قال أبن رشد : إذا كان لم يتقدم أحد قبلنا ، فيجب علينا أن نبتدئ ، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم حتى تكمل المعرفة به.

وقال نيلسون مانديلا :  لا يدافع عن الفاسد إلا فاسد ، ولا يدافع عن الساقط إلا ساقط ، ولا يدافع عن الحرية إلا الأحرار ، ولا يدافع عن الثورة إلا الأبطال ، وكل شخص فينا يعلم عن ماذا يدافع

ما الذي أدى باليسار العراقي الى هذا المنحدر الذي جعله يعيش في أزمة مستعصية لازمته منذ عقود ، ليتراجع الى الدرك الأخير ، بعد إن كان يوماً ما هو الطليعة في قيادة الحركات الوطنية الجماهيرية الثورية ، إذ تكيف اليوم على الحالات السلبية والإتكالية ، ولم  يكترث لما يدور حوله من تطورات ومتغيرات سريعة وأحداث جسام تشهدها الساحة السياسية العراقية ، فبات دوره مقتصراً على ردود الأفعال السريعة والمؤتمرات التي تلوك وتجتر خطابات ومواقف لم تك نافعة اليوم ، ولم يستطع كسر حواجز هذا الإطار " ليرتقي الى درجة الفعل الثوري القادر على التعامل مع الواقع " (1)

 وبدلاً من أن يتجدد ويتطور ، نراه عكس ذلك ، يتمسك بشعارات ومفردات بل وتحليلات كانت قبل خمسين أو ستين سنة صحيحة ، غير أنها لم تعد كذلك اليوم ، الأمر الذي جعل حالة العجز تمتد به لسنوات طويلة ، إنعكست سلباً على مجمل العملية الثورية في العراق والمنطقة أيضاً .

وعندما نحاول تفكيك اليسار العراقي ونضعه على طاولة التشريح ، يتضح لنا دون أدنى شك أنه يعاني اليوم من حالات مرضية تفاقمت خلال العقود الأربعة الأخيرة التي آلت به الى الحالة المأزومة التي يعيشها اليوم ، لنجده في تخبط وعدم توازن ، مما جعله " يسجل الأهداف الخطأ في مرماه ويجيد الأهداف العكسية بطريقة احترافية " (2)

فالمشهد العام لليسار العراقي يوحي بفشله في التحول الى قـوى وقـوّة جماهيرية فاعلة يحسب لها حساب ، ليكتفى بلعب دور النخب الساخطة حيناً والمتحالف على أسس هشّـة وعدم الثقة فيما بين مكوناته حيناً آخر ، فأصبح عاجزاً عن تطوير ممارساته السياسية نحو مزيداً من التجذر في المجتمع ، بل إنتكس نحو مزيداً من الإنغلاق والنخبوية المفرطة ، ليقع في أزمة ثقة متعاظمة فيما بينه من جهة وبين الجماهير من جهة أخرى ، مما أضعفه الى الحد الذي أبعده كثيراً عن مهام التغيير الثوري المنشود ، ليقتنع بفلسفة التبرير .

وفلسفة التبرير هذه باتت ملازمة لنهج غالبية قوى اليسار العراقي المتشضية أصلاً، ودليل على فشلها في عملية التغيير المرجوة التي تعتمد على الحراك الجماهيري الواسع ، هذه الجماهيرالتي كانت  ومازالت تتطلع الى قوى اليسار لقيادة عملية تغيير عميق في المجتمع العراقي ، لتحرير الوطن من مظاهر الإحتلال والتبعية السياسية والإقتصادية ، ويقود الى بناء حضاري يقضي على كل مظاهر الفساد والبطالة والفقر والجهل والتخلف ، إلا إنها بقيت تراوح في مكانها دون أي تقدم يذكر ،  لترمي بكل ثقل فشلها على الظروف الموضوعية .

نعم ، لا يمكننا هنا أن نقلل من دور الظروف الموضوعية التي كانت ومازالت معرقلاً ، نتيجة القمع والإضطهاد والتهميش التي اعتادت أن تسلكها كل الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق ، لكن قوى اليسار العراقي أيضاً فشلت في لملمة صفوفها ورصها في كتلة موحدة ومؤثرة ، بل إنشغلت فيما بينها ، وعمّـقت الخلافات بدلاً من وضع حلول ملموسة وناجحة لتوحيدها ، أو على الأقل للتقارب فيما بينها لتذليل تأثيرات الظروف الموضوعية ، وبهذا يكون المستفيد الأول من تشرذم وضعف اليسار هو اليمين المتنفذ .

وهنا لابد من القول بأن الظرف الموضوعي بالرغم من تأثيره السلبي على مسيرة قوى اليسار العراقي ونضاله ، إلاّ إنه لم يكن العامل الرئيس في أزمته المستفحلة التي يعيشها اليوم ، فأزمة اليسار العراقي هي أزمة ذاتية بالدرجة الأولى ، ومن أهم مسبباتها :

  1. عدم تطوير الرؤية السياسية لمعظم هذه القوى ، وبإمكاننا أن نستثني منها الحزب الشيوعي – لأسباب ممكن مناقشتها في موضوع أخر .
  2. لم تكن هناك مساهمة جادة لدراسة معمقة للواقع العراقي من الناحية السياسية والإجتماعية وحتى الإقتصادية .
  3. ضعف إستجابة الأدوات الفكرية والسياسية والنضالية في خلق مناخ لتغيير الواقع المعاش (3)
  4. عدم إستيعاب حدود الإلتقاء والتباين بين الفكر السياسي اليساري وخاصة الشيوعي وبين الفكر الليبرالي وبالذات الليبرالية الجديدة - نيوليبرالي . (4)
  5. ضعف قدرتها للتحرك جماهيرياً ، مما أدى الى عدم إلتفاف الجماهير حولها وحول أطروحاتها لعدم وضوح معالمها .
  6. الحساسية المفرطة من الحزب الشيوعي - والتي لا مبرر لها - بحيث لا هي قادرة على التحرك بمفردها نحو التغيير ولا هي مستفيدة من الخبرة النضالية والجماهيري للحزب الشيوعي.

7 – عدم الإستفادة من تجارب الشعوب في مجال العلاقات بين الحركات الجماهيرية والشعبية والقوى السياسية .

وجوهر أزمة اليسار العراقي تتمثل في :

أولاً – عدم توفر أو بالأحرى عدم خلق (ظرف ذاتي لقوى التغيير) عن طريق إيجاد قوى سياسية راغبة في التغيير وقادرة عليه ، على شكل تكتل أو تحالف أو جبهة أحزاب وطنية فاعلة ومؤثرة، تشمل كل اليسار العراقي .

ثانياً – " لا يوجد برنامج وطني أو ثوري واضح يحوز القبول العام ، ويشكل أساساً لتكتل إجتماعي وسياسي واسع النطاق " (5) ممكن أن نختصرها بـ ( أزمة الفكر السياسي لليسار العراقي ) التي تمنع البحث عن مشروع سياسي في قراءة التحولات والمتغيرات الجيوسياسية في العراق والمنطقة  .

ثالثاً – بقي اليسار العراقي محصوراً في صفوف الشرائح المثقفة والنخب التي إستهوتها لغته وخطابه السياسي ، ولم  يستوعب روح المجتمع العراقي الذي كان ومازال محتاجاً الى لغة صريحة تعكس مصالحه وعواطفه وأحلامه .

 ولا أريد أن أبتعد كثيراً عن واقع الساحة السياسية العراقية ، للتأكيد على أن الحزب الشيوعي العراقي قد طرح رؤاه بوضوح ضمن مؤتمراته وبرامجه السياسية حول كيفية خلق مناخ ملائم لتذليل العقبات التي تعرقل عملية التقارب فيما بين قوى اليسار العراقي ، وكسر حاجز عدم الثقة فيما بينها ، لكن هذا المسعى إصطدم بمعوقات حالت دون تحقيق الهدف المنشود ، لأن معظم هذه القوى مازالت تعشعش في عقولها الحساسية المفرطة من الحزب الشيوعي كما وضحنا قبل قليل ، ومازالت تعتبر مسعى الحزب الشيوعي لتوحيد قوى اليسار هو مسعى بنوايا الهيمنة عليها والتحكم بها ، مما أدى بها الى التفكك وشبه الإنهيار .

ربما يستشف المتابع من هذا البحث ، بأن هناك حالة ميؤوس منها ، أو أن اليسار العراقي قد أصابه العجز عن إيجاد الحلول الناجعة ، أو أن حبل اليأس والإحباط قد التف على الرقبة .

لسنا بهذا القدر من التشاؤم  ، لأن اليسار العراقي بإستطاعته تجاوز هذه المحنة والأزمات التي جاء بها وخلقها بنفسه . ولكن كيفي لنا أن نأتي بالحلول ونحن مازلنا نتهرب من الإعتراف بأمراضنا ونخجل من تشخيصها ؟ وكيف لنا تجاوز هكذا محن وأزمات مزمنة إذا لم نقر بأن هناك قصور في الوعي ، وهناك أوهام ناجمة عن الجمود العقائدي الشبيه بالصنمية ، وهناك خلل كبير وخطير وإنحرافات تميزت  بمظاهر وظواهر أثرت بطابعها السلبي على مجمل مسيرة وحركة اليسار العراقي .

" لكن بناء الذات اليساري على أرض العمل الجماهيري الواسع والمؤطر والمنظم ، ذو الإمتدادات الوطنية ، وإمتلاك إرادة صلبه فولاذية للتغيير ، وبآفاق رحبة ، كل ذلك سيعكس نفسه ليس فقط على تخطي الأزمة التي يعيشها ، بل سنبدأ في رؤية وتلمس تباشير عملية التغيير على أرض الواقع " (6) والشعب العراقي أنتج الكثير من المفكرين والمنظرين اليساريين المرموقين الذين من الممكن أن يسترشد اليسار العراقي بإنجازاتهم الفكرية والفلسفية ، ناهيك عن التراث النضالي الهائل للشعب العراقي الذي يجب أن نضعة كبوصلة للإتجاه الصحيح نحو التغيير الثوري والتجديد .

جدلية الداخل والخارج :

يحتار المرء فيما آل اليه الوضع العراقي المتردي منذ زمن طويل ، ليضع البلاد اليوم على شفا جرف مخيف ، ولا ندري ماذا تخبئ لنا الأيام المقبلة من رياح يمكن أن تحمله وتقذفه الى الهاوية . وبالرغم من هشاشة الوضع السياسي والإجتماعي ، وخطورة التحركات الأقليمية والدولية وتدخلاتها في الشأن العراقي ، إلا أننا نرى النخب السياسية والثقافية منشغلة بفلسفة ( عراقيي الداخل وعراقيي الخارح ) وساهمت هذه النخب بشكل عفوي أو خبثاً ببث الشكوك حول وطنية عراقيي الخارج ، وأُلصقت بهم تهمة (المتاجرة بالقضية الوطنية ) وعززت هذا التوجه فضائيات وصحف الأحزاب الإسلامية الطائفية المتسلطة والمسيطرة على كراسي الحكم ، لما فيه منفعة كبيرة لها من ناحية وتشتيت شمل اليسار العراقي من جهة أخرى ، مما أفضى ذلك الى تيه قوى اليسار وتخبطها وعدم إستقرارها على أي خط تسير .

فقوى اليسار العراقي خلقت المتاعب لنفسها ، وأخذ كل كيان منه يعمل بشكل فردي ، بالرغم من تفكيره الجمعي عن طريق طرح شعارات شبه موحدة وطروحات متقاربة ، إلا أن تحركاته الفردية ساهمت بإضعافه ، بل تراكمت  عليه المشاكل بدل أن تتراكم عليه التجارب " وبدلاً من التشافي والتعافي ، ذهب الى التشفي والتشظي ، كإنه يثأر من أعدائه وينتقم منهم " .

 وعليه لابد من مراجعة حقيقية لهذه الأزمة ، ولابد من أن تطوّر قوى اليسار العراقي من إدواتها ، "وفي مقدمة هذه الأدوات هي الرؤية الفكرية النظرية التي تقرأ بعمق كل تعقيدات الواقع ، وتعقيدات الواقع لدينا لا يمكن أن نقرأها وفقاً لصيغ وقوالب جاهزة تأتينا دون أن نُعمل العقل والتفكير ، ودون أن نقرأ غنىً وتنوع الخاص لدينا " (7) ودون أن ندرس بعمق مسببات التراجع ، ومتطلبات النهوض . فقوى اليسار عليها أن تقر بأن نضالاتها لابد وإن تنطلق من أنها ليست بديلاُ عن الجماهير في النضال ، فالجماهير هي الصانع الحقيقي للتاريخ .

حيث قال الأولون :  إذا كانت عِلّـتك في بطنك ، فمن أين  تأتيك العافية !

الهوامش :

1– أزمة اليسار العربي ، الى أين  ( جورج حبش )

2 – اليسار .. ما بين تحدي الوجود ، ومتطلبات النهوض – فايز الشريف

3– صحيفة الراكوب السودانية

4 - في أزمة اليسار العربي ، بحثاً عن مشروع سياسي  -- قاسم عزالدين

5 –  نفس المصدر

6 - ما بين تحدي الوجود ، ومتطلبات النهوض -- فايز الشريف – اليسار

7 – فايز الشريف – نفس المصدر