تحت شعار " المشاركة " احتفل العالم يوم الأحد، باليوم العالمى للديمقراطية، حيث اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 62/7 خلال سبتمبر 2007، باعتبار يوم 15 سبتمبر يوما دوليا للديمقراطية، والذى يتيح فرصة لاستعراض حالة الديمقراطية فى العالم. سلط الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى بنده الثالث من المادة 21 منه أن "إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكم، فيجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام، وعلى قدم المساواة بين الناخبين، وبالتصويت السرى أو إجراء مماثل من حيث ضمان حرية التصويت".
والديمقراطية الحقة كما تؤكد الأمم المتحدة "هي سبيل من اتجاهين، مبنية على الحوار الدائم بين منظمات المجتمع المدني والطبقة السياسية. ولا بد أن يكون لهذا الحوار أثر حقيقي في القرارات السياسية. ولهذا السبب تعتبر كل من المشاركة السياسية والفضاء المدني والحوار الاجتماعي ركائز أساسية للحكم الرشيد. ويصح ذلك في حق أثر العولمة والتقدم التقني كذلك. ومع ذلك، فلم يزل الفضاء المدني يزداد تقلصا في كل أنحاء العالم بصورة تنذر بالخطر. كما أصبح عمل نشطاء المجتمع المدني أصعب بكثير. وغدا المدافعون والمدافعات عن حقوق الإنسان والبرلمانيون والبرلمانيات يتعرضون للهجمات، في حين لم يزل تمثيل المرأة ضعيفا، ومواجهة الصحفيون لتدخلات في عملهم وتعرضهم للعنف في بعض الحالات. وبالتالي، فاليوم الدولي للديمقراطية هو فرصة لحث جميع الحكومات على احترام حقوق مواطنيها في المشاركة الديمقراطية مشاركة فعالة وجوهرية وهادفة". . وجاء تقرير مؤشر الديمقراطية لعام 2018 الذي نشرته وحدة "إيكونوميست إنتيليغنس " وهي وحدة مستقلة تابعة لمجلة الإيكونوميست، أن تصنيف الديمقراطية يعتمد على 60 معياراً فرعياً مجمعة فى الفئات الخمسة التالية: العملية الانتخابية والتعددية، وعمل الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية الديمقراطية، والحريات المدنية . ومن المقرر أن يمنح مؤشر ديمقراطية الدول درجة من 10 اعتمادا على هذه المعايير، ثم يصنف الدول إلى أربعة تصنيفات، تبدأ من دول ديمقراطية كاملة، ثم ديمقراطية منقوصة، يليها نظام هجين يجمع بين الديمقراطية والاستبداد، وأخيراً الدول ذات الأنظمة الاستبدادية. وقد احتل العراق في حينها المرتبة 114 وضمن الدول ذات النظام الهجين الذي يجمع بين الديمقراطية والاستبداد، وضمن قائمة دول تجاوزت ال 165.
بالتأكيد ان الحديث عن ديمقراطية العراق شائك ومعقد استنادا الى الظروف القسرية التي أنشأتها والمتمثلة بالأحتلال الامريكي في عام 2003 الى جانب تراكمات القمع والدكتاتورية لعقود من الزمن والتي ساهمت في غياب البدائل السياسية الديمقراطية وغياب الفكر الديمقراطي مما سببا فراغا سياسيا كبيرا وعدم المقدرة على احتواء الأحداث ما بعد سقوط الدكتاتورية، ورغم هذه الاشكالية المفصلية والمعوقة للديمقراطية يرى الكثير من المتابعين للشأن العراقي، أن العراق بلدا ديمقراطيا ويستندون في ذلك الى الأسس النظرية او المحكات التي يمكن في ضوئها تأكيد ديمقراطية العراق، ومنها تعريفهم للنظام الديمقراطي كما يرد في الادبيات السياسية: هو نظام حكم من الشعب وإلى الشعب، ودستور يصوت عليه الشعب باستفتاء عام، والذي يمثل العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة. يعني حكم الأغلبية السياسية مع احترام حقوق الأقلية، أي حكومة ينتخبها أبناء الشعب عبر صناديق الاقتراع بشكل دوري، فيختارون ممثليهم، أي النواب (أعضاء البرلمان)، وهؤلاء بدورهم يختارون السلطة التنفيذية، وهم الذين يسنون القوانين وفق الدستور. ومن سمات الدولة الديمقراطية أيضاً، الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، ووجود أحزاب سياسية، ومنظمات المجتمع المدني، واحترام حقوق الإنسان، وإعلام حر، وحرية التعبير والتفكير، والتظاهر والإضراب، وحرية المعتقد والأديان، ويرون ان هذا متحقق في العراق.
ما يعنيننا قي المقام الاول هو الأداء او محتوى العملية السياسية الضامن لبناء الديمقراطية وتنفيذ مقوماتها، فاليوم في العراق وبعد عقد ونصف من سقوط الدكتاتورية تأكد لشعبنا أن الدستور كان محطات ألغام، وأن الشك طال كل الانتخابات البرلمانية السابقة، من تزوير وحرق للصناديق والعبث بأرادة الناخبين وضعف المشاركة في الانتخابات وانعدام متزايد في الثقة باغلب الاحزاب السياسية، كما اصبح الحديث عن الفصل بين السلطات الثلاث ضرب من الخيال، والتجاوز على الحقوق الاساسية للمواطن العراقي لا يمكن حصره في امثلة عابره، التضييق بشتى الوسائل على الاعلام الحر والاعتداء على الصحفيين، الصراعات الاثنوطائفية سياسية اغرقت المشهد السياسي، والمحاصصات الطائفية السياسية والعرقية هي المصدر لتشكيل اغلب السلطات الرئيسية، والفساد الاداري والمالي وسرقة المال العام واهدار الثروات هو سيد المشهد العام لأكثر من عقد ونصف من الزمن، انتشار الميليشيات والعصابات المسلحة وأقحامها في العمل السياسي أحد مصادر الديمقراطية الهشة في العراق، والفضائيات وسعة انتشارها واجندتها ومصادر تمويلها وخطابها اسئلة تثير الكثير من الشكوك حول الديمقراطية في العراق، فهل هي حرية مرتبطة بضرورات الديمقراطية أم معوقة لها.
لعل نظرة متأنية وموضوعية منطلقة من روح الحرص على الوطن، تؤكد لنا أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية،حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل " علم السياسة " لإدارة شؤون البلاد،مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
كما أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد،بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك، أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ،بل تؤسس إلى " إفساد للتنمية "، وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل، وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه. فالحديث اليوم يجب أن ينصب على الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي " للديمقراطية " لا على مدى توفر الأطر الشكلية لها والمجردة من الكفاءة في الأداء.
أن من ابرز معضلات العراق في بناء ديمقراطية مستقره تنمو بالتقادم هو القوى السياسية التي ترى الديمقراطية وسيلة للأستحواذ على السلطة وترى في الدولة والحكم غنائم بعيدا عن مفهوم التدوال السلمي للسلطة كمدخل لأستقرار العملية الديمقراطية، وهي لا تؤمن في الديمقراطية السياسية ولا في التعددية الحزبية، فكيف من لا يؤمن بالديمقراطية ان يبني الديمقراطية. وكذلك تشوهات الوعي المجتمعي وتعرضه لمحاولات الغسيل الدماغي والتشويه، وهذا ليست وليد اللحظة بل لعقود خلت قبل اسقاط النظام السابق، غاب فيها الفكر النقدي وضاقت فيها خيارات الناس، واليوم يستخدم خلط المقدس بالمدنس واستغلال مشاعر الشعب لزج الدين في السياسية وتحويل خيارات الناس صوب بدائل معوقة للديمقراطية والاستقرار السياسي. وكذلك ارتهان العراق واستقراره للأجندة الاقليمية وفرض ارادات خارجيه عليه وتحويله الى ساحة لتصفية الحساب بين الاطراف الاقليمية والامريكية، وهذا بطبيعته يلغي فرص الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وبمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية فأن الابتعاد عن نهج المحاصصة الذي التمسه شعبنا بوضوح واكتوى اكثر من خمسة عشر عاما المنصرمة، وتحويله من نهج انتقائي/مصلحي إلى نهج مشاركة سياسية حقيقية هو التعبير العملي والأمثل عن العقد الاجتماعي الطوعي، إذ تعيد المشاركة السياسية البناءة إنتاج العقد الاجتماعي كسلوك يومي، أي إعادة إنتاج الوحدة الوطنية كمفهوم سلوكي ـ معرفي وعقلي في الممارسة السلوكية اليومية، وليست شعار اجتراري خبره شعبنا لعقود سلفت، وأن الوحدة الوطنية في كل الفلسفات الإنسانية ركيزة أساسية لا يمكن العبث بها وعرضها في سوق النخاسة السياسية،بل لعلها أهم منجزات الحداثة، وما يترتب عليها من اعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف فئات المجتمع وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي في بعديه المادي والروحي، ونعني به الإنتاج والاستهلاك والتوزيع العادل للثروات، وهي التعبير العملي عن المواطنة الدينامية الحية، وأن المشاركة السياسية الشاملة هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية، ويشكل هنا اعادة بناء أسس العملية السياسية وفي مقدمتها الدستور وقانون الانتخابات وقانون الاحزاب وغيرها مدخلا لازما لتصحيح مسار الديمقراطية وضمان استقرارها وثرائها وتقدمها. وليكن اليوم العالمي للديمقراطية حافزا قويا لمن يعز عليه العراق وبقائه وطن صالح للجميع.