خامساً: عوامل تنظيمية:

 تتعلق بقدرة الدولة على وضع القوانين والتشريعات خاصة ما يتعلق منها بتشكيل الاحزاب وتهيئة الظروف الادارية للانتخابات سواء الامنية منها أو تدريب الكوادر على تيسير وتنظيم العملية الانتخابية ونشر مراكز الاقتراع بحيث تكون قريبة من التجمعات السكانية، وتحديث سجل الناخبين والقيام بحملات التوعية التي تبصر الناخب بأهمية صوته وتمكنه من ممارسة عملية التصويت بيسر وسهولة.

ومن هنا تعتبر المشاركة في الانتخابات أول الطريق إلى الديمقراطية وهي من أبرز المظاهر السياسية في العصر الحديث لأنها تسمح بالتعددية حيث تنمو الاتجاهات السياسية للناخب وتطور وأحياء روح المواطنة وتفعيل دور الفرد في بناء المجتمع، ما يستلزم بناء ثقافة انتخابية وزيادة وعي الفرد بحقوقه السياسية وقدرته على إحداث التغيير في السياسات العامة في الدولة، فالناخب: هو شخص يملك الاهلية ويدرك المسؤولية الملقاة على عاتقه ويشارك بشكل مباشر أو غير مباشر في العملية السياسية في وطنه.

وقد يكون هناك اتجاه سلبي حيال الانتخابات نتيجة (الفوضى الانتخابية)(1) في الترشيح وعدم وضوح الرؤية وأزمة الثقة بين الناخب وبمن يمثله أو خطاب وسلوك بعض الجهات السياسية التي لا يشعر بأنها تمثله، وكثرة الانتخابات وعدم وجود نتائج ملموسة لها، كما يسهم الدين في سلوك الناخبين وتغيير توجهاتهم، حيث تؤثر الميكانزمات المتبعة في المجتمع سواء الدينية او الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية والدينية في سلوك الناخب حسب الأطر المرجعية المرتبطة بها، فالفرد يغير اتجاهه نتيجة اتساع علاقاته وتراكم خبراته وتبدل أحواله ويشعر بضرورة  تعديل بعض اتجاهاته لتلبية الحاجات المتجددة نتيجة المتغيرات التي يمر بها، فالاتجاه يمثل" تنظيما لثلاثة مكونات (معرفية- وجدانية – سلوكية) والارتباط في ما بينها بعلاقة قوية تعكس مدى تفكير الاشخاص وشعورهم وسلوكهم نحو أي موضوع من الموضوعات "( ) ، أي التفاف الناخب حول فكرة يضنها تمتلك الحد الادنى من الاقناع الذي يبرر اقتناعه بها، ما يولد ثلاثة اتجاهات مميزة في السلوك الانتخابي هي :

سلوك مؤيد للانتخابات

سلوك معارض للانتخابات

سلوك محايد للانتخابات

وفي المجتمعات التي تشهد تجربة ديمقراطية جديدة تشهد في الوقت نفسه حراكاً وحيوية فتكون في صيرورة دائمة فهي كائن لم يكتمل نموه وما يزال برسم التغيير والتطور نتيجة تغير المفاهيم ودخول مفاهيم لم يألفها قد تتفق أو تتعارض، أنه نتاج للتفاعل الاجتماعي، يتم خلقه بصورة مستمرة. فالناس يقومون باستمرار بإعادة تعريف الموقف الاجتماعي من خلال تفاعلاتهم مع بعضهم البعض" ( 2)

وقد يحكم السلوك الانتخابي الثقل العشائري كمحدد رئيسي لفوز المرشح مع تزايد النفوذ العشائري والقبلي على حساب سطوة القانون خاصةٍ في المجتمعات ذات الطابع الريفي ومن المعلوم ان الشعب العراقي يتوزع مواطنوه على انتماءات عشائرية أو قبلية سواء أكانت كردية أو عربية حلت في أوقات كثيرة محل سلطة الدولة والقانون وقد كان للانتماء العشائري والقبلي اثر كبير في تحديد سلوك قطاعات واسعة من الناخبين والمرشحين فقد سعت الاحزاب ذات الكتل الكبيرة لاجتذاب زعماء قبليين وعشائريين ضمن قوائم مرشحيها وفي مختلف المحافظات دون ان يكون لهؤلاء علاقة تنظيمية بهذه الاحزاب ولا تربطهم أية رابطة ايدولوجية بها لغرض استثمار اصوات الناخبين في عشائرهم ولا فرق في هذا السلوك بين احزاب دينية (سنية أو شيعية) أو كردية أو علمانية اذ جميع الاحزاب مارست هذا السلوك وفي الجدول قائمة بأسماء بعض المرشحين من زعماء عشائر يتوزعون على معظم الكتل الفائزة في الدورة البرلمانية الثالثة وفي مختلف المحافظات.

ولا يمنع من ان بعضهم يمتلك مؤهل تعليمي عالي وامكانيات وقدرات جيدة

وجدير بالذكر ان الدستور العراقي الدائم لعام 2005 اكد على اهمية الانتماء العشائري والقبلي والتزام الدولة برعايتها والنهوض بها(3)

لقد تنامى الاهتمام بالعملية الانتخابية باعتبارها أحد الركائز المهمة للنظام الديمقراطي عززت ذلك الدراسات الاحصائية والرياضية حيث اصبح هناك فرع متخصص للكشف عن متغيرات الشخصية وطبيعة ميول الافراد والمتغيرات السايكولوجية والمقاربات الاجتماعية وتأثير ذلك على سلوك الناخب وهو "(علم اجتماع الانتخابات ومن تفرعاته علم سلوك الناخب) الذي وضع ركائزه الفرنسي (أندريه سيجفريد A.Sigeferid) ودرس الامتدادات السياسية للجغرافية البشرية ودراسة العوامل المؤثرة في السلوك الانتخابي"

( 4)، حيث نكون بأزاء شخصيتين الناخب والمُرشح؛ الاول يكون مستغرقاً في العلمية الانتخابية والثاني مراقبا لتلك العملية، والذي يتوقع من المرشح ان يكون رجل الدولة المستقبلي الذي يلبي طموحاته ويلبي احتياجاته ويرى  كيسنجر" ان رجل الدولة كمعلم واجبه أن يعبر الهوة بين تجربة الشعب وبين رؤيته اتجاهه، وبين تقاليد الأمة ومستقبلها"(5)، فإذا ما اصيب الناخب بخيبة امل في تجربة انتخابية سابقة سينعكس ذلك سلباً على تجاربه اللاحقة والعكس صحيح.

ومن اهم العوامل المؤثرة في السلوك الانتخابي البيئة الدينية والقومية حيث تلعب دورا كبيرا جدا في توجيه الناخب وتحديد مساره التصويتي للكتلة السياسية التي تمثل انتماءه الطائفي أو القومي واشد ما يظهر من تأثير لهذه البيئة في المجتمعات المنقسمة طائفياً وقومياً  اذ تظهر اثار هذه البيئة واضحة بعد عملية التحول إلى الديمقراطية حيث تسعى الجماعات الدينية والطائفية الى إن تشبه هويتها فتنبري بتشكيل تكتلات سياسية واحزاب تدور برامجها وحملاتها الانتخابية على التأكيد على حق الوجود والمشاركة للدين أو الطائفة أو القومية في العملية السياسية وهذا ما شهدته معظم النماذج الديمقراطية التي انبثقت من صراعات دينية وعرقية بين ابناء مجتمع الدولة( 6).

وجدير بالذكر ان المرجعية الدينية الشيعية في العراق لعبت دورا كبيرا وفاعلا في التأثير في سلوك الناخبين ودفعهم للتصويت في الانتخابات وبجميع انواعها (مجلس النواب – مجالس المحافظات) بعد 2003 مثلما اكدت على صياغة الدستور من قبل جمعية وطنية منتخبة بالانتخاب المباشر من قبل الناخبين العراقيين ومن المعلوم ان الشيعة المتدينين في العراق يلتزمون في عباداتهم ومعاملاتهم بمبدأ التقليد لما يسمى بالحاكم الشرعي وهو مرجع الدين المجتهد الجامع للشرائط الشرعية علماً ان بعض رسائل التحفيز والحث التي اصدرتها المرجعية للناخبين كانت على شكل اجابات لاستفسارات وتساؤلات من قبل الناخبين للمرجعية وكانت اقرب ما تكون للفتاوى ما زاد من قوة الزامها وبالعكس من ذلك فأن الزعامات الدينية السنية في العراق كانت تدعو إلى مقاطعة العملية السياسية وعدم المشاركة في الانتخابات وكانت في الغالب رافضة للشكل الجديد للدولة وافرازاته .

وعملية التحول إلى الديمقراطية تشهد تسارعا إلى تأسيس تكتلات حزبية بأعداد كبيرة جداً تسعى للوصول للسلطة رغبة بامتيازاتها ومنافعها دون ان تكون لديها مشاريع أو برامج سياسية أو اقتصادية وهذا ما اصطلحنا على تسميته انفاً  بالفوضى الانتخابية وهي ما اصطلح على تسميتها بأحزاب الانابيب في التجربة التونسية(7) اذ يكون ميلادها عادةً عشية الانتخابات وهذا ما حدث في العراق بعد التحول  إلى الديمقراطية عام 2003 حيث شهدت الساحة السياسية مولد العشرات من الاحزاب وقد ساعد في ذلك المنظومة القانونية بما فيها قوانين الانتخابات وقانون الاحزاب الذي وضعته سلط الاحتلال والذي اعطى الحق لكل شخص بمفرد ان يكون كيان سياسي بشرط ان يحظى بتواقيع ما لا يقل عن خمسمائة ناخب مؤهل وقد شاركت في انتخابات مجلس النواب عام  2005 (338) كيان سياسي وفي انتخابات مجلس النواب عام  2010 (297) كيان سياسي وانتخابات مجلس النواب عام 2014 (277) كيان سياسي(8) وقد يبدو من الصعب تفهم آلية السلوك الانتخابي في ضوء العلاقة المعقدة التي تتحكم فيها مجموعة عوامل مختلفة ومضطربة خاصة في بيئات غابت عنها الممارسات الديمقراطية لعقود طويلة لأنها سايكولوجا تعبر عن مظهر معقد من السلوك يصعب التحكم فيه وضبط متغيراته المختلفة(9) إلا ان سلوك الناخب قد يكون مغاير تماما لحزم المؤثرات التي تحدثنا عنها انفاً فخيارات الناخبين عشية الانتخابات  يمكن أيضاً أن تتأثر بعوامل تتراوح بين شعور الناس بالخوف وعوامل داخلية اخرى لا واعية(10)

على ان النماذج الراسخة في الديمقراطية ساهمت فيها الانتخابات في اشاعة مزيد من الامن والسلم الاجتماعيين واحترام الآراء المغايرة والمختلفة ولعبت الاحزاب السياسية دورا بارزا في رفع مستوى الثقافة والوعي لدى الناخبين وتحقيق قدر كبير من الاندماج والوحدة في مجتمع الدولة وتخفيف نزعة التمايز العرقي والديني كما هو الحال في التجربة الامريكية والاوربي حتى شاع الشعار الانتخابي الشهير (بطاقة بدل رصاصة   Ballot instead of Bullet)

وبعكس ما تقدم فان الاحزاب السياسية في العراق التي تنافست في الانتخابات التي اجريت بعد عام 2003 ساهمت في مزيد من الانقسام والتأزم بين مكونات المجتمع العراقي فقد تمزعت الدولة ومؤسساتها في حصص واقطاعات على الاحزاب وممثليها وفقاً لانتماءاتهم العرقية والطائفية حسب مبدأ ظاهرهُ نظرية التوافق وباطنه اقتسام امتيازات ومنافع السلطة ومارس بعض مرشحي تلك الاحزاب في حملاتهم الانتخابية دورا بارزاً في تعزيز الخطاب الطائفي (الشيعي – السني) القومي (العربي – الكردي) والتأكيد على اهمية هذه الانتماءات واصالتها واحقيتها عن طريق استحضار العمق التاريخي لهذا النزاع  للتأثير بالناخبين وتخويفهم الدائم من ان عاقبة عدم انتخابهم ضياع للطائفة أو الهوية القومية ويلاحظ ان الناخب العراقي تأثر كثيرا بهذه الخطابات وتفاعل معها وانقاد بوعيه الطائفي والقومي استجابة لهذه المخاوف(11) فحصد هؤلاء المرشحون معظم اصوات هؤلاء الناخبين في محافظاتهم.

ان الدستور العراقي منح مناخاً خصباً لهؤلاء المرشحين بتأكيده الدائم على الطبيعة المكوناتية  للشعب العراقي وتغليبها على صفة المواطنة  في كثير من مواده(12).

الهوامش

(1) : الفوضى الانتخابية: وهي حالة تتشكل في الايام القريبة من الانتخابات يحتشد فيه عدد كبير من الاحزاب التي تتنافس فيما بينها لخوض الانتخابات وقد تكون حديثة الأنشاء ولا تمتلك قواعد فكرية رصينة وتدخل تلك الاحزاب  في تحالفات جانبية واتفاقات وكتل مما يربك الناخب ويؤثر في سلوكه الانتخابي (الكاتب).

(2): معتز سيد عبد الله، بحوث في علم النفس الاجتماعي والشخصية، مج1،( القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر، بدون) ، ص145.

(3): طلعت ابراهيم لطفي، النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر، بدون)،  ص125.

(4): نصت الفقرة ثانيا من المادة (45) من دستور العراق لعام 2005 النافذ : (تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمتها الانسانية النبيلة ، بما يساهم في تطوير المجتمع وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان)

(5): محمد السويدي، علم الاجتماع السياسي. المفاهيم والقضايا، ط3، (القاهرة: دار المعارف ، 1984) ، ص60.

(6 ):  مذكرات كيسنجر، ج1، تر: عاطف أحمد عمران، ( عمان: الاهلية للنشر والتوزيع، 2005) ، ص19.

(7): بوسنا، لبنان، ماليزيا، العراق، للمزيد راجع كتابنا مصدر سابق.

(8): عتيقة جبرو مصدر سابق

(9): موقع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات

(10): عمار صالح الحوار المتمدن العدد 2880 -2010 /1/6-30:216

(11):  فعندما يقترب موعد الانتخابات عادة تمتليء الأجواء بخطابات السياسيين، وبما يستمع إليه الجمهور من أفكار وسياسات للمتنافسين في تلك الانتخابات .

وعندما يحين موعد التصويت، فإن اللحظة الحاسمة لاتخاذ قرار لمصلحة الوطن قد حانت. لكن حسب ما يقول عدد من علماء النفس، قد لا نستطيع أن نسيطر على قرارنا كما نرغب.

فالتعليم، والرعاية الصحية، والاقتصاد، كلها أمور مهمة ومؤثرة، لكن اختيارات الناخبين يمكن أيضاً أن تتأثر بعوامل تتراوح بين شعور الناس بالخوف والتقزز، إلى تأثرهم بنتائج المباريات الرياضية، وأحوال الطقس تأثير خفي).

العوامل الخفية التي تؤثر علينا في عملية التصويت، زاريا غروفيت، صحفية مقال منشور بتاريخ 12 ايار 2015 موقع

http://www.bbc.com/arabic/scienceandtech/2015/05/150512_vert_fut_the_dark_psychology_of_voting .

(12): أن مرشحاً يختفي وراء الطائفة والمذهب والمنطقة والعرق سوف تكون رسالته الانتخابية مفعمة بمحتوى ينضح بالتمويه والتضليل والدعاية المبتذلة فيتظاهر في رحاب المساجد والجوامع وامكنة الحضور العامة بمظهر المنافق المؤدب والمخادع المهذب ويستحضر ما يتمكن عليه من صور الصراع الاسلامي – اسلامي ان يدق الاسفين بين مكونات الدين الواحد، ويذرف دموع التماسيح في مناسبات احياء استشهاد الرموز الدينية بعد التأكد من ان ضحيته" ناخبه المرتقب" قد ذرف الدمع في محبة حقيقية وصادقة وعفوية لرموزه الدينية. إلا إننا نعرف أن التماسيح تذرف الدمع بعد التهام ضحيتها مستغلاً صدق مشاعرها ليضعها في جعبة مشروعه الانتخابي، أنها محاولات لترك انطابعا مشوها لدى محبي الدين مفادها أن السلامة الطائفية أولاً وبعدها نتحدث عن دولة القانون والمواطنة إذا كان هناك متسعاً من الوقت لذلك.

عامر صالح، سيكولوجيا الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة: بين ناخب بريء ومرشح ديموغوجي، الحوار المتمدن 2880-2010/1/6-30:21

(13): نصت الفقرة ثانيا من المادة (45) من دستور العراق لعام 2005 النافذ : (تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمتها الانسانية النبيلة ، بما يساهم في تطوير المجتمع وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان).

عرض مقالات: