المحور الاول: دولة الرفاه.. تعريف المفهوم
على الرغم من الدراسات الكثيرة والأبحاث المتنوعة التي ركزت على مفهوم الرفاه الانساني، الا إن هذا المفهوم لا يزال مجالاً مهماً للبحث والدراسة. ولم تتوصل تلك الدراسات الى تعريف واضح ومحدد لمفهوم " الرفاه " وذلك لاختلاف الأهداف المرتبطة بالتعريف وتنوع الجهات التي تقوم بتحديده من جهة، واختلاف المجتمعات وتقاليدها من جهة أخرى.
فمن التعريفات الدارجة لمفهوم الرفاه الانساني هو " قدرة الفرد على العيش بطريقة طبيعية والقدرة على تحقيق الاهداف والانجاز في الحياة " وتطور مفهوم الرفاه بمرور الوقت وكثرة الدراسات حوله.
واحتل الجانب الاقتصادي وخاصة ما يتعلق بالاستهلاك الجزء الأكبر من مكونات معظم المقاييس المستخدمة في قياس الرفاه. وعلى الرغم من أهمية الدخل، الا إن حصر قياس المستوى المعيشي لا يتحدد من خلال المواد التي تستهلكها الاسرة فقط، ولكن يتحدد من خلال عوامل أخرى على قدر كبير من الاهمية كمستوى التعليم للأفراد في الاسرة، وبيئة المسكن، والانفاق على الصحة والجوانب الترفيهية، ومستوى البطالة بين افراد الاسرة. اذ إن رفاه الأسرة يرتبط بمجموعة متشابكة من المؤشرات التي تساهم في تحديد المستوى المعيشي للأسرة.
ويمكن تعريف الرفاه بانه " الامكانات في المجتمع التي توفر الحاجات والفرص لتحقيق طموحاته وأهدافه ضمن المحددات الثقافية والقيمية والمادية في المجتمع" (1)
إما الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" فتعرف الرفاه على أنه " مصطلح عام لحاجة فرد أو جماعة، من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والروحية. (2)
وتعرف مؤسسة الاقتصاديات الجديدة الرفاه بانه: "تلك الحالة التي يكون فيها الفرد مستعداً لتطوير ورفع انتاجيته و قدراته على الابتكار وبناء علاقات قوية وايجابية مع الآخرين وقدرته على المساهمة في تطوير مجتمعه".
وأشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في عام 2011 الى أن معظم الخبراء والافراد العاديين سيوافقون على أن الرفاه الانساني يمثل الحالة التي يستطيع الفرد عندها تحقيق احتياجاته المختلفة والتي تكون بعضها ضرورية جداً، ويشمل تعريف الرفاه القدرة على تحقيق الأهداف الشخصية وأن يكون الفرد مكتفياً وراضياً عن ظروف حياته. (3)
وحددت المنظمة أعلاه ثلاثة أبعاد رئيسة للرفاه هي:
- الظروف المعيشية المادية أو ما يمكن تسميته "الرفاه الاقتصادي": الذي يحدد الامكانيات الاستهلاكية للأفراد التي تسهم في تشكيل الفرص الحياتية لهم.
- نوعية الحياة، أي مجموعة العناصر غير المالية للأفراد التي تسهم في تشكيل فرص الحياتية لهم.
- الرفاه المستقبلي أو ادامته، وتعني إدامة الانظمة الاجتماعية – الاقتصادية والطبيعية حيث يعيش الناس ويعملون والتي تعتبر ذات أهمية كبيرة لاستدامة الرفاه عبر الزمن.
ثم طورت مؤسسة (Gallup – Healthway) مقاييس الرفاه لتأسيس احصاءات رسمية حول الرفاه في الولايات المتحدة الأمريكية ويبين التقرير الدي قدم بموجبه ان التعريفات التاريخية للرفاه أخدت مسارين، الاول تضمن مقاييس تقليدية كالدخل والناتج المحلي الاجمالي وتوقع الحياة ووقت الولادة ومعدلات الفقر، في حين تضمن الثاني المقاييس السيكولوجية والذاتية لمعرفة شعور الناس نحو حياتهم.
المحور الثاني: الدستور الأمريكي.. من الذي يحصل على الامتيازات السياسية؟
يتحدث مايكل بارنتي وهو كاتب أمريكي من أصول ايطالية واستاذ للعلوم السياسية في كتابه " ديمقراطية للقلة " عن إن الرجال الذين اجتمعوا في فيلادلفيا عام 1787 لكتابة الدستور بذلوا قصارى جهدهم لإقامة حكومة قوية مركزية وكانوا يتفقون مع آدم سميث ويساندون مقولته في إن " الحكومة انما قامت للدفاع عن الأغنياء ضد الفقراء، وانها تنمو بامتلاك المزيد من الممتلكات القيمة ".
ففي الوقت الذي يتحدث فيه بعض الأمريكيين عن ان دستور بلادهم أسس على أساس انه يحد من تحكم السلطات السياسية ويكبح جماح أي تعسف أو إساءة لممارسة السلطة يستطيع المتتبع لهذا الشأن أن يثبت عكس ذلك.
والحقيقة هي تلقي أصحاب النفوذ منذ الايام الاولى التي خضعت فيها البلاد للاستعمار هبات من الاراضي الشاسعة، منحها إياهم التاج البريطاني، حيث كان الملك الانجليزي يتصرف في الأرض الامريكية كتصرفه بأرض انجلترا، وفق القاعدة التي ينص عليها القانون الانجليزي والتي تقضي " بان الارض التي لا مالك لها تعتبر ملكاً للملك " (4)
وبحلول عام 1700 كان أقل من عشرة أشخاص يملكون ثلاثة أرباع الأراضي في نيويورك. وبعد ستة عقود لا أكثر كان أقل من خمسمائة شخص في خمس مدن من الولايات الخاضعة للتاج البريطاني يسيطرون على معظم أعمال التجارة والشحن والبنوك والتعدين والصناعة في الشاطئ الشرقي.
وبين الاعوام 1776 – 1787 أصبح كبار ملاك الأراضي والتجار وأصحاب البنوك يمارسون نفوذاً قوياً على الحياة السياسية بل ويسيطرون في الكثير من الأحيان حتى على الصحف المحلية التي كانت تعبر عن افكار ومصالح التجارة. واستمرت سيطرة الطبقة العليا على الحياة العامة والتي ميزت جيل الآباء المؤسسين طوال القرن التاسع عشر، وما يؤكد ذلك شكوى الرئيس جيفرسون (الرئيس الثالث للولايات المتحدة 1801 – 1809) من أرستقراطية الشركات التي تمتلك المال وتعلن تحديها القوانين المعمول فيها بالبلاد. (5)
وفي القرن العشرين ظلت مصالح الأثرياء تتطلع الى الحكومة الفيدرالية لكي تقدم لهم ما عجزوا عن تحقيقه هم. فقد تمثلت مصالحهم وطموحاتهم في كبح جماح القوى الديمقراطية وتدعيم عملية تراكم رأس المال، ففي الفترة الممتدة بين عام 1900 – 1916 والمعروفة باسم (الحقبة التقدمية: والتي يقصد منها التعديل السادس للدستور الأمريكي والذي شرع قانوناً خاصاً بالسيطرة على الاحتكارات والذي حظي بدعاية كبيرة رغم انه لم يكن بفاعلية دعايته، وخلال عام 1915 كانت عدة ولايات قد أصدرت قوانين تحدد طول ساعات العمل وتوفير تعويضاً للعمال في حالة الاصابة بحوادث العمل، واصدار قوانين تحدد الاجور الدنيا للعمال وقوانين بشأن الاطفال وتحدد السن التي يمكن فيها استخدامهم للعمل وساعات عملهم أيضاً) خلال هذه الفترة تم البدء بوضع أسعار وتنظيمات للسوق لصناعات مثل (تعليب اللحوم، والأطعمة، والعقاقير، والبنوك، والاخشاب، والتعدين ) وذلك بضغوط من قبل الشركات الكبرى والقوية ضمن هذه الصناعات، ونتيجة لذلك زادت الأرباح بالنسبة للمنتجين الكبار حجماً، واحكام سيطرتهم على الأسواق واخراج المنافسين الأصغر من السوق.
وخلال هذه الفترة أيضاً تعاون الرؤساء في منصب الرئاسة تعاوناً وثيقاً مع مؤسسات الأعمال الكبرى فمثلاً " تيودور روزفلت " الذي اطلق عليه لقب " محطم الاتحادات الاحتكارية " كان كثيراً ما يتهجم لفظياً في بعض الأوقات على من كان يصفهم " بأشرار الثروات الكبرى " ولكن مقترحاته الرئيسة كانت تعكس برنامج عمل الشركات الكبرى بالإضافة الى معاداته الشديدة الاتحادات العمالية والإصلاحيين حيث كان يصفهم بانهم فئة تبحث عن الفضائح لدى ذوي الشأن.
كما لعبت الحرب العالمية الأولى دوراً في تقريب الصناعة والحكومة احداهما من الأخرى بصورة أوثق، فقد تم تحويل قطاعات من الصناعة الى الانتاج الحربي وحسب الاسس التي اقترحها أقطاب مؤسسات الأعمال، وبعض من هؤلاء احتلوا مواقع تقدمية في رئاسة الهيئات الحكومية المسؤولة عن التعبئة الدفاعية، وبقيام الحرب العالمية الثانية اتحدت مؤسسات الاعمال والحكومة اكثر من ذي قبل، وبفضل وجود رجال الاعمال في المناصب الحكومية العليا تمكنوا من فرض شروط الانتاج الحربي وتجميد الاجور مما رفع الأرباح الى مستويات عالية. وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية بيعت آلاف المرافق التي تملكها الدولة باعتبارها فائضاً حربياً لقاء أسعار زهيدة جداً تقل عن قيمتها الفعلية.
باختصار.. تم تصميم وكتابة هذا الدستور عن وعي وقصد بالتأكيد ليحمي الأقلية المستفيدة منه، وتقاوم ضغط التيارات الشعبية، أما الحرية بالنسبة للمؤسسين والواضعين له فقد كانت تعني شيئاً مختلفاً عن الديمقراطية، كانت تعني حرية الاستثمار والمضاربة والمتاجرة وتجميع الثروة بيد قلة دون أي تجاوزات او محاولات لانتهاك تلك الحرية من جانب عامة الشعب. وليس اوضح مما قاله شارلز بيرد حول هذا الموضوع من إن " المصالح الطبقية لواضعي الدستور هي التي كانت تحركهم "، والأهم من ذلك هو أن هذا الدستور لم يطرح قط للتصويت الشعبي، بل تم ابرامه في مؤتمر يتألف من اعضاء ينتسبون غالباً الى الطبقة الغنية، التي انتسب اليها المؤسسون.
المحور الثالث: فـــقراء أمريكا والرفاهية المزعومة
يقال للأمريكيين انهم أكثر شعوب الارض رفاهيةً، ولكن الحقيقة انه من بين الدول الصناعية الرئيسة الكبرى، تحتل الولايات المتحدة مراتب متأخرة لمتوسط طول العمر، ولديها نسب عالية جداً في معدلات الفقر، ومعدل وفيات الاطفال ومعدل عال جداً لوفيات الشباب بسبب حوادث القتل وغير ذلك من انماط العنف.
كما تشير تقارير صادرة عام 2000 مثلاً الى أن هناك ثلاثة عشر مليوناً من الأطفال الامريكيين يعيشون في حالة فقر، وهي اعلى نسبة مما كانت عليه قبل 20 عاما، ويقول ذوو الاختصاص أن تدني الاجور وارتفاع تكاليف المعيشة هي من الاسباب الرئيسة لفقر الأطفال. كما أن أماً عاملة لديها طفلان وتحصل على 15 الف دولار سنوياً تدفع نسبة ضرائب كل سنة اكثر مما يدفعه عدد من الشركات المتعددة الجنسيات، وعلى الرغم من ان هذه الشركات تتفاخر امام حملة اسهمها بتحقيق ارباح قياسية فأن 60في المائة من الشركات الكبرى لا تدفع ضرائب على دخولها كما يفيد تقرير مكتب المحاسبات العامة، وهو الهيئة التي تقوم بالتحريات للكونغرس الامريكي.
ومثال على ذلك التقرير الذي بثته قناة الحرة، عن التباين بين الطبقات الغنية والمتوسطة الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية تظهر ماريا، وهي أمريكية في عقدها الرابع وأم لثلاثة أطفال. تغادر ماريا منزلها في الصباح الباكر للتوجه إلى المركز التجاري حيث تشتغل كعاملة نظافة. وتعمل ماريا، لساعات طوال حتى تتمكن من مساعدة زوجها العاطل عن العمل منذ الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة سنة 2008.وترفض ماريا الإفصاح عن الأجر الذي تتقاضاه لقاء عملها، لكنها تشير في المقابل إلى شعورها بالعجز أمام تنامي مطالب أطفالها وعدم قدرتها على تلبية احتياجاتهم. وتقول "لولا مساعدة بعض الجمعيات التي أقصدها وزوجي للحصول على المؤونة الأسبوعية والخدمات الصحية لما استطعنا العيش." لتنهي حديثها بالقول: " أخاف أن يسقط أبنائي في فخ الجريمة والمخدرات نظرا للتناقضات الصارخة بين نمط عيش ذوي الدخل المحدود وجيرانهم في الضفة الأخرى ".
ولأن الاعلام ومؤسساته المختلفة والتي تسيطر عليها الرأسمالية بأذرعها المختلفة ينقل فقط ما يحلو له ويخدم مصالحه، فقد تعلم الناس على الخوف من الجرائم التي تصورها الأفلام والبرامج التلفزيونية والتي تركز مثلاً على ضحايا الاسلحة اليدوية والتي ظهرت في احد التقارير بانها تودي بحياة 15000 إنسان سنوياً، بينما لم ينقل هذا الاعلام او يقل كلمة واحدة حتى عن وفاة 60000 انسان سنوياً بسبب ظروف العمل غير الآمنة من أمراض ناجمة عن العمل أو مواقع لا يتوفر فيها الجو الصحي والآمن.
كما ان حوادث السرقة والسطو تكلف البلاد حوالي 4 مليارات دولار سنوياً، بينما تكلف عمليات الاحتيال التي تقوم بها الشركات الكبرى ما يزيد على 200 مليار دولار سنوياً.
اضف الى ذلك أن 25 مليون شخص في الولايات المتحدة الامريكية يعيشون فوق خط الفقر مباشرة، وهم في حالة فقر شديد، اذ ليس لديهم تأمين صحي، ولا يملكون المال الكافي لدفع فواتير الخدمات العادية لمنازلهم، لتصل في بعض الاوقات الى مرحلة انهم لا يستطيعون تأمين طعامهم. فأصحاب رؤوس الاموال واللاعبين الرئيسين في كل مفاصل الحياة لا يخجلوا من أن يعلنوا وبصوت عال عن غايتهم الأسمى المتمثلة بالربح، وما صرح به احد أقطاب الصناعات الغذائية عندما سئل ماذا يمكن أن يفعلوا أزاء الجوع واسع الانتشار في بعض الولايات الأمريكية قال (اننا سننظر في هذا الأمر اذا بدت لنا ادلة تثبت ربحيته)!!.(6)
وبعد الأزمة العالمية في 2008 زادت أوضاع فقراء الولايات المتحدة بؤساً، حيث لاحظت جمعية "بريد فور ذي سيتي" التي تقدم الدعم في مجالي الغذاء والصحة لضعفاء منطقة واشنطن ارتفاعا يتراوح بين 10في المائة و15 في المائة في عدد الأشخاص الذين يلجؤون إلى خدمات مركزيها، بعد قرار الكونغرس عدم تمديد الزيادة المطلوبة في برنامج المساعدات الغذائية والتي كانت تهدف إلى الحد من تداعيات الانكماش الذي شهدته البلاد بين 2008 و2009. وحسب مدير العلاقات العامة في الجمعية براين بانكس، فإن غالبية الأشخاص الذين يستفيدون من خدمات المؤسسات الغذائية يعملون بدوام كامل. (7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:-
- مؤشرات قياس الرفاه الانساني، كمال صالح، المعهد العربي للتدريب والبحوث الاحصائية، 2014.
- الموسوعة العالمية الحرة " ويكيبيديا ".
- مؤشرات قياس الرفاه الانساني، مصدر سابق.
- مقدمة في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية الحديث من الاكتشاف الى الاستقلال، د. هاشم صالح التكريتي.
- ديمقراطية للقلة، مايكل بارنتي، ترجمة: حصة المنيف.
- تقرير لقناة الحرة متاح على الرابط
https://www.alhurra.com/a/us-middle-class-income-inequality/238858.html