اطلق عليها "ثورة اكتوب" تيمنا بثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا عام 1917. انها ثورة الأول من تشرين الاول المبارك التي ما زالت متواصلة دون توقف، وهي تتوسع أفقيا وعموديا. فالتوسع الأفقي يعني انها تتسع كل يوم بالجموع الكبيرة من الجماهير الشعبية ، وتكبر معها المطالبات بالتغيير والإصلاح ، وذلك من خلال الشعارات التي يطلقها المتظاهرون في ساحات الاحتجاج ، الجماهير لا تكتفي بالمطالبة بالخدمات والوظائف والعمل، بل ان المتظاهر يرفع شعارات مثل " اريد وطن " او " اوقفوا عملية النهب المنظم لبلادنا " او " اتركوا العراق ليقرر مصيره " او " متى تحاسبون حيتان الفساد؟" او "كفاكم قتلاً.. ارحلوا!".
إن هذه الانتفاضة الشعبية الكاسحة شملت جميع محافظات بلادنا في الجنوب والوسط (البصرة، ميسان، ذي قار، المثنى، الديوانية، النجف، كربلاء، بابل، واسط وديالى والعاصمة بغداد الحبيبة).
وفي الحلة الفيحاء، وأنا اراقب الشباب وهم يرددون بأصواتهم الهادرة، ويهتفون، يقرأون الشعر، يرسمون، يلونون الأرصفة، ينظفون ساحات التظاهر، إنهم طاقات زاخرة بنبض الحياة، لكنهم ايضا يعزفون نشيد الأمل والخير والتحدي، فتذكرت مثل كثيرين غيري الجواهري الكبير الذي قال:
سينهض من صميم اليأس جيل ... شديد البأس جبار عنيد
وقد شهدت ساحات التظاهر فعاليات شبابية تشهد لهؤلاء الفتية الشجعان. أنهم ابناء العراق البررة، فهم يحملون فرشاة الالوان الزاهية ليزينوا شوارع المدن التي يقفون في ساحاتها، وهم يرسمون الوطن بنخيله وتراثه وابنائه وشبابه وطالباته وعماله وشيوخه، وهم يقفون صفا واحدا يتحدون رصاص السلطة والزمر المنفلتة، التي توجه الرصاص الحي الى صدور الشباب الذين خرجوا وهم يطالبون بحقوقهم المشروعة التي ضمنها لهم الدستور.
لقد تطوع الشبيبة لتنظيف الساحات وجمع النفايات بأكياس، ووضعها في اماكن خاصة لغرض نقلها بسيارات البلدية. انهم يعملون ليلا ونهارا، حيث تحولت ساحات التظاهر الى ورشات عمل فنية وخدمية، وهناك من يقدم الشاي والخبز الحار من التنور المشتعل وسط المتظاهرين وهو يعطر فضاءات التظاهر برائحة الخبز الطيبة.
قال لنا عمار، أنه جاء صحبة زملائه، ليمارس حقه في الاحتجاج على نظام المحاصصة والفساد والطائفية. أما فيحاء فقد اشارت الى أنها تشارك ابناء مدينتها، مدينة التاريخ والحضارة والتراث، بابل، لتوصل صوتها عاليا الى السلطات الثلاث، وهي تردد " نريد وطن .. نعم نريد وطن ".
إن من يتصدى لقيادة التظاهر والاحتجاج في بلادنا هم شريحة الشباب من الجيل الجديد ، جيل الحرية والديمقراطية والاتصالات الحديثة والتواصل الاجتماعي ، جيل المدنية وحب الوطن ، جيل الثورة الاجتماعية ضد الفساد والمحاصصة والطائفية. لقد افرزت سياسات النظام القائم على المحسوبية، النظام السياسي الطائفي المقيت ، ومعه المنظومة المهيمنة على السلطة واقتسام مغانمها ، وحرمان الشعب من خيراته ، مما افرز هذا الكم الهائل من الكبت والحرمان والظلم والتفاوت الطبقي الخطير والصعود المفاجئ للبعض من خلال النهب المنظم للمال العام ، كل هذا وغيره ، كان السبب الرئيس في فقدان الثقة بين المواطن والمنظومة المهيمنة والمتسلطة على رقاب شعبنا ، وهو ما دفع ابناء شعبنا ان يعلنوا الثورة ، ثورة الحقوق المسلوبة من قبل نظام المحاصصة والطائفية والفساد .
نحن نعتقد أن شعبنا لن يتوقف هذه المرة حتى ينال كامل حقوقه في دولة مدنية، يسود فيها دستور مدني ديمقراطي يحقق طموح شعبنا في حياة حرة كريمة. ولابد من التأكيد أن المطالب التي يرفعها المحتجون في ساحات الاعتصام والتظاهر، ويشددون عليها في احاديثهم في وسائل الإعلام وفي تظاهراتهم، هي بعد إقالة الحكومة ومحاسبة ومعاقبة قتلة المتظاهرين:
1- تقديم رؤوس الفساد والحيتان الكبيرة التي تضخمت أموالها بشكل كبير جدا ، الى القضاء مهما كانت مواقعهم لينالوا جزاءهم العادل وتسترجع منهم الاموال المنهوبة .
2– تشريع قانون " من اين لك هذا؟ " لمساءلة ديناصورات الفساد الذين توسعت بطونهم بالسحت الحرام واصبحت لهم مافيات واسعة تنتشر كمنظومة في دوائر الدولة وهو ما أكده رئيس مجلس الوزراء في خطبه التي ينطبق عليها المثل (جعجعة ولا طحين).
3– العمل على تشريع قانون انتخابات جديد يحقق طموح الشباب في المشاركة الفعالة في صناعة مستقبلهم ومستقبل شعبهم وبلادهم، وان يعطي ابناء شعبنا مزيدا من الثقة في المشاركة في الإنتخابات .
4– الغاء مفوضية الانتخابات الحالية، والاستعانة بالقضاء في الاشراف على العملية الانتخابية، والغرض هو إبعاد العملية الانتخابية عن التزوير وغيره مما رافق العملية الانتخابية خلال السنوات السابقة.
5– العمل المباشر على تعديل الدستور اعتمادا على خبراء في القانون، دون ان تتدخل اي من الاحزاب المهيمنة على مقدرات بلادنا حاليا في عمل اللجان التي تعمل على اجراء التعديلات، وان تكون التعديلات مستوعبة حفظ حقوق شعبنا في دولة مدنية ديمقراطية توفر حياة حرة كريمة ومساواة وعدالة اجتماعية، وأن تكون الهوية الوطنية هي المعيار الاساسي في ذلك.
6– العمل على إعادة الحياة الى المصانع والمعامل وورشات الصناعة المعطلة منذ 2003، وتهيئتها من خلال تأهيلها تماما لاستقطاب العاطلين عن العمل وتوفير فرص عمل جديدة اضافة الى مساهمة هذه المشاريع الاقتصادية في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي والانطلاق نحو توفير مصادر مالية جديدة للموازنة .
7– حصر السلاح بيد الدولة، والعمل سريعا على السيطرة الكاملة على القوى المنفلتة، وأن تأخذ الأجهزة الأمنية كامل دورها في حماية البلاد .
إن ما افرزته الاحتجاجات الكبيرة التي شملت اغلب المحافظات العراقية ، يُثبت تماما أن { العد التنازلي للأسلمة السياسية في العراق بكل ما أشاعته من وعي خضوعي وتدين زائف وخدر ارتهاني لدى الفرد العراقي خلال السنوات التي اعقبت الاحتلال الأمريكي في 9/ نيسان 2003 ، أما الوجه الآخر لهذه اللحظة المفصلية ، فكان البزوغ التدريجي للنزعة الوطنية بوعيها المعارض وممارساتها الاحتجاجية القائمة على ثقافة المشاركة السياسية والمناداة السلمية بالإصلاح الجذري الهادف الى التغيير الشامل لبنية النظام السياسي في نهاية المطاف }. فارس كمال نظمي / سيكولوجيا الاحتجاج في العراق " أفول الاسلمة.. بزوغ الوطنياتية ".