يطالعنا الساسة العراقيون، و"الشيعة" منهم على وجه الخصوص، في مناسبة وغير مناسبة، بعبارات الإشادة والاطراء لمواقف المرجعية الدينية وهي تؤشّر مواطن الخلل في العملية السياسية، وتصوّب ما تراه معوجّا في المواقف الخلافية على وجه التحديد، فضلا عما تسوقه من نصح وارشاد في خطب الجمعة.

 وقد أصبح هذا التوجه السياسي محط ترقّب واحترام عامة الناس وهم ينتظرون تلك الخطب باهتمام نظراً لما تنطوي عليه من ثبات ورصانة ورؤى داعمة لمطالب المنتفضين المشروعة. وما أن تنتهي الخطبة حتى يسارع بعضهم إلى الإشادة بمضامينها والتبشير بما تضمنته من أفكار غنية، ومقاربات موضوعية. وهم يدلون بآرائهم هذه علانية في مؤتمراتهم، وندواتهم، وفي تصريحاتهم إلى القنوات الفضائية والاعلامية، واصفينها بـ (الرشيدة) تارة، وبـ (صمام الأمان) تارة أخرى، كناية عن مواقفها الواعية من مجريات الأحداث في المنعطفات الخطيرة، التي تتطلب منها الإدلاء بدلوها في هذه الاشكالية أو تلك، لا بل إن البعض يطالبها بمواقف أكثر جرأة وأشد وضوحا حيال ما يدور من أحداث وتطورات، ويتمنى عليها الابتعاد عن التلميح. 

وقد اثبتت التجارب العملية، إنّ تصريحات الساسة العلنية هذه لا تمت لقناعاتهم بصلة، انها ليست في حقيقة الأمر إلا لتضليل الرأي العام، وذر الرماد في العيون. فما يرد في تلك الخطب من مفاهيم، ورؤى، وتوجهات منطقية، بعيد عن سياقهم الداعي إلى التشبث بالسلطة وتقاسم الغنائم وإدامة المحاصصة. 

واليوم، ومع حالة الاستعصاء السياسي الناجمة عن التسويف والمماطلة، وما يرافقها من عمليات قتل وترويع وحرق وخطف، فشلت كلها في تحجيم التظاهرات أو الحد منها، يفاجؤننا العديد منهم بالتصريحات عينها، بالرغم من أنّ المرجعية اشتكت أكثر من مرّة معلنة أنّ صوتها قد بُحّ من كثرة تكرار ما تقول، دون جدوى! وكانت المرجعية قد وضعت في واحدة من خطبها، قبل أسابيع، معايير محددة لاختيار رئيس الوزراء الجديد، يقف في مقدمتها (أن يكون رئيس الوزراء شخصية غير جدلية ) ، أي غير متحزب ، ولم يتسنم منصبا سابقا.  وهذا المطلب هو أحد مطالب جمهور المنتفضين،  ولا ندرِي هل مفهوم (شخصية غير جدلية)على هذا القدر من الغموض حتى يختلف فيه فقهاء اللغة والمشتغلين في الفلسفة ؟

قبل أيام خرج علينا مستشار الأمن القومي في كلمة له وهو يتناول هذا المفهوم قائلا: نحن نتعاطى مع مفهوم (جدلي) كما نفهمه ولا نذهب إلى تفسيره، أي هل الشخص المكلف يثير جدلا في المستقبل أم لا؟ في حين إنّ الأمر باختصار يدعو إلى رفض تدوير من تبوأ منصبا في السابق.

 ومع ذلك فهم يصرون على الادعاء أنهم مع طروحات المرجعية الرشيدة ولا يحيدون عنها قيد أنملة! وهذا يذكرنا برهط عمر بن أبي سعد في العاشر من عاشوراء، حين قالوا وهم يدركون أنهم خاذلين للامام الحسين (ع) من دون وجه حق: قلوبنا معك، وسيوفنا عليك.

ما أشبه اليوم بالبارحة حين يعيد التاريخ انتاج نفسه ويختار ضحاياه من أفضل الناس. وما الطف المثل الفرنسي حين يقول أحدهم لكاذب: أنا لا اكذبك ولكن.. لا اصدقك!!

عرض مقالات: