخطي القيود الموروثة، بل التخلص منها والثورة عليها في محاولة للتعبير عن رغبة في الانعتاق للنمو واتخاذ اللوحة ابعادا جديدة  كي يتيح لنفسه التعرف على ما يمثله من خلال مقابلته بالواقع المرئي واعتماد هيمنة الحدس والمخيلة، وبالتالي هيمنة الرؤية على المعرفة الذهنية واسقاط الحالة الفردية على الطبيعة والانسان، وكذلك على الشيء الممثل. غير ان تراقص الاشكال وصخب الالوان وحضور عناصر معمارية جديدة في بناء اللوحة يجعلنا نكتشف في اعماله الجديدة حضورا قويا لحساسية تجمع بين الخط الذي يحدد الشكل ويتبع اتجاهاته العفوية الخاصة التي اختلطت بها سياقات من الخطوط المتتابعة بشكل منظم واخرى غير منظمة، حيث ضربات الفرشاة المتكررة السريعة بعفويتها تملأ مساحة اللوحة كلها حتى لتبدو في اكثر الاحيان كأنها تعبير عن الم نفسي عميق وشعور بالهواجس، او تخيلات تثير القلق والانقباض لما تحمله من رؤى يسجلها باتجاهات مختلفة، وبرغبة للعودة الى قيم قديمة : خطوط ذات بنية شبكية يولد تناغمها فقط من تشابكها وتنوعها وكثافتها وارتباطاتها بالخلفية الواحدية واحتوائها لها، والوان اصطلاحية لا واقعية تصاحب ذلك التركيز على الخط ، والتشويه كوسيلة للتعبير. وبهذا يتوصل الفنان صلاح الى فضاء شكلي مشوه عنيف اللون، مضطرب، لكنه فضاء متعدد الابعاد. فهو لم يعد يفتش كما كان في السابق عن الكمال المطلق في الشكل التقليدي للجمال الانساني.

لم ينتقل صلاح جياد من الشكلي الى اللاشكلي بشكل حاسم وقاطع، ولم يخلق قطيعة بين التعبيرية الشكلية، التي امتازت بها اعماله السابقة، وبين التعبيرية التجريدية التي اقتربت من عوالمه الفنية الجديدة واختلطت برغبة الاسراع والعصرنة لتكون جوابا على التحولات التي يعيشها الانسان والعالم، بل هو سعي منه الى تقليص التضاد القائم بين الطرفين وايجاد خصائص مشتركة يجمعها موقف واحد من مسائل العصر. وهو السبب الذي يجعله أكثر تلقائية في التعبير والاهتمام بالفكرة التي يجسدها الشكل المبسط ذو الخطوط التي يرسمها بسرعة دون تفكير معمق او تعقيد، فيصبح اللون لا اصطلاحيا، مستقلا عن الصورة الظاهرية التي تأخذ هنا صفة الاشارة ووظيفة أكثر شمولية، يضعه مباشرة على اللوحة دون تحديد مسبق للمساحة التي سيشغلها.

ولكن بالرغم من هذا التشابه في خصائص اللوحة الجديدة والقديمة، فان هناك اختلاف كبير في الرؤية كما في التقنية، ولعل مرد ذلك يعود الى ان التقاليد التي ارتبط بها في السابق تختلف عن تقاليد ما يعاصره الان في تجربته المغتربة الطويلة، فهو لايزال يرص اللون بحكمة الصانع المقتدر ويجعله أكثر اختزالا، ولا يزال متمسكا بالقاعدة البنيوية في التأليف، يتخطى بفضلها تلك العلاقات الداخلية بين مختلف سطوح اللوحة التي تميل الى التوازن وان كانت ذات مواضيع مقلقة.

تبدو بعض الاعمال التي انتجها وكأنها شبيهة بالأقنعة، وكأنها تحمل تكرارا، الا انه يحاول استنفاذ الممكن للوصول الى خلق بعض التباين في اعادة بناء الصورة لا بوجهة النظر التي تقنع المشاهد، وانما ببنيتها الداخلية الخاصة كتجربة حسية غير خاضعة لمراقبة ذهنية. فالقناع هو ستر الوجه، والعلاقة بين الوجه والقناع قوامها المفارقة والتناقض، لا توحد لهما، لا انفصام بينهما، لا ازاحة لأحدهما، والقناع هنا عند صلاح ليس بصيغته التقليدية، بل هو تجسيد لفضاء ربما له علاقة بحالة الفنان الشخصية. فكل عمل فني منجز هو لحظة زائلة، الا ان مثل هذا الزوال يظل شاهدا يمثل معادلا معنويا وروحيا للفنان نفسه.

لايزال صلاح جياد خبيرا متميزا في فن التقنية والرؤية الصحيحة، وانجازه الابداعي يبقى متسايرا بإصرار مع طموحه وانطباعاته النقدية التي يعيشها كمغترب.

عرض مقالات: