بدت الثورة التونسيّة لأوّل وهلة، في غياب تنظيم يقودها وإيديولوجية تسندها، على غير مثال مقارنة بما نعرف من تاريخ الثورات. ولكنّ الثابت أنّها ما تزال في حاجة إلى تحليل ونظر. والأهمّ من ذلك هو سيرورتها التي تسمّى بالمرحلة الانتقاليّة وخصائصها، إذ تبدو المثال الوحيد الناجي في الربيع العربيّ من الدمار والعنف.

وبعيداً عن التفاؤل والتشاؤم، اختار بكّار غريب، وهو باحث مختصّ في الاقتصاد ومناضل يساريّ، التفكير في أسئلة الانتقال الديمقراطي في تونس، مستلهما مفاهيم وتحاليل للمفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي "التفكير في الانتقال رفقة غرامشي: تونس 2011 - 2014"، تونس، منشورات الديوان، (2017، 239 صفحة، بالفرنسيّة). والسؤال البديهيّ لم العودة إلى غرامشي لفهم الانتقال في تونس؟

في الحاجة إلى غرامشي

يمثّل غرامشي منظّراً استثنائيّاً للثورات باعتبارها أزمات. وقد عرّف الأزمة بأنّها وضع يموت فيه القديم وتتأخّر خلاله ولادة الجديد. وتنتج عنه ظواهر متنوّعة تجمع بينها المخاوف وضروب من الحيرة والقلق. إنّها ظواهر غير صحّيّة وصفت أحياناً بالأشباح. وما المراحل الانتقاليّة إلاّ وجه من وجوه الأزمات التي ينطبق عليها تعريف غرامشي.

وتجد أفكار غرامشي، رغم تراجع الفكر الماركسي عموماً، حظوة لدى دارسين من مشارب مختلفة. وهم يعتمدون مفاهيم نحتها غرامشي أو طوّرها من قبيل الأزمة والهيمنة والثورة السلبيّة والطبقات التابعة والثقافة والكتلة التاريخيّة وغيرها.

وقد بدت هذه المفاهيم ناجعة مخصبة نظريّاً لأنّها ارتبطت في كتابات غرامشي بالتخلّي عن الخطاطات الماركسيّة العامّة وهو يحلّل خصوصيّة الوضع الإيطالي ومشكلته التاريخيّة الشائكة بانقسامه إلى شمال غني مهيمن وجنوب فقير تابع.

وفي هذا تحديداً ما جعل فكر غرامشي راهناً. فهرطقاته، مقارنة بالتصوّر الرسميّ للماركسيّة الذي تبلور مع الأمميّة الثانية، تكمن في نقده للتصوّر الماركسي الوضعيّ القائم على الحتميّة، ممّا منحه شحنة مناهضة للتحجّر الفكري من جهة، ومكّنه من التحليل العينيّ للوضع في إيطاليا بأبعاده المختلفة ومنها الأبعاد الثقافيّة والانتروبولوجيّة والاجتماعيّة من جهة ثانية (ص 232).

الكتلة التاريخيّة في تونس

إنّ هذه الخصوصيّة هي التي دفعت بكار غريب إلى أن يستعيد جهاز التحليل الذي اصطنعه غرامشي. فقد وجد أنّ الحالة التونسيّة بين سنتي 2011 و2014 لا تنفصل عن تشكّل دولة الاستقلال والكتلة التاريخيّة التي حكمت البلاد. فبيّن بتحليل مدقّق أنّ غياب البورجوازيّة الصناعيّة في تونس غداة الاستقلال دفع النخب النيّرة من البورجوازيّة الصغيرة إلى إنشاء كتلة تاريخيّة قوامها قوّة العمل ممثّلة في الاتحاد العام التونسي للشغل والنخب المنحدرة من أصول فلاحيّة وحرفيّة قادت الحركة الوطنيّة ضدّ الاستعمار ثمّ وضعت اليد على جهاز الدولة. وأكثر الفاعلين فيها كانوا من البورجوازيّة الصغيرة المنتمية إلى المناطق الساحليّة. وقد وجدت في رأسماليّة الدولة أداة لخلق الثروة.

ورغم التحوّلات التاريخيّة وتغيير التحالفات في صلب هذه الكتلة وما شهدته من توتّرات فإنّ فهم ما وقع إبّان الثورة وفي فترة الانتقال لا يبعد كثيراً عن هذه النواة المؤسّسة للدولة التونسيّة. فهو يفسّر انقسام البلاد إلى سواحل ودواخل انقساماً يعبّر عن وضع تاريخيّ قديم لم تزده سياسات دولة الاستقلال إلاّ تثبيتاً. لذلك كانت الثورة وليدة الدواخل التي مثّلت تاريخيّا مهد الانتفاضات والثورات. وهي حركات اجتماعيّة تنتهي دائماً باستيعاب السواحل لها.

ولا تبرز قيمة غرامشي هنا في صياغته لمفهوم الكتلة التاريخيّة فحسب، بل تبرز كذلك في تحليله لانقسام إيطاليا إلى شمال وجنوب فضائيّاً على نحو يكشف التحالفات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة.

الثورة السلبيّة

ويرتبط مفهوم الكتلة التاريخيّة في تحليل بكار غريب بمفهوم آخر استمدّه من التصوّر الغرامشي كشف عن خصوبة نظريّة وإجرائيّة في تفسير ما وقع في تونس. فقد وسم الثورة التونسيّة بأنّها ثورة سلبيّة. وهي نوع من الثورات تقترن عند غرامشي بالبلدان التي تمّ فيها تحديث الدولة بسلسلة من الإصلاحات أو الحروب القوميّة دون أن تشهد ثورة راديكاليّة على النمط اليعقوبيّ الفرنسيّ (ص 118) أي دون ثورة شعبيّة. ومن مميّزاتها أنّها لا تهدم علاقات الهيمنة والتبعيّة القديمة بين الطبقات الاجتماعيّة.

والطريف عندنا أنّ بكّار غريب يعتبر دولة الاستقلال أنموذجاً من هذه الثورات السلبيّة جسّدت ذلك بإصلاحات عديدة في مجال المرأة والتعليم والقضاء والصحّة وغيرها ممّا يعدّ اليوم من المكاسب الاجتماعيّة في تونس بما يدلّ على السياسة التقدّميّة التي اتّبعها الزعيم بورقيبة. وهي سياسة كانت مدنيّة غير عسكريّة وعَلْمَنيّة غير تقليديّة ومدينيّة غير ريفيّة (ص 123) بيد أنّها سياسة فوقيّة غير تشاركيّة.

وقد قامت هذه النخب المتنوّرة البانية لدولة الاستقلال مقام القوى الاجتماعيّة، فدفعت الصراع نحو التحديث والتجديد ضدّ الطبقات المهيمنة القديمة ذات النزعة المحافظة سياسيّا (حكم البايات) وإيديولوجيّا (شيوخ جامع الزيتونة).

واستناداً إلى هذا الوصف يمكن فهم ما عاشته تونس خلال المرحلة الانتقاليّة. فهو لا يخرج عن جدليّة الثورة والإصلاح. فلئن كانت المدن الداخليّة هي مهد الثورة ضدّ نظام بن عليّ فإنها لم تستطع فرض مطالبها على المستوى الوطنيّ. ومثّل التحاق النخب المدينيّة الساحليّة المتمرّسة بجهاز الدولة الضربة القاضية لمطالب الدواخل. فما إن انطلق مسار مأسسة الثورة حتّى احتكرت النخب المعارضة القديمة المطالب على حساب نخب الجهات فهمّشتها (ص 149). وهذا التمشّي صورة كاشفة عن الصيغة السلبيّة التي ستتشكّل على أساسها الثورة التونسيّة.

في الهيمنة وأزمة السلطة

ومن البيّن أنّ المشكلة في أساسها تعود إلى مشكلة العلاقة بالسلطة. وهنا يستعيد بكّار غريب مفهوم الهيمنة من الجهاز المفهوميّ لغرامشي. ففي ممهّدات الثورة رأى أنّ الطبقة الحاكمة في عهد بن عليّ فقدت قبول الناس بها ورضاهم عنها فلم تعد طبقة قائدة بل مجرّد طبقة حاكمة لا سند لها إلاّ القوة والقهر. فقوام الهيمنة في تصوّر غرامشي أن تكون للقيادة السياسيّة قوّة ماديّة من ناحية ونصيب كاف من القبول باحتكارها للسيطرة المادّيّة. فالهيمنة رهينة اعتبارات ثقافيّة وأخلاقيّة وذهنيّة (ص 69). فكان سقوط بن عليّ نتيجة لفقدان نظامه مقوّمات الهيمنة على المجتمع التونسي بعد أن أخفق في الجانب الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

أمّا خلال الوضع الانتقاليّ فقد تجسّدت مشكلة الهيمنة في أزمة سيادة الدولة والطبقة الحاكمة، إذ شهدت الدولة انحلالاً سياسيّاً وسعياً في الآن نفسه إلى إعادة تشكيل المشهد السياسيّ. فتطوّرت نزعتان متوقّعتان في مثل هذه الحالات التي يعمّ فيها الشك في كلّ التصوّرات والنظريّات، هما نزعة الاحتجاج والنزعة القطاعيّة الفئويّة.

فقد صاحب انهيار سيادة الدولة ضروب من الاحتجاج مرتبطة بمطالب الجهات الداخليّة الاقتصاديّة والتنمويّة. فخرجت أشباح القبليّة والجهويّة من قمقمها. أمّا المطالب القطاعيّة والفئويّة فهي متّصلة بالنزعة المطلبيّة لدى جميع الفئات الاجتماعيّة المهنيّة بما أدّى إلى تواتر الإضرابات والاعتصامات وقطع الطرقات... إلخ.

رجل العلم ورجل السياسة

ومن البيّن أنّ كتاب بكّار غريب "التفكير في الانتقال رفقة غرامشي" يلبّي حاجة معرفيّة مزدوجة. فهو من جهة برهنة تطبيقيّة على راهنيّة غرامشي وقدرة تصوّراته ومفاهيمه التي صاغها من قبيل الثورة السلبيّة والهيمنة والكتلة التاريخيّة على تفسير ظواهر عديدة. وهو من ناحية أخرى يقدّم تحليلاً لا يخلو من طرافة وتناسق في عمومه للوضع التونسيّ على نحو يكشف بعض آليّات الثورة ومساراتها خلال الانتقال الديمقراطي ضمن خطاطة الأزمة كما حدّدها المفكّر الإيطاليّ.

بيد أنّ وراء هذا المشروع الظاهر في كتاب بكّار غريب يتراءى مشروع سياسيّ أيضا عماده، علاوة على تقديم معرفة نقديّة بالوضع التونسيّ، نقد اليسار في تونس وعجزه عن الفعل التاريخيّ. فرغم الحماس الذي ميّز هذا اليسار خلال الثورة والفترة الانتقاليّة فقد بدا من الناحية التنظيميّة مخفقاً لا يقدر على أن يمثّل قوّة سياسيّة فاعلة. وبدا من الناحية الثقافيّة ضعيفاً فاشلاً لا يستطيع أن ينتج معرفة مخصوصة مدقّقة بالواقع التونسيّ لابتعاده عن التفكير النظريّ رغم تاريخه الحافل خلال الستينيات من القرن الماضي بالإنتاج الفكري الدائر على المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة (ص 238). فهل كان كتاب بكار غريب على سبيل الإسهام في تدارك هذا النقص؟ أم هو شهادة متأخّرة نسبيّاً على غياب الصلة بين النخب السياسيّة والشعب؟

فقد قارن غرامشي منذ مائة عام (سنة 1917 تحديداً)، على ما نقل بكّار غريب، بين رجل العلم ورجل السياسة. فكلاهما عنده ينطلق من فرضيّات بيد أنّ أخطاء رجل العلم أقلّ خطورة من أخطاء السياسيّ الذي يضع حياة الناس موضع خطر. والأهمّ من ذلك أنّ أخطاء السياسيّين تعود إلى "غياب العمق الروحيّ، وغياب الشعور، وغياب التعاطف الإنسانيّ".

إنّه التقاء واجب المعرفة المدقّقة، عند غرامشي، مع الواجب الأخلاقيّ الذي ينبغي أن يتحلّى به رجل السياسة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*روائيّ وأكاديميّ من تونس

عرض مقالات: