استعرتُ عنوان كتاب الناقد الراحل محمد الجزائري الصادر في سبعينات القرن المنصرم ، والذي يتحدث عن الشعر الحديث آنذاك ، لأتحدث عن التجاوز في معمار البناء سكنياً وتجارياً في البصرة ، وحملة إزالة التجاوزات التي أطلقها المحافظ مؤخراً لتنظيف المدينة من العشوائيات التي شوهت جماليتها.
قديماً قالوا: العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق ، لما فيها من موارد طبيعية وخيرات كثيرة ، ولكونها بوابة العراق البحرية على العالم وتحدّها ثلاث دول مجاورة..
كانت ولا تزال محط أنظار الناس جميعا لما فيها من خيرات. فالنفط الذي أصبح نقمة عليها وليس نعمة بفعل مخلفات الشركات النفطية والدخان والغازات المنبعثة وما تسببه من أمراض ، دون أدنى فائدة تذكر لأهلها ، والثروة السمكية والبحرية وما يلاقيه الصيادون من منع وتجاوز الآن من قبل سلطات الدول المجاورة ، ما أدى إلى انحسار الصيد واعتمادنا على المستورد وما تجود به أنهارنا وبحيرات التكثير.
ولا يمكن نسيان غابات النخيل بأنواعه في الاقضية والنواحي ، وما حدث لها من تجريف وموت جرّاء الحروب العبثية، وأعمال تحويل الأراضي الزراعية إلى مناطق سكنية بفعل البيع العشوائي ، وملوحة مياه الشط وموت النخيل.
إضافة إلى موانئها وشركاتها الصناعية وتجارتها البحرية والبرية ،
المغريات المعيشية هذه كانت ومازالت تجعل الآخرين يولّون وجوههم شطرها طلبا للعيش والسكن الآمن ــ لما يتحلى به أبناء البصرة من أخلاق وطيبة وإنسانية وكرم وحسن جوار، ما حدا بأبناء المحافظات القريبة منها والذين يرتبطون مع البعض من أبنائها بصلة القربى والنسب المجيء إليها والإقامة فيها منذ خمسينات القرن المنصرم لينصهروا مع أبنائها وتنشأ مناطق وأحياء سكنية جديدة وتتوسّع المدينة شرقا وغربا.
لكن بعد 2003 حدثت هجرة كبيرة لمن يريدون العيش والعمل فيها ، فجاءها الكثير طلبا للرزق والعافية. البعض منهم لم يجدوا مكانا فاضطروا الى أن يبنوا بيوتهم عشوائيا في الساحات الفارغة وقريبا من الشوارع الرئيسية وبين الأحياء السكنية ، مزاحمين أبناء المدينة الأصليين ومن سكنها سابقا منذ القرن الماضي ، الذين كبرت عوائلهم وما عادت تسعهم البيوت الحكومية وذات المساحات الصغيرة وغيرها !
العشوائيات أو بيوت وأسواق التجاوز لم تظهر عبثا ، بل جرّاء سياسة وتخطيط خاطئين ، وانفلات أمني ، وانعدام وعي حقيقي من قبل الجميع.
قبل 2003 لم يفكّر النظام الفاشي الساقط سوى بالحروب والقمع والمطاردات والاعتقالات لأبناء الشعب ، متناسياً أهم فقرة من حقوقهم وهي السكن الملائم والعيش الرغيد.
وبعد 2003 لم يفكّر مسؤول بأهمية البناء والعمران وإعطاء المواطن حقه الطبيعي في السكن الملائم والعيش الرغيد أيضاً. ونتيجة للفساد المستشري في كل مفاصل البلاد كثرت العشوائيات والتجاوزات هنا وهناك في بناء المساكن والمحلات وغيرها ، لهذا تشوّه منظر المدينة وضاعت جمالياتها وما عادت تسرّ الناظرين ، وكثرت الحوادث والأفعال غير المحمودة.
ان الحملة التي أطلقها محافظ البصرة برفع التجاوزات وإزالتها تستحق الترحيب ، وان على الجميع الوقوف معها لإعادة جمالية المدينة التي كانت ولا تزال محط أنظار العالم ، ولكن علينا أن نفكّر بأماكن بديلة لمن أصابهم الحيف سابقاً ولاحقاً، وباتوا بلا مأوى ولا سكن لائق ، منهم المستأجرون والمتجاوزون والذين ينوءون تحت عب تكاليف الإيجارات والتشرد. علينا ان نقوم ببناء مناطق سكنية أو توزيع قطع أراضي تليق بهم وأسواق تليق بجمالية البصرة ، كي لا يكون التجاوز مقبولا شرعا وقانوناً..