(الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم ولكن المهمة تقوم في تغييره)
القنديل ضربٌ من المصابيح وقد أضاءت قناديل ماركس بعضاً من أماكن العتمة في حياة الإنسان, و يبدو لي أن العالم ينحو بعد مائتي سنة على ولادة ماركس، باتجاه إعادة الاعتبار لطريقته في التفكير. لأن الفلسفة الماركسية هي احتجاج ضدَّ العتمة, احتجاجٌ ضدَّ عبودية رأس المال, احتجاجٌ مُتشربٌ بالإيمان في الإنسان, وبقدرته على تحرير ذاته من تلك القيود الثقيلة التي تُكبِّل حياته والسعي نحو تحطيم هذه القيود والانتقال إلى مجتمعٍ خالٍ من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
وبالعودة إلى فريدريك أنجلز وشرحه المبسط لفائض القيمة, يقول: لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي, وأساس استغلال العامل, وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي قوةَ العمل من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعةٌ في السوق, فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر ممَّا دفع مُقابلها, وأنه في التحليل النهائي يُشكِّل فائضُ القيمة هذا مجموعاتِ القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتلُ الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقة المالكة.
وعلى هذا الأساس فأنتَ تجد اليوم في المجتمعات الإنسانية من يملك المليارات وغيره يكسب قوته اليومي بالتسول أو بأي وسيلة أخرى يقوم بها على حساب كرامته الشخصية أو على حساب جسده. يُريد الناس حقيقةً العيش في مجتمع يُوفِّر "بحبوحة" اقتصادية لجميع الكادحين. وسواء اعترف هذا المجتمع بهؤلاء الكادحين أو لم يعترف, فهم هُناك, في الحقل, في المصنع, في البازار, في الجامعة, يكدحون وتتصبب جباههم عرقاً دون أن يحصوا على حقهم في العيش الكريم.
أنتَ تُصادف الآن في كل مكان، في الجرائد والكتب ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الأفلام والمسرحيات، كلمات : ماركسي, بلشفي, اشتراكي, لينيني, مادي, شيوعي, أحمر, وما إلى ذلك. وهي كلمات ليس لها معنى في غياب هذا الفيلسوف الحكيم. وستجد صورته هُنا وهُناك, على حائط حديقة في مدينة أزمير, أو في جدار زقاق ضيق مبلط بالحجر في نيودلهي, أو على عامود رخام في برلين.
ولو تأملتَ في عددٍ من الكُتب والدراسات التي صدرت حديثاً بمختلف لُغات العالم وأخذتَ عيّنات من كتبه، على سبيل المثال : رأس المال, بيان الحزب الشيوعي, الثامن عشر من برومير لويس بونابرت, نقد برنامج غوتا, مخطوطات ماركس عام 1844,رسائله مع رفيق دربه فريدريك أنجلز, سيرة حياته, أشعاره, نعم فقد كتب ماركس شعراً في شبابه, والتي يتمُّ تناولها من قبل أعداد متزايدة من الناس، لتأكدتَ بأنه أحد أعظم الفلاسفة في كل العصور.
القرّاء الذين يبحرون في أعماله للمرة الأولى، غالباً ما يكتشفون نمطاً إنسانياً تنويرياً وفكراً حراً يقود إلى دروب الحرية الرحبة ، بل قُل فكراً ثورياً خارقاً للمألوف. هل شبح ماركس الذي يجول في أنحاء العالم ما زال يُرعب أهل السلطة والمال ويُقلق راحتهم؟ نعم بكلِّ تأكيد. إنه أحد الذين تصوروا الكائنات البشرية المحيطة به تعيش حياة غنية ومتنوعة سعيدة ومرضية وحرَّة في مجتمع ما بعد الرأسمالية.
لا يقتصر فكر ماركس على مشروع سياسي ثوري. فهو يقدم نقدًا أخلاقيًا لاغتراب الفرد الذي يعيش في المجتمعات الرأسمالية. لأن الوعي الاجتماعي للأفراد يعتمد في الأساس على الظروف المادية التي يعيشون فيها. و بتتبعه تطور أنماط الإنتاج المختلفة التي مرت فيها البشرية, يجادل بأن الشيوعية ستحل محل الرأسمالية الحالية وستكون نهاية الشوط في سلَّم الرقي الحضاري. والظاهر بأن هذه الفكرة الجوهرية التي كانت مستعصية كلياً على الفهم في زمانه أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التجسد في عالم اليوم, بمعنى ان المجتمع البشري سيسير نحو التخلص من أوزاره ويُحقق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة التي يطمح إليها البشر منذ آلاف السنين.
ينظر بعض المفسرين إلى نص "بيان الحزب الشيوعي" على أنه النقطة التي بدأت فيها أفكار ماركس في الظهور بشكلها الناضج. يشرح ماركس مفهوم الفكر الثوري للطبقة العاملة، ويقترح أساس مهمتها التاريخية: إلغاء الملكية الخاصة- وهو واحد من أنبل و أجرأ الأفكار على مرِّ العصور- وتحقيق التحرر من عبودية رأس المال. و يجادل بأن العمال المعاصرين يُقصَوْن عن السلع التي ينتجونها و يُقصَون عن أدوات اتحادهم، لذلك كان شعاره المشهور" يا عمال العالم اتحدوا". فبدلاً من تحقيق شعور بالرضى وتحقيق الذات في عملهم، فإن العمال يُستهلكون جسدياً وروحياً ومن ثمَّ يرمون على قارعة الطريق في أرذل العمر.
وقد وضع ماركس هذه الفكرة في سياق مبكر من حياته وهو في السابعة والعشرين من العمر في مقال مشهور عنوانه "موضوعات عن فورباخ" كتبه في بروكسل في ربيع عام 1845عندما أتم من حيث الخطوط الكبرى تطوير نظريته.
يكشف ماركس في هذه الموضوعات النقص الجذري الذي يشوب مادية فورباخ وكل المادية السابقة, على السواء أي طابعها التأملي, وعدم فهم أهمية النشاط الثوري. وفي ختام هذه الموضوعات كتب جملته المشهورة "الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم ولكن المهمة تقوم في تغييره". وقد قال فريدريك أنجلز أن هذه "أول وثيقة تحتوي النواة العبقرية للمفهوم الجديد عن العالم". وقد نشر أنجلز لأول مرة هذه الموضوعات في عام 1888 في ملحق لطبعة منفردة من كتابه "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" .

عرض مقالات: