برز صندوق النقد الدولي أثر اجتماع برايتون وودز الشهير عام 1944 ليعلن بشكل رسمي تأسيسه في السابع والعشرين من كانون الأول عام 1945 متخذا من العاصمة الأمريكية واشنطن مقرا له. وكان في واقع الأمر تدشينا لمرحلة دولية جديدة تقود فيها الولايات المتحدة الأمريكية النظام الرأسمالي العالمي. وكانت قروض صندوق النقد الدولي خلال سنوات الحرب الباردة اهم وسيلة استخدمتها واشنطن للتأثير في الاقتصادات النامية. وقد تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية بمركز قوة داخل الصندوق، اذ إن لديها القدرة فعليا لنقض قراراته والتأثير فيها بقوة نظرا لسيطرتها على حصة (16,5 في المائة) من اصوات مجلسه التنفيذي.

فصندوق النقد الدولي هو وكالة متخصصة من وكالات منظومة الأمم المتحدة انشئ بهدف تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. ويعتبر صندوق النقد الدولي المؤسسة المركزية في النظام النقدي الدولي، كما يهدف الصندوق الى منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة كما انه وحسب اسمه (صندوق) يمكن ان يستفيد من موارده الأعضاء الذين يحتاجون الى التمويل المؤقت لمعالجة ما يتعرضون له من مشكلات في ميزان المدفوعات ودعم سياسات التصحيح والاصلاح الرامية الى حل مشكلاتها الأساسية. وبوسع أية دولة عضو في هذه المؤسسة ان تقترض من الصندوق اذا ما واجهت مشكلة في المدفوعات مع بقية الدول، حيث يبلغ عدد اعضاء الصندوق (189) عضوا والتي من خلال حصصها يستطيع الصندوق ان يقرض الدول المتأزمة وتبعا لحجم الحصص الذي يعتمد في الأساس على الحجم الاقتصادي للبلدان الأعضاء فإنه يتحدد عدد الأصوات المخصصة لكل بلد عضو وحدود الاقتراض التي يوفرها له.  ويتكون المجلس التنفيذي للصندوق من 24 عضوا.

عند قيام صندوق النقد الدولي بإقراض الدول فإنه يفرض العديد من الشروط التي يراها مناسبة لاقتصاد هذه الدول قويا كان او ضعيفا. ويمكن ان نطلق عليها الوصفة الجاهزة للصندوق، وكثيرا ما الحقت هذه الوصفة الأضرار باقتصاد الدول المقترضة. فهل الاقتراض من صندوق النقد الدولي عبودية أم نهضة اقتصادية؟

هناك دول تخلت عن التعامل مع صندوق النقد الدولي ونهضت بنفسها، وهناك دول استعانت به فماذا كان مصيرها؟

بعض الدول عندما يزداد وضعها الاقتصادي سوءا تلجأ الى الاقتراض من الصندوق والذي يفرض العديد من شروطه القاسية على الدولة المقترضة. فعلى سبيل المثال خاضت اندونيسيا تجربة الاقتراض من صندوق النقد الدولي مثل كثير من الدول، لكن الحكومة قامت بتطبيق سياسة حكيمة خلصتها من الديون مع رفضها الشديد لتكرار تجربة الاقتراض من الصندوق والتي قامت بها بسبب ظروفها الاقتصادية حيث دعا الرئيس الاندونيسي (جوكوا ويدودو) في نيسان 2015 دول العالم الثالث الى عدم الاعتماد على مؤسسات التمويل الدولية وتحديدا صندوق النقد الدولي مشيرا الى ان بلاده سوف لن تخضع الى هذه التجربة مرة اخرى وتبحث عن سياسات اقتصادية بديلة في حالة تعرضها للأزمات المالية.

اما بالنسبة الى اليونان فقد وقعت ضحية أزمة النظام الرأسمالي العالمي والمصارف العالمية والاحتيال الحسابي المصرفي والاستهلاك المفرط وسوء ادارة موازنات الدولة والفساد المتعدد الأبعاد  وفرض اصحاب رأس المال سلطتهم على حساب السلطة السياسية، وعانت اليونان تفاقم ازمة مالية خانقة اجبرتها على تنفيذ حزمة اجراءات تقشفية متطرفة وجاهزة طالت رواتب موظفي القطاع العام والمتقاعدين وفرضت ضرائب على المحروقات والسجائر والمشروبات الروحية، ما ادى الى ركود الاقتصاد وانخفاض حجم الناتج الوطني اليوناني وارتفاع البطالة الى (16,5 في المائة) في عام 2011، وعوضا عن تحقيق النمو الاقتصادي، دخلت  اليونان في دوامة تراكم الديون السيادية والفوائد المستحقة، وتحولت الى حقل تجارب اقتصادية لصندوق النقد الدولي الذي سبق وان فشل في الماضي في حل الأزمة الأرجنتينية 1999 – 2001 .

وفيما يتعلق بروسيا فقد بدأت الاقتراض من صندوق النقد الدولي في نهاية عام 1991 من اجل الانتقال السريع الى اقتصاد السوق عن طريق ما يسمى بوصفة صندوق النقد الدولي حيث رفع الدعم وتم تحرير الأسعار وخصخصة ممتلكات الدولة واعادة النظر في الضمانات الاجتماعية للمواطنين. ومع بداية عام 1992 بدأت روسيا بتحرير 90 في المائة من اسعار التجزئة والجملة وتحرير التجارة الداخلية والخارجية مع تراجع الانتاج الصناعي بنسبة 18 في المائة وارتفاع اسعار السلع 26 مرة عما كانت عليه. ومع انخفاض الانتاج وارتفاع معدلات التضخم ادى ذلك الى ازمة كبيرة فاضطرت الشركات الى ان تتعامل بالمقايضة مع معاناة المواطنين من تدهور المستوى المعيشي وضياع مدخراتهم المودعة وانخفاض قيمتها بشكل كبير.

كذلك فرض صندوق النقد الدولي شروطه على العراق الذي بدأ الاعتماد على قروض صندوق النقد الدولي بسبب العجز الكبير في موازنات البلاد وسوء الادارة ونهج المحاصصة والطائفية وانخفاض اسعار النفط وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على الايفاء بالتزاماتها المالية وعجزها عن تحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد. وكانت شروط صندوق النقد الدولي صعبة على العراق حيث طالب بإيقاف التعيينات (والتي كان من نتائجها ما نشاهده اليوم من انتفاضة جماهيرية كان من احد اسبابها تفشي البطالة والفقر والفساد الكبير) اضافة الى شرط اخر لصندوق النقد المتمثل في رفع الدعم وتوسيع القاعدة الضريبية للأجور وزيادة تسعيرة الكهرباء وفرض ضرائب على رواتب الموظفين ورفع اسعار الوقود والغاء البطاقة التموينية وغيره من الشروط المجحفة والمؤلمة بالنسبة للعراقيين الذين يعانون الأزمات. وبهذا الصدد فقد اشار الحزب الشيوعي العراقي في برنامجه الى (عدم كفاية ايرادات الموازنة والارتفاع في المديونية الخارجية والداخلية والانخفاض في الاحتياطي الرسمي من العملة الأجنبية ولجوء العراق الى توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي  لإقراض العراق ( 5,4 ) مليار دولار بنسبة فائدة سنوية قدرها ( 1,5 في المائة) اضافة الى مساعدة الصندوق العراق على حيازة مزيد من القروض قد يصل مجموعها الى 18 مليار دولار على ان تلتزم الحكومة العراقية بتنفيذ حزمة من السياسات الاقتصادية والمالية والتي تهدف الى تخفيض الانفاق الحكومي بما يتوافق مع الانخفاض في الايرادات النفطية، ما يعني تقليص الانفاق في مختلف ابواب الموازنة وخفض الاعانات الحكومية وزيادة ايرادات الموازنة بفرض مزيد من الضرائب والرسوم . حيث تشكل هذه الاجراءات اعباء معيشية اضافية على المواطنين وتكون ثقيلة على الكادحين بشكل خاص وذوي الدخل الواطئ والشرائح الوسطى في المجتمع. وشخص الحزب الشيوعي العراقي ان تنامي المديونية سيرفع من اعباء خدمة الدين وان استمرار البنية الحالية للموازنة والطبيعة الاحادية للاقتصاد العراقي وضعف قاعدة الانتاج الوطني وعدم القيام بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية، كل هذا يجعل استمرار الحاجة الى مزيد من القروض محتملةً وستترتب على ذلك مصاعب جدية في تمويل النفقات العامة كما ستكون له تداعيات على ميزان المدفوعات وسعر صرف الدينار والتضخم وتوزيع الدخل. وتقوم الحكومات المتعاقبة بالتعتيم على الالتزامات والشروط المصاحبة لقروض صندوق النقد الدولي ومن تأثيرها. علما ان شروط الصندوق الدولي ووصفاته في السياسة المالية ذات وجهة ليبرالية تشدد على تحرير السواق وتضييق دور الدولة الاقتصادي الى اقصى حد وتقليص وتفكيك القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص ودمج اقتصاد البلاد بالأسواق العالمية ..).

ان تجارب الدول التي تحصل على قرض صندوق النقد الدولي تسير في طريقين:

الأول , ان تضع خطة لسداده دون ان تتحول الى الرأسمالية التي تهدد حقوق المواطن والدعم .

الثاني: هو انهاك اقتصاد الدولة حتى يتحول الى شبح يطارها وعجز الدولة عن سداد الدين وفوائده لتستسلم لقروض اوسع لسحق المواطن.

بالنسبة للبرازيل ففي بداية الثمانينات اقترضت مليارات جديدة لسداد القروض القديمة حيث سددت في اربع سنوات بدءا من 1985 (148 مليار دولار) اكثر من نصفها عبارة عن فوائد قروض اجنبية وقد استسلمت البرازيل لحلول صندوق النقد الدولي فسرحت ملايين العمال وخفضت اجور الاخرين لعلاج التضخم المالي، والغت التغذية المدرسية للطلاب وسمحت لدول اخرى بالتدخل في سيادتها مقابل القروض حتى ان مندوبي البنك الدولي فرضوا مواد على الدستور البرازيلي اشعلت احتجاجات اهلية. وفي التسعينات سددت البرازيل القروض بالكامل الا انها لم تنج من الآثار الجانبية فظل 20 في المائة من البرازيليين يمتلكون 80 في المائة من اصول الممتلكات. وما جرى على يد صندوق النقد هو اعادة تقسيم للثروة من جديد وهبط الملايين اسفل خط الفقر، حيث ان نصف الشعب يتقاضى اقل من 80 دولارا شهريا وتسرب الأموال الى جيوب فئة قليلة من الشعب .

كما كان لصندوق النقد الدولي دور تخريبي في (غانا) حيث اقنع هذه الدولة بإزالة التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية مقابل منحها القرض ما ادى الى غرق السوق بالسلع والمنتجات الاوربية وتضرر المزارعين الغانيين لأن اسعار الواردات اقل من نصف السعر المحلي وبذلك خسر المنتج المحلي وادى الى خسارة العملة الصعبة وعدم توفرها وواجه الاقتصاد تضخما اقتصاديا وهو ما ادى الى انهيار الاقتصاد الغاني تماما.

كما تأثرت تايلند بشروط صندوق النقد الدولي وهبوط عملات معظم دول جنوب شرق آسيا وانخفاض اسواق الأسهم وتراجع اسعار الأصول الاخرى مع ارتفاع حاد في الديون الخارجية وهروب عنيف لرؤوس الأموال ما ادى الى ازمة ائتمان وحالات افلاس مصرفية لتصبح ازمة مالية اقليمية تمكنت من دول تايلند واندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية بشكل اكبر اضافة الى تأثر باقي دول المنطقة. وفي ذلك الوقت عرض صندوق النقد الدولي خدماته وتشجيع الدول النامية في آسيا على السير في طريق (رأسمالية المسار السريع) والتي تعني تحرير القطاع المالي عن طريق الغاء القيود المفروضة على تدفقات رأس المال والحفاظ على ارتفاع اسعار الفائدة المحلية لجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال المصرفية وربط العملات الوطنية بالدولار لطمأنة المستثمرين الأجانب ضد مخاطر تلك العملات. وكان دعم صندوق النقد الدولي لتلك البلدان مشروطا بتنفيذ سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية او ما يعرف بـ (حزمة التكيف الهيكلي 9 المعروفة اختصارا ((SAP  والتي قبلتها تايلند واندونيسيا بينما رفضتها ماليزيا. وفي آب عام 1997 اعلن الصندوق حزمة انقاذ لتايلند قيمتها اكثر من 17 مليار دولار بشرط تنفيذ الـ (SAP )  حيث وافقت تايلند من فورها وبدأت  بعمليات تسريح كبيرة للعمال في مجالات التمويل والعقارات والبناء وتصفية اكثر من 55 مصرفا مفلسا وتخفيض المصروفات الحكومية وغيرها من الاجراءات العنيفة . وتبعت اندونيسيا تايلند التي قبلت ايضا شروط صندوق النقد الدولي بعدما اعد لها الصندوق حزمة انقاذ بقيمة 23 مليار دولار وقامت بتنفيذ شروطه.

اما بالنسبة الى ماليزيا فقد رسمت مسارها الخاص للخروج من الأزمة الآسيوية بعيدا عن برامج صندوق النقد الدولي رغم حاجتها الماسة لقرض الصندوق. وكانت ماليزيا ترى ان سياسيات صندوق النقد الدولي لا تلائم الأوضاع الاقتصادية الماليزية وقد أعلن رئيس الوزراء الماليزي آنذاك (مهاتير محمد) عام 1998 تغييرا كاملا للسياسة الاقتصادية وادخال برنامج انعاش اقتصادي وطني وهي سياسة معاكسة تماما لسياسة صندوق النقد الدولي في البلدان المجاورة. وأدت سياستها الى تحقيق النمو الاقتصادي حيث كان الحصاد الأخير هو ديون اقل من جاراتها واستقرار كبير في النظام المالي بينما تدهورت الأحوال الاقتصادية على الجانب الآخر لكل من تايلند واندونيسيا عقب حصولهما على قرض صندوق النقد وتنفيذ شروطه ما ادى الى الركود الاقتصادي وتراجع النمو بدرجات كبيرة وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على الكثير من اصول البلدين.

فالحصاد والنجاح يكون دوما في البعد عن صندوق النقد الدولي. وان الحصول على قرض صندوق النقد الدولي ليس حلا للخروج من الأزمة الاقتصادية حيث ان القروض ما هي الا زيادة لمديونية الدولة لأنها تغطي العجز المالي فترة قصيرة جدا اذا لم تضع الدولة حلولا حقيقية لإنهاء الأزمة كاتباع سياسات اقتصادية صحيحة فلا يمكن لدولة ان تعيش على المنح والقروض ولا بد للدولة من فتح باب الصناعة وزيادة الاستثمار والانتاج.