في عام 1987 صدر في بيروت عن دار الصداقة والنشر كتاب للباحث الفلسطيني التقدمي جهاد صالح بعنوان " الطورانية التركية بين الأصولية والفاشية " ،  وقد قام المؤلف في هذه الدراسة التاريخية السياسية التي ماتزال تحتفظ بقيمتها بتأصيل جذور الطورانية الشوفينية العنصرية في تاريخ تركيا ، كحركة ( أو لنقل نزعة ) منذ عصر امبراطورية دولة الخلافة العثمانية الذي أمتد قروناً طويلة حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين ، ولكنها مالبثت أن عادت بوجه جديد " متعلمن " بعد انهيارها وتأسيس نظام علماني يتشبه بالغرب الاوروبي ، لكن هذا النظام ظل يفتقد منذ تأسيسه إلى يومنا الحد الأدنى من الأسس الديمقراطية الحقيقية مما يفرغه  حتى من كل مضامينه العلمانية الجوهرية .  وكان تمظهر الشوفينية خلال العهود العثمانية يتجلى في موقفين : الأول يتمثل في الممارسات العنصرية تجاه مواطنيها الأكراد والأرمن والعلويين وغيرهم داخل حدود تركيا الحالية ، والثاني يتجلى في ممارساتها الشوفينية الاستعمارية تجاه شعوب معظم الأقطار العربية والخاضعة لسلطتها كولايات عثمانية . وحينما أسس كمال أتاتورك النظام العلماني الجديد توارث هذا النظام تلك النزعة العنصرية الشوفينية تجاه الأقليات الدينية والقومية التي ظلت محرومة من حقوقها في المواطنة المتساوية مع سائر أشقائهم في الوطن الواحد المشترك ، أما ازاء الاقطار العربية التي استقلت عن تركيا فقد ظلت علاقاتها معها ومع العرب عامةً مشوبة بهذه النظرة الاستعمارية الاستعلائية  إليهم ،  وزاد منها وصمهم كافة بأنهم خونة لمواقفهم المناوئة لتركيا في الحرب العالمية الأولى وتطلعهم للإستقلال والتحرر من الاستعمار التركي الطويل . وتشاء أحداث التاريخ الساخرة خلال ثمانية عقود من تأسيس النظام العلماني أن يتمكن حزب إسلاموي (عثماني الجوهر )  من اختراقه عبر قواعد اللعبة الديمقراطية التي برع هذا الحزب في ممارستها بعد دهر طويل من قمعه ومحاصرته للحيلولة دون نجاحه في لعبها ، لكن هؤلاء الحكام الإسلاميون الجُدد ومو أجل  ظهورهم بظهور  مقبول  لدى الغرب أخذوا يتزيون بلباس عصري ببذالاتهم وربطات أعناقهم بدون لُحىٰ  ، وفي مقدمتهم زعيمهم رجب طيب أردوغان ، ولكنهم يخفون من تحتها عنصرية شوفينية شعبوية لا تخفيها شعاراتهم الإسلامية الثورية  البرّاقة ولا عصرية ملابسهم الأنيقة،  سواءً تجاه  الأقليات من مواطينهم في الداخل أو ازاء ما يشوب علاقاتهم مع العرب من طابع لا يخفيه ذلك الموروث من تلك النزعة التاريخية المريضة .

قبل بضع سنوات أتذكر بأن صحيفة " الوسط " البحرينية المستقلة نشرت لي مقالاً عن المذابح التي ارتكبتها السلطنة العثمانية التركية بحق مواطنيها الأرمن المسيحيين والتي شرعت منذ نشوب خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918 ) حتى إلى ما بعد انتهائها بفترة قصيرة . ولقد توهم هذا النظام المتعلمن و " الديمقراطي " شكلياً بينما هو قائم على التعالي القومي والشوفينية تجاه الأقليات من مواطينه بأن ما لحق بالأرمن من مجازر إبادة مروعة ستسقط من المحاسبة والذاكرة التاريخية ، لكن خاب أمله بذلك فقد بتنا اليوم نعيش عصراً تطور فيه الفكر الحقوقي الدولي في عالمنا المعاصر تطوراً كبيراً  قياساً بما كان عليه في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية ( 1939- 1945 ) فظل احياء ذكرى هذه المذابح والتذكير بها عالمياً واقرار دول العالم بحقيقتها التاريخية يتطور منذ ما يقرب من أربعة عقود خلت وهو مابات يقض مضاجع الحكام الأتراك على اختلاف انتماءاتهم القومية والإسلامية المتعاقبة على الحكم  . وفي ذلك عبرة لمن يعتير في عصرنا للأنظمة الدكتاتورية في عصرنا .  وقد قُدرت كل  الجهات العلمية التاريخية المحايدة   بأن أعداد ضحاياها لا يقلون عن مليون ونصف المليون أرمني ، غير الذين نجوا من الإعدام من خلال القتل البطيء تعطيشاً وإنهاكاً خلال مسيرات الترحيل التعذيبية  إلى أقطار الشام أو نجحوا في أن يفروا بجلودهم إلى بعض الأقطار العربية وأوروبا . ومع أن هذا المقال لم يكن الأول من نوعه الذي أتناول فيه تلك المذابح التي يندى لها جبين البشرية ، فقد نُشرت لي غير مرة مقالات صحفية محلية حول هذا الموضوع ، وعلى الأخص خلال فترة حكم الأحزاب العلمانية الحكومة العلمانية قبل أن يقفز حزب العدالة والتنمية " الإسلاموي " إلى السلطة في أوائل العقد الماضي ويستمر فيها حتى يومنا هذا ، إلا أنني فوجئت في اليوم التالي من نشر ذلك المقال الأخير في الوسط ، قبل توقيفها عام 2017 ، برئيس تحريرها الدكتور منصور الجمري يستدعيني لمكتبه لأمر ما ليبلغني بعدئذ بأن سفيرة تركيا في البحرين أجرت معه مكالمة هاتفية مبديةً غضبها واستياءها الشديدين  من مقالي الذي تناول المذابح الأرمنية ، وأنها تطلب  بهذه المناسبة  ، ولربما لملاحظات اخرى في ذهنها تجاه كتّاب  الرأي في الصحيفة ، بالإجتماع بنا جميعاً وبحضور رئيس التحرير ، إلا أني أعتذرت بلباقة لرئيس التحرير عن الحضور مُقدماً فلم أكن مستعداً البتة أن أستمع إلى محاضرة تعليمية من البروباجندا الشوفينية التركية في نسختها الإسلاموية الجديدة بعد زوال نسختها العلمانية الأتاتوركية . 

  تذكرت هذه الواقعة على خلفية الزوبعة الأخيرة التي أثارتها تركيا ضد إقرار مجلس النواب الإمريكي بالمذابح التي أرتكبتها تركيا العثمانية بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى واستدعاؤها السفير الامريكي في أنقرة قبل أيام للاحتجاج على موقف مجلس النواب الامريكي ، بالرغم من أن السلطة التشريعية في الولايات المتحدة تتمتع باستقلاليتها ولا يحق للسلطة التنفيذية مصادرة حقها في اتخاذ قراراتها ومواقفها الخاصة ، بصرف النظر هنا عن أن هذه السلطة نفسها - بمجلسيها الشيوخ والنواب - هي جزء من الطبقة الرأسمالية الحاكمة في الولايات المتحدة المسؤولة عن ارتكاب مجازر بحق شعوب عديدة من العالم منذ الحرب العالمية الثانية ، بدءاً من إبادة أكثر من ربع مليون إنسان ياباني في أول مجزرة نووية في هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين وما تلاها من مجازر متتالية لاتقل بشاعة عن المجزرة التركية بحق الأرمن حتى يومنا هذا في فيتنام والهند الشرقية والشرق الأوسط وافغانستان واوروبا وغيرها . ورغم أن هذه الطبقة الأمريكية الحاكمة أيضاً لا تقف مواقف مبدئية ثابتة من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم بل غالباً ما تخضعها للانتقائية وفق مصالحها ، ووقوفها والغرب أيضاً مع إسرا ئيل في رفض وصمها بالعنصرية بذريعة العداء للسامية ، أو التشكيك في أرقام ضحايا المحرقة النازية بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية ، وإن كان نظام الولايات المتحدة الديمقراطي بطبيعة الحال أكثر تطوراً وعراقةً من النظام الشمولي التركي ذي الواجهة الديمقراطية الشكلية .  

والحال أن الموقف المتشنج الذي تقفه السلطات التركية المتعاقبة منذ تأسيس النظام العلماني الأناتوركي عام 1923 من مواقف أحرار العالم والرأي العام العالمي بمختلف اتجاهاته وجهاته الإعلامية والحقوقية والدولية ضد من يقف أي رأي مناقض لروايتها الرسمية في نكران المجازر الإبادية لجزء من مواطنيها الأرمن ، بالرغم من أنها وقعت على أيدي سلطات نظام رجعي عنصري ثار مؤسسو النظام العلماني عليه وأسقطوه ، ألا هو نظام السلطنة العثمانية الوراثي الثيوقراطي ، هذا الموقف الذي لا يتسع صدره حتى لمواقف الرأي الآخر في الصحافة العالمية بحيث تنشغل سفاراته حتى بملاحقة أصحاب الرأي الآخر في هذه القضية ، لا يختلف البتة عن مواقفه الشوفينية العنصرية بحق مواطنيه الأكراد بالرغم أنهم يشكلون ثاني قومية بعد الاتراك ويبلغون نسبة 20% من إجمالي سكان البلاد ويشغلون ما يقرب من ثلث مساحتها ، ولعل أعمال التنكيل بحق الاكراد في الداخل ومصادرة أي شكل من أشكال حقوقهم القومية ، وملاحقة مناضليهم خارج البلاد حتى لو تتطلب الأمر خرق القوانين الدولية وانتهاك أراضي سيادة دولة جارة لتركيا كما جرى في العراق ثم أخيراً في سوريا في حملتها العسكرية العدوانية الحالية في شرق الفرات بذريعة إقامة منطقة آمنة ، وبضوء أخضر من الولايات المتحدة وعدد من حلفائها الغربيين وبتواطؤ روسي إيراني ، كل ذلك ليكشف بلا جدال النزعات الشوفينية الطورانية المتوارثة للحكومات المتتالية تجاه الأقليات القومية والدينية في بلادها والتي لا يبدو بأنها ستبرأ منها قريباً رغم مرور ما يقرب من قرن على تأسيس النظام العلماني القومي التركي . ولو أراد اليوم باحث أن يؤصل اليوم جذور العنصرية الطورانية في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية العثماني الإسلاموي للحكم بقيادة رئيسه رجب طيب أردوغان لصح أن يطلق على دراسته هذا العنوان : " الطورانية التركية من الأصولية العثمانية إلى الأصولية الأردوغانية  " . 

عرض مقالات: