... وإذ تستمر الاحتجاجات الشعبية الحاشدة  في بغداد العراق، والعديد من مدنه، وخاصة الجنوبية منه والفراتية، تتزايد اشكال التعبير، بشأن تلكم الاحداث، الداعمة لها بلا قيد وشرط احياناً، أو مع بعض التحفظات عليها، احيانا اخرى، ولكل من الطرفين رؤى واسانيد، حريصة في الغالب الأعم، وما علينا بغيرها.. ومن بين أشكال التعبير تأتي المواقف والكتابات المُبحرة، أوالعجول: آراء وتحليلات وقصائد وصورا  ولوحات وتعليقات واستنتاجات ومتابعات، وما الى ذلك، دعوا عنكم الاخبار غير الموثقة والاشاعات وسواها، والتي يبرر زيفها احيانا تحت مقولة " ناقل الكفر ليس بكافر" ونرى-  بمثل هذه التوترات الراهنة – انه : كفر مضاعف، لانها تساهم بهذا القدر أو ذلك، في اثارة فتنة كريهة، بل وحتى مآسٍ احيانا..

ولربما يمكن ان تُحدد تلكم الكتابات واشكال التعبير بمنحيين رئسيين، اولهما الحثّ والتنوير، وثانيهما التحريض والتضليل، وهما طريقان سالكان ما دام المعنيون بذينك الاسلوبين يعتقدان – بتقديرهما على الأقل- بأن ما يمارسونه يسندُ  تلك الاحتجاجات الشعبية حين تطالب بحقوق المساواة والعيش الكريم، وملاحقة رموز وشخصيات وسلطات الفساد والقمع والقتل .. ولربما هناك في بعض الاحيان تشابك متلاحم بين "التنوير" المزعوم، و"التحريض" المدعى..

وفي ضوء متابعة اشكال التعبير التى تتزايد حول الاحتجاجات والمتظاهرين، وتحركاتهم، دعونا نتوقف عند بعض خلاصات واجتهادات حول شؤون ومجالات "التوعية"  و"التحريض" التي ترافقت – وتترافق – مع تطورات الاحداث، ولعلّ ثمة ما يفيد في سبـر تلك الوقفات، وهو أن الوتائر تتصاعد بشل متسارع، مما "قـد" يودي الى تداعيات مؤلمة أكثر مما حدث، ويحدث، ويتطلب أحترازا من وقوع المزيد من الضحايا والدماء البريئة الغالية، اللا ضرورية، امام وقائع وأوضاع وظروف موازين القوى الراهنة: الداخلية والاقليمية والدولية... ومما نريد ان نتوقف عنده سريعا، وبرؤوس اقلام ليس إلا:

1/ التأكيد بأن التوعية ليست حالاً عجول، ويعرف اصحابها او متبنوها انها تحتاج لفترات زمنية تطول وتقصر حسب ظروف الواقع، لكي تأتي بنتائجها المطلوبة.. اما التحريض فيريد به اصحابه، وهم مقتنعون، استعجال الامور وان شابت النتائج اغلاط وعواقب، وبعضها وخيمة..

2/ وفي ذلك الاطار تركز التوعية - التنوير على اسس معرفية بسيطة او عميقة، مع الحرص على توفير امثلة وملموسيات رصينة، لكي تكون ثابتة النتائج، وافرة الفائدة .. اما خلاف ذلك فيأتي تحريضاً وتضليلا، ولا  يهم أن كان مبالغاً في نقل الاحداث او اجتزائها، وحتى التدليس عند تطلب الحاجة التي يريدها ذلك المحرض او غيره، ولأسباب سنأتي على ذكرها تاليا..

3/ وبينما "حبل" التوعية والتنوير، وثيق وأمين، يجئ التحريض والتضليل مناقضا بالتمام والكمال، ينكشف صحيحه عن خطله بمرور الوقت، وحالما يجري التيقّـن منه، والتبحر فيه.. وفي التأسيس على ما تقدم نستطيع وبكل بساطة معرفة حجوم وقيّم كلٍ من شخصيات "المنورين" الذين يحثون نحو التوعية من جهة، والقسم الثاني الذي نعنيه - اي "المضللين" .. وكلا الجانبين يعلنان الحرص، والدعم والاسناد الضروريين لذلك الحدث أو غيره.. خاصة وانهم – المعنيون- يرون بأن العديد من الجهات والشخصيات التي يواجهها المحتجون: قتلة وفاحشون وفاسدون ..

4/ وللتأكيد هنا مجددا نوضح بأن مايراه البعض" تضليلاً" يراه آخرون "تنويرا" والعكس صحيح تماما، فأولئك "يحرضون" ضد التظاهرات المشروعة، بشكل أو آخر، ويحسبونه "تنويرا"... وبالمقابل ثمة من  "ينـوّر" المحتجين، كما يرى،  بينما يحسبه آخرون " تحريضا" يقود للخنوع والامتهان وقبول أمر واقع، ملئ بالمظالم والظلمات ..

5/ وان كانت الفترات السابقة تسمح بمرور سهل وسريع  للأقتباسات والشائعات والاخبار والتحليلات "المنوّرة" او "المحرضة" فأن رواهن اليوم وعبر الثورة المعلوماتية، ووسائلها، تكشف الغثّ من السمين وبثوانٍ معدودات ليس ألا.. بينما تترسخ منارات التوعية في الاذهان ، قبل العواطف، ولو تطلب ذلك بعض الوقت والصبر..

6/ كما ان كلاً من "مدّعي"  التنوير- التوعية، والمحرضين- المضللين، يستهدفون جماهير  ومتلقين يختلفون عن بعضهم البعض احيانا ..  وفي توضيح أزيد نقول: ان الجمهور الذي يتوجه اليه "المنورون" بشكل مباشر، هو جمهور واعٍ لا يرتضي بسهولة ان تُمرر عليه الشائعات والاخبار المجتزأة او الشعارات المبهرجة.. بينما يعتمد "المحرضون" ويتوجهون الى جمهور عام، يتلقف كل ما قيل ويقال، دون تمحيص ولا حسابات، والكثير من اولئك  قليل المعرفة والتعليم والتجربة، مما يسهّل المهمة (او المهمات!) امام دعاة التحريض ..

7/ ومما يمكن رصده في وقفاتنا هذه بشكل واضح: ان اهداف بعض "المحرضين" تكمن في الرغبة العجول والضرورية في التأثير على الاحداث (كما يتصورون !) اضافة لكسب شهرة سريعة، ولربما مآرب شخصية، ودون حساب ما يترتب على ذلك من تداعيات عامة... اما الدعاة "المنورون" فهم  يَحسبون الف حساب وحساب لكل عبارة يقولونها، او جملة يكتبونها، أو عطاء ثقافي ينشرونه..

8/ ومن يتابع ويرصد - ولو ببعض جهد – سيتضح له، وبالملموس، الفارق في اللغة والاسلوب الذي يعتمده الجانبان : "المنورون" الذين يحرصون على الابتعاد عن الشتائم والاتهامات والبهرجات اللفظية..  و"المحرضون" الذين يستخدمون حتى الكلام الخادش، ويبررون ذلك بأن هناك مفكرون وفلاسفة كبارا قد نهجوا ذلك الطريق، ناسين او متناسين ان لكل جيل وعهد ثقافته ومتلقيه واساليبه، ولا يمكن قياس الذات مع قامات رواد وعباقرة نوادر..

 9/  ومن مبررات " المضللين" ايضا في وسائل تعبيرهم واشكالها ان "الغاية تبرر الوسيلة " لأن الاهداف المتوخاة سامية، بظنهم الصادق أو المُدعى .. فيما يبتعد "المنوّرون" عن مثل تلك المقولات، فالكلمة والرأي امانة وضمير، وتترتب عليها مسؤوليات بل وحتى خسائر جلّى حين لا تكون ضرورية، وفي مكانها وظرفها وزمانها ..

10/ ثم تبقى- بل ولربما انها يجب ان تكون في المقدمة- اهمية التوقف عند انواع، واصناف كل من  " اصحاب الحثّ والتنوير " من جهة، و"المحرضين- المضللين" من جهة ثانية .. فالأولون، فرادى كانوا أو مجموعات: مثفقون واعون، وفلسفتهم ان يسعوا لأشاعة التوجهات والافكار والادوات والجهود، وبما تحتمه عليهم رؤاهم ومعتقداتهم وقناعاتهم .. اما المحرضون، فلربما يمكن توزيعهم على اشكال شتى، ومن ابرزهم: المقتنعون بما يكتبون وينشرون ويدعون اليه، بحسب مداركهم ومعارفهم وتجاربهم .. وثمة ايضا "محرضون" ملتزمون بتوجيهات وقناعات ومفاهيم سياسية، أو بسبب ارتباطاتهم بأطر تنظيمية، تدفعهم لأن ينفذوا ما يُراد منهم، ولو كانوا غير مقتنعين به، ولاهداف خيرة كما يعتقدون ..

11/ وارتباطا بالفقرة السالفة، نتجاهل عن عمد هنا اشكالا اخرى من العاملين (الموظفين) في مجالات "التوعية والتنوير" الصالحة بحسب البعض، والطالحة  وفقا لبعض آخر ..وكذلك هي الحال بالنسبة لأصحاب "التضليل والتحريض" ومن بينهم (موظفون) ينفذون ما يترتب عليهم من واجبات، الخفي منها أو المعلن ..

   يقيناً ان وقفات مثل هذه التي نحن عندها في هذه الكتابة تحتاج لمزيد ومزيد من التفاصيل، وحتى الامثلة الملموسة، وعسى ان يسمح الوقت والظرف لاتمام ذلك، خاصة وأن للكاتب تجربة  في مجالات كالتي يتحدث عنها، وهو شاهد عيان في حالات عديدة، ومنها "تحرضية" بحسابات البعض، او "تنويرية" بالنسبة لبعض آخر، وفقا لمدارك ووعي ونزاهة أولئكم "البعضيّن" وغاياتهم وما في نفوسهم، دعوا عنكم صدقية الضمير، وهو الامر الاهم كما أحسب، والتاريخ شاهد عـدل عزوف عن الرياء، سيبيّن - وان طال الأمد قليلا - أوجه الاهداف والغايات المدعوّة والمرتجاة، الحريصة، أوخلاف ذلك !!..

 

 

عرض مقالات: