الفرد الذي يعيش طيلة حياته في بيئة مغلقة ، يظل خاضعاً للتنويم الإجتماعي في كِبَره الى مماته ( لمحات إجتماعية – د. علي الوردي )

التخلف الفكري

كما وضحنا في الحلقات السابقة أن الحقبة العثمانية هي نواة بداية التخلف والإنحطاط الإسلامي بعد إن كان رائداً خلال حكم الدولة العباسية . والسبب هنا يعود الى تغلغل الموروث الإسلامي الآسيوي الرعوي (الإسلامبدوي) بقيم التخلف الإقتصادي والفكري والقانوني ، الذي إعتمدت على خلط العلوم الطبيعية بالفكر الديني . فقد أصبح علماء الطبيعة في الطب والرياضيات والكيمياء والفيزياء وحتى علماء الإجتماع خاضعين بكل نتاجاتهم العلمية والفكرية والعقلية لرجال الدين وقضاتهم ووعاظ سلاطينهم . وظل المسلم أسير هذا الكهنوت وخاضع لسطوته وجبروته ، فأصبح عاجزاً عن تفكيك وإزالة بنية العقل المحافظ الذي أدى به الى التخلف الفكري .

 في القرن الخامس عشر الميلادي ، أخترع العالم الألماني غوتنبيرج أول آلة كاتبة ، وكان الإنجيل أول كتاب يتم طباعته عام 1455 م . وبعد حوالي ثلاثين عاماً من إنتشارها في أوروبا ، أصدر سلطان المسلمين وخليفتهم في اسطنبول فرماناً ( قراراً ) رسمياً يمنع إستخدام المسلمين للآلة الكاتبة ، خوفا على طلاب العلم من ترك النَسْخ بإيديهم الذي يستفيدون منه في الإستذكار والقراءة والحفظ ، وخوفاً على القرآن من التحريف ، وبعد هذا الفرمان ، قام مفتي الدولة العثمانية بإصدار فتوى بتحريم إستعمال الآلة الكاتبة الجديدة ، وتكفير من يقدم على الطباعة . فتأخرت الطباعة بسبب هذا القرار والفتوى التي لحقته عن العالم الإسلامي لمدة تزيد عن المئتين سنة ( أكثر من قرنين ) .

وفي بداية القرن العشرين عام 1914 كان مجلس ( المبعوثان ) العثماني يريد أن يناقش جباية الضرائب ، وكان جزء منها خصص للأئمة الذين يقرأون كتاب البخاري للأحاديث النبوية في البواخر ، فنهض الشاعر العراقي الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي وكان حينها نائباً عن بغداد ، صارخاً : { إننا نعرف أن البواخر تسير بالبخار لا بالبخاري ، فلماذا لا تُنفق تلك الواردات على نشر التعليم ليتقن الناس إستعمال البخار ما دام هو الذي يسيّر البواخر ، بدل أن ننفقها على قراءة كتاب البخاري الذي ليس له في تسييرها منفعة }  وبعد ان إنتهى من كلامه " ضج المجلس وكال له المتدينون ألفاظ الكفر والإلحاد ، وهجم بعضهم عليه يريدون ضربه " (1) . أنا جئت بهذين المثالين كدليل على خوف المسلمين وخشيتهم من أي جديد ، سواء كان أختراعاً أو أكتشافاً أو نظرياً أو فكرياً .

فالجمود الفكري يتفشى في المجتمعات التي يهيمن عليها فكر المقدس النابع من تقاليد الميت والموروث الماضوي ذو العقلية البدوية الرعوية الذي سيطر على الفكر الديني ، هذا الفكر أصبح بمرور السنين أن يكون هو دين الإسلام ، وتتفرع منه شرائعه المختلفة ، وما على المسلمين إلاّ الطاعة والجهاد في سبيله والفوز بيوم الآخر ، وما الدنيا إلاّ " عفطة عنز " . وهنا على المسلم أن يلغي عقله الدنيوي المتنوّر للحياة ، ويبدله بعقل آخر ليس عقله بل أتى به غيره ليمارس الوصاية عليه، ويتحكم به كيفما يشاء ، ويوجهه حيثما يشاء نحو عالم الغيب والقضاء والقدر ، وعلوم القبور والجن والشياطين وما يحدث في الظلام والكهوف ، ليطير بمخيلته الى (السماء السابعة) تاركاً وراءه الحياة الدينا بكل ما فيها من علوم وملذات ومتعة وقلق  .

 فبقيت حياة المسلمين ثابتة لا تتغيّر من قديم الزمان الى الآن  " لأن العقل الفقهي الإسلامي لا يزال يرى ذاته مالكة للحقيقة المطلقة المتعلقة بالمقدّس ، وتصدر عنه في قضايا الشرح والتأويل " (2) لما يخص كل مفاصل الحياة ( الروحية ) التي تحدد مصير المسلم يوم الآخر ( القيامة ) ، والويل والثبور لكل من يحاول مخالفته أو نقده أو المساس به ، لأن الإختلاف في نظر هؤلاء الفقهاء هو جسم غريب في جسد المقدّس يستدعي التحريم والتجريم فالتكفير وينتهي بهدر الدم . ولا ثمة رأي هنا يحمي رجال الدين المتنورين والعقلانيين الذين يحاولون كسر الحواجز والأسوار والسدود الفولاذية التي طوقت العقل وكتبلته ، وألغته بالكامل ، فتحول الإنسان المسلم الى مقلِّد تابع مطيع ، يمشي كفرد من أفراد القطيع الى حيث لا يدري ، ولا يرى أمامه سوى عتمة القبور وأنواع التعذيب فيها ، وإفلام الرعب لقصص ( كتاب الكبائر ) لمخرجين ذوي عمائم متعددة الألوان ، كفوئين يجيدون الإخراج والسيناريوهات ، عجزت (هولي وود) عن إنتاج أفلام تضاهي ما أنتجته عمائم المسلمين من أفلام الرعب التي تم تصويرها داخل القبور ، كأفلام وثائقية يرعبون بها المشاهد المسلم ، وتصور له حالة الهلع بين الموتى من قسوة التعذيب والعذاب ، من دخول القبر الى يوم الحساب .

مما قدمناه ، ومن جراء الصور المرعبة التي أنتجتها مراكز الفقه الإسلامي بالتعاون مع السلطات الحاكمة التي على ضوئها كُبِّل العقل وألغي دوره ، نتج عنها التخلف الفكري والجمود العقائدي . وإلاّ ، ما تفسير أن هناك أمة إسلامية عظيمة في وزنها الرقمي العددي ، يزيد تعدادها عن المليار إنسان ، ولكن لا قيمة لهذا الوزن ولا يساوي شيئاً أمام الشعوب المتقدمة علمياً وتكنولوجياً وحضارياً . فالتخلف الفكري هو السبب الأرأس في التخلف الإجتماعي والإقتصادي والسياسي . ولا يمكن لأية أمة مهما كبر عددها أن ترى النور ، إذا لم تتخلص وتقضي على أسباب التخلف الفكري .

والقضاء على التخلف الفكري ، لابد أن يكون بالتنوير والرجوع الى العقل والتجربة والشك والإنفتاح الى العالم الأوسع والرحب ، ولكن كيف يتم ذلك ، والمسلمون يصطدمون بمشكلة في مفهوم النور والتنوير ، لأن المفكرين الإسلاميون وفقهاء الإسلام عندما يتكلمون عن مفهوم التنوير " يذهبون مباشرة الى أنوار الإيمان وهدايات الإسلام ، ولا يعترفون بالتنوير بمفهومه الحداثوي العصري ، ويرفضونه على الأغلب بحجة أنه مفهوم أوروبي ويشكل خطراً على الإسلام ، ولا يبعدون شبهة التآمر على الأمة الإسلامية ، وتسميم عقول المسلمين" (3) .

وكأن الله كتب على المسلمين أن يحافظوا على تخلفهم الى يوم الدين .. فلماذ كل هذا الخوف والتخوف من كل جديد يأتي من خارج الإطار الإسلامي ، وما الذي جعل المسلمين يعيشون في تردد وهلع وخشية من التقارب مع الشعوب الأخرى التي سبقتهم بمئات السنين من التطور العلمي والتكنولوجي ؟ فالجواب هنا ،لأنهم يخشون التجديد في الأفكار ، ويفضلون الطوباوية في التفكير ، ليحلّقوا بعيداً الى السماوات ، وينشئون في مخيلتهم مُثُلاً ، ويسعون لتحقيقها وهي بعيدة المنال أو بعيدة جداً عن الواقع الذي يعشون فيه.

فالانحطاط لا يزال قائماً، ثم جاءت له الموجة الجديدة بتعزيز التخلف عبر التدين الجاهل والتقليد ألأعمى ، أو بسبب الاستنزاف المميت، لثقافة سطحية وانقسامات مذهبية طائفية ذات صراعات همجية، يغذّيها الاستبداد أو جهل المسلمين ، ما أدى الى غياب صناعة الفكر الجديد نتيجة لحجم الفراغ والأزمة، التي يعيشها العقل المسلم . أي أن التنظيم الاجتماعي الإسلامي الرعوي الخاضع لمعايير التقاليد القبلية البدوية يكون في العادة أكثر تأخراً من الناحية العلمية والتكنولوجية ، وأكثر إنغلاقاً على العالم الخارجي، وأقل إنغماسا في قضايا التعليم ، وأقل واقعية في التفكير . وقد إختصرها الدكتور علي الوردي : الحياة البدائية المحافظة يسودها التقليد ، بينما نرى الإبداع يسود حياة المدنية .

فالدين الإسلامبدوي يؤسس مجتمع محافظ لا يستطيع أن ينتج المدنية ، وإنما ينتج مجتمعاً متخلفاً ، لأن هكذا مجتمع قد تعود على الكسل والبلادة والترهل ، والقَدَر يُسيّر شؤون حياته اليومية ، على مبدأ ألإمام الشافعي الذي يقول :

دع الأيـام تفعـل مـا تشــاءُ               وطـب نفسـاً إذا حَكـمَ القضــاءُ

الهوامش :

1 –  البواخر تسير بالبخار لا بالبخاري – مقال للباحث رشيد الخيون

2 - الإسلام كبديل ....   الدكتور مراد هوفمان ( الماني صار مسلماً )

3 -  سبب انحطاط المسلمين وتخلفهم .... المفكر الإسلامي د. شكيب أرسلان

عرض مقالات: