كنت مرة جالساً مع معاون مدير عام تربية الكرخ السيد (… ) في مكتبه في المديرية قرب نهاية الدوام الرسمي، حيث كانت تربطني به علاقة عمل وزمالة قوية، وقد نتبادل الآراء والمقترحات والمبادرات من أجل تطوير العملية التربوية، ورغم انه رجل وطني يمتاز بانحيازه الكبير الى النزاهة ونكران الذات الى جانب كونه رجلا مؤمنا ( متدينا ) دون تطرف لكنه متحرر عن تلك الظواهر السيئة كالطائفية وكل ما يدور من فساد في إدارة البلد.

 ولهذا فإنه في نظر البعض ممن يحيطون به لا يسير في خطهم العام، علماً بأنه معروف مخلص في مهنته لا يتقبل الوساطة ويستهجن الرشوة و المحسوبية وفي نظر ذلك البعض ان هذا هو عيبه الوحيد، فانه دائما على جانب كبير من الحق ويبتعد في عمله عن المحسوبية والوساطة في تمشية المعاملات وخاصة ما يتعلق بعمله كالنقل والتنسيب والتعيين وغيرها.

 وكنت انا اميل له كثيرا واعتز بصداقته ليس لكونه من زملائي، ولكن لانك قلما تجد شخصا بهذه المواصفات في ايامنا هذه، فكنا نتداول ونتحدث في امور الحق وعلوّه وسموّه على الباطل، فالعدالة بين المواطنين في كل مجالات الحياة أمر ضروري وإنساني. ولكونه على حق فقد كان لا يطيق من هم حوله من النماذج الأخرى.

 تعتبر التربية والعملية التربوية مصدراً لإشاعة العدل وفرص التكافؤ والنزاهة كونها على تماس مباشر مع جميع شرائح المجتمع، فكان لابد من احقاق الحق فيها ونبذ الباطل والإخلاص في العمل ولأن العملية التربوية عملية بناء الأنسان وبناء جيل المستقبل، فأي خطأ او تهاون او فلتان يؤدي الى هدم جيل بالكامل.

 اثناء ما كنا نتحدث في امور تربوية مرَّ رجل من امام باب غرفته التي لم أرها يوماً تغلق بل تبقى مفتوحة امام المراجعين طيلة ساعات الدوام الرسمي وحتى انتهائه، ويستطيع أي مراجع دخولها دون استئذان.. مر رجل معمم، سلم وخاطب السيد المعاون قائلاً : (.. هاي وحدة وياك ابو فلان، بسيطة، شلون تتكلم هكذا كلام؟)، إبتسم المعاون في وجهه ابتسامة باهتة، ولم يرد عليه ، أما أنا فالتزمت الصمت اعتقادا مني أن الموضوع يخصهم و لعل للرجل المعمم موضوعا خاصا لا يريد التحدث فيه بحضوري.

وبعد أن غادر ذلك المعمم، التفت اليّ السيد المدير وقال لي: أتعرفه؟ قلت لا ، قال هذا المعمم كان يتحدث معي قبل حضورك، وكان يشكو ويتذمر من الأشخاص الذين يعملون معه وحوله في العمل، ومن عدم اخلاصهم وجديتهم في العمل، وحتى أنهم كانوا يسرقونه، ويسرقون اموال مشروعه الفتي. وأضاف السيد المعاون وقال: طلب مني الرجل المعمم قائلاً بالنص: اريدك ان تقف معي وتساعدني، فقلت له انا مستعد بما أستطيع ، ولكن كيف ، قال المعمم ان تنتقي لي وحسب معرفتك اشخاصا يعملون معي وعلى مسؤوليتك في اختيارهم. اريدهم امناء، مخلصين في عملهم، ذوي اخلاق عالية، جادين، قلت له هل حقاً  تريد نماذج بهذه المواصفات، قال المعمم: نعم لأني  أريدهم باختيارك انت، لأني اعرفك وأثق بك ومتأكد انك تعرف هكذا اناس، قلت له : ( وما يزال الكلام للسيد المعاون ) اختر شيوعيين لعملك وستنجح ويتطور عملك وستأمن على مالك وأموالك وحلالك ومصالحك.

 قال السيد المعاون التفت إلي المعمم مبحلقاً وقال لي ( هل انت جاد في ما تقول ؟ وهل انت من يقول لي ذلك ؟  قلت : نعم وما المانع ، وما الغريب في كلامي ؟  وستنام وانت مطمئن. وستغمض عينيك وانت مطمئن. قال المعمم : ( ما اتوقع منك ان تختار لي شيوعيين ) قلت له (  ولم لا؟ انت طلبت مواصفات خاصة وغير متوفرة بمن استخدمتهم وانا وفرت لك عناء البحث، فإن هؤلاء هم  النخبة وانا اتحمل ما أقول وأتحمل مسؤوليتهم).

  لم انطق وقتها بكلمة فلم اكن اريد ان اضيف الى ما طرحه السيد معاون مدير التربية والى رده على ذلك المعمم

بعدها وخلال وفي اقل من شهر، دبّر لهذا المعاون امر بليل، ونقل الى دائرة اخرى تبعد ما لا يقل عن عشرة كيلومترات عن مكان سكنه في مدينة بعقوبة.

 وبعد فترة اتصلت به فأخبرني انه يعاني  ضغوطا جديدة ومختلفة في مكانه الجديد ومساومات بشأن ترقيته الى مدير عام للتربية، (وهو ضمن استحقاقه) عرضوا عليه ذلك ولكن بشروط مسبقة وضوابط واملاءات غير رسمية، وقال لي مضيفاً: رفضت، ولن اركع للباطل مهما حصل وانا مصرٌ على المضي في طريق الحق وقول الحق …ولا شيء غير الحق.