ما برحت المفاجئات تصدمنا يوميا وبشكل يهدّ كل الآمال التي نبنيها، والمستقبل الذي نتشبث به ببناء الوطن، وتقوية اللحمة الوطنية، وتقريب وجهات النظر المتطاحنة لعقود، وتغذية الإحساس الوطني المطلوب للانتماء الحقيقي، دون سواه، ليكون فوق الانتماءات المذهبية والطائفية والعرقية والقومية والدينية، لأن الوطن أينما حللنا وحيث ارتحلنا، يبقى هو الخيمة التي تحمي الجميع من لفحات المحاولات اليائسة التي تبث روح الفرقة والاقتتال وتغذية النعرات أيا كان نوعها وشكلها، اذا ما توفرت لدى المواطن وشيجة الانتماء للعراق الذي لا تعوضه اية بقعة كونية، والمشردون ممن كانوا بالأمس مشتتين في اصقاع الدنيا وتعدد المنافي، وتحديدا ممن يسعّرون التفرقة اليوم، اعرف من غيرهم مهما بلغت بهم العصبية والطائفية والأهداف المغرضة، بأن العراق يظل يستوطن وجداننا ونزوعنا الوطني دون استثناء، ومهما بلغت بنا حالات التشرد والنزوح والبعاد القسري عنه، وعن ترابه المقدس، حيث لا يختلف اثنان مهما تباعدت بهم الأزمنة والأمكنة ومهما لحقهم من حيف وتابعتهم سياط الجلادين، بأن مآلهم وبيتهم وخيمتهم هو الوطن، رغم ما نالوه واكتسبوه من امتيازات ومنافع لا حصر لها، كما يحدث اليوم، وما يتشبثون به من ايمان ودفاع عن مبادئهم وقناعاتهم أيا كان لونها وطعمها، بضيق أفق وتخندق طائفي، بأن ملاذهم الأخير العودة للوطن الأم، ورحم الله طيب الذكر المتنبي العظيم القائل:
كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى*** وحنينُهُ أبداً لأولِ منزلِ
ولهذا البيت الشعري حكمة وعظيم معنى، قد لا يعيها من باتت بصيرته رهينة بانتماءاته المذهبية والطائفية بشكلها المتعصب والطارد للآخر ممن يغايره بذات القناعات أو باختلافها، ناسيا أو متناسيا، وهو الأعم الأغلب، بأن العراق يبقى فوق كل انتماء واسمى من أية اعتبارات، وهذا يتأتى من عمق الوعي المعرفي والتكوين الفكري والتربية الأخلاقية الرفيعة، وغيرها من قيم المواطنة التي تدفع المرء بالتشبث بوطنه ومواطنه وأبناء جلدته قبل أي اعتبارات شخصية، ونود أن نذكّر الأخوة ممن يخالفوننا الرأي والقناعات والتوجهات، وتحديدا نحن المنفيين قسرا وظلما وعدوانا بسبب سياسات الحكم البعثي الفاشي المجرم ولعقود طويلة، نذكّرهم قبل أن نذكّر انفسنا، كم مرة انهمرت دموعنا وبكينا بحرقة ما بعدها حرقة وبنشيج اليتامى، ما أن يتناهى لأسماعنا أو نسمع أغنية أو نشاهد فيلما وثائقيا عن العراق، فنعانق بعضنا للبعض الآخر، تجمعنا محبة الوطن وهي من أقدس الحالات الإنسانية، وكم من مرة وقفنا مع الهاربين الجدد من لفحة سياط البعث المجرم والمهددين بالموت والمحو، فاستقبلناهم في بيوتنا ووسط عوائلنا وفتحنا قلوبنا لهم وقاسمناهم لقمة العيش وهان علينا أن نتركهم ومصيرهم للمجهول، وهم لا يحتكمون على أي عون أو حضن دافئ، حيث لا بديل لهم، إما أن يعيشوا معنا ويشاركوننا ذات التقتير في العيش واكراهات الحياة الصعبة للغاية، أو نتركهم عرضة للتشرد والحرمان والمجهول وهذا ليس من شيمنا العراقية، حيث كانوا مهددين بالعودة للعراق والقمع البعثي على أشده، فتصوروا ماذا سيكون مصيرهم، وهنا أنا أتكلم عن منافينا في الدول العربية وما يخصني شخصيا في المغرب، دون أن نعرف انتماءاتهم وتوجهاتهم ودينهم ومعتقداتهم، وكان من المعيب أن نسألهم عن ذلك، وزيادة في العلم، بأن بعض من لجأوا الينا كانوا من حزب الدعوة، وآخرين من الرفاق الشيوعيين الفارين من بطش السلطة، فتحولت بيوتنا الى ملاذات، أسماها بعض الأخوة المعارضين بالسفارات الوطنية. وشتان ما بين سفارات النظام القمعي، وسفاراتنا الوطنية، وهي بمثابة بيوتات نعيش فيها نحن وأسرنا.
الهدف من هذا الاستطراد، أننا نوجه كلامنا لبعض من يرفع شعارات العداء لتيارات وطنية عراقية قدمت عبر تأريخها النضالي المعمّد بالدماء على مذبح الحرية قوافل لا حصر لها من الشهداء، وما قدموه من تضحيات هائلة، أولئك الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل الحرية والانعتاق من ربقة اشرس نظام قمعي كوني في التاريخ، لم يكن يفرّق بين عراقي وعراقي أبدا، حتى امتدت اذرع الموت لأقرب المقربين له، بعد أن شبع قتلا ونحرا وتغييبا لكل احرار العراق بشتى انتماءاتهم ومذاهبهم واحزابهم ودياناتهم ومشاربهم، فمن ينكر قوافل الشهداء الذين غُيبوا في زنازين الموت وعلى اعواد المشانق من ذوي الاتجاهات الإسلامية وتحديدا من أعضاء حزب الدعوة الإسلامي الذي قدم آلاف الضحايا ظلما وعدوانا؟ ناهيكم عن قوافل الشهداء من بقية الأحزاب والانتماءات والمكونات العراقية الأخرى ومن شتى الانتماءات والاتجاهات الوطنية، وفي مقدمتهم مناضلي الحزب الشيوعي العراقي المكافح. فهل ينكر تلك التضحيات الجسيمة من يشن اليوم حملات تكفير وتحريض لإبادة الشيوعيين والعلمانيين والمدنيين، في الوقت الذي كانوا بالأمس رفاق طريق واحد للتخلص من شرور الدكتاتورية، فما الذي حصل ليقلبوا ظهر المجن بهذه الطريقة السادية والعدوانية؟
والأنكى من هذا تسخير وسائل اعلامهم بشكل متواصل لشن هكذا تحريض يصنف ضمن حملات إرهابية خطيرة لإباحة الدم العراقي المقدس.
هل ينكر اثنان من العراقيين آلاف الشهداء من الشيوعيين الذين ضحوا بأرواحهم قرابين على مذابح الحرية وكرامة العراق ودفاعا عن شعبه المظلوم ببطولات اذهلت القتلة والمجرمين، يشاركهم في ذات المصير قوافل الضحايا من المدنيين والعلمانيين والأحرار الرافضين لسياسة التدجين البعثي وما فعل ازلام البعث من مهرجانات قتل بشعة يندى لها جبين كل شرفاء العالم المحبين للسلام والحرية والكرامة الإنسانية؟ دون أن ننسى ضحايا الأحزاب الدينية الذين لا حصر لهم، وفي مقدمتهم شهداء حزب الدعوة، الذي تغيرت بوصلته بشكل غريب، بين ليلة وضحاها، متنكرا لدماء ضحاياه الطاهرة.
لتأتي مرحلة ما بعد التغيير فتزول الغمة ويستبشر العراقيون المظلومون من هيمنة السلطة الفاشية وأساليبها القمعية المخيفة، وفواجع ما أتى بعدها لا يخفى على أحد، قد نخصص له فصولا من القراءات، لتوثيق كل التفاصيل بحلوها ومرها، رغم أن مرارتها طغت وبشكل مؤلم وحزين على حلاوة الانعتاق من سياط البعث المنهار.
هنا دعونا أن نعرّج على زبدة الموضوع، ذلك أن الملابسات التي حدثت على الوضع السياسي العراقي لما بعد التغيير، قلب كل الموازين باتجاه تسويف وافساد فرحة العراقيين بالتغيير، بتسلط أحزاب طائفية ومذهبية، اتسمت وبشكل يثير الاستغراب والدهشة، توزيع حصص ما نالوه من امتيازات على منتسبيها ومقربيها وكل من يدور في فلكها، وكأن عجلة التاريخ عادت من جديد بتذكير المتضررين، بأن ذات الاستحواذ البعثي وبلادته عاد مرة أخرى بصيغ جديدة لتتناسل أحزاب السلطة، كما الفقيع البري، لا نعرف سلامته من تسممه، فاختلط الحابل بالنابل.
كنا ننتظر من هذه الأحزاب أن تنفتح على كل المكونات والطوائف والهيئات التي لم تنل حظها من سلطة القرار، وان يكون التوزيع عادلا اعترافا بما قدمته هذه الأطراف من تضحيات ابان الحكم الصدامي سيء الذكر، ولكن انانية وطمع ونزوع أحزاب السلطة بالاستحواذ على خيرات البلد، لا باتجاه البناء وإعادة تأهيل البنى التحتية المدمرة، بل بإشاعة الفساد وتبديد الثروة الوطنية وصعود أحزاب وشخصيات الى مصاف الأثرياء بين ليلة وضحاها، لتبقى دار لقمان على حالها، أحبط كل أمل بالتغيير نحو الأفضل. والامضى والأمر وبعد مرور ما يناهز العقد ونصف العقد من زوال النظام الفاشي، نجد أن بوصلة التغيير تتجه من سيء الى أسوء، وهذا أمر أدخل العراق في نفق مجهول وخطير بات من العسير الخروج منه.
كل هذا ولم تسلم القوى المدنية والعلمانية من أسلحة التحريض ضدها وتأليب الرأي العام وتحديدا البسطاء من الناس عليها، وكأن سبب البلاء وحجم الكوارث المخيفة التي مرت في العراق، سببه القوى العلمانية التي لا ناقة لها ولا جمل بما عم من فساد ونهب الثروات الوطنية، وظهور حيتان ثراء همها تهريب ثروات البلد وتبييض العملة بشكل فاق التصور، وما نسمعه من حين لآخر بحجم ما تستحوذ عليه هذه الأطراف الفاسدة من ثروات العراق المشاعة بين "شعيط ومعيط"، ما يشيب لها رأس الرضيع.
اليوم نقترب من وقت الانتخابات ويعقد العراقيون المستضعفون وفقراء الوطن الجريح، أملا قادما قد يكون طريق الخلاص من هول ما ينتشر من فساد، فتنهض قوى الخير والوطنية الحقة لتتبنى التغيير المبارك وكنس الفاسدين ووضع البلد المنهار على المسار الصحيح بجهود يشيد بها الجميع، بوضع برامج من شأنها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، بعد مسلسل الخراب على ايدي الفاسدين والناهبين لقوت الفقراء.
وبالمقابل تتحرك أفاعي السلطة لتنفث كل سمومها بمخاطبة العقول الهشة، بان هذه التيارات العلمانية والمدنية والحزب الشيوعي، هم، وحسب توصيفهم الظالم وغير الأخلاقي، أنهم دواعش جدد ينبغي مجابهتهم ومحاربتهم بكل الأسلحة الممكنة، بما فيها توجيه السلاح لمجابهتهم، وهذا تحريض علني سافر وعدواني وخطير، من شأنه، بل يقينا سيثير الفتنة ويفتت لحمة العراقيين، في وقت يكون العراق بأمس ما تكون له الحاجة لتعضيد تلاحمه ونزع فتيل الفرقة والخلافات بكل أنواعها، إن كانت فكرية أو مذهبية أو عقائدية أو حزبية.
إنما قوى الفساد والخراب وأصحاب الأجندات الخارجية ومن في قلوبهم مرض، شعروا بأن رياح التغيير قادمة، وأن كنس اللصوص على الأبواب، وبالتالي حرمان الفاسدين وناهبي ثروات الوطن من أية امتيازات أو سلطة، بعد أن اخذ وعي المواطن العراقي يتنامى بالتخلص من شرورهم، فراحوا يشحذون أسلحتهم الخبيثة وبشكل وقح ضد قوى الخير والتغيير القادم من العلمانيين والمدنيين والشيوعيين، فلا غرو أن تتحرك أحقادهم وسمومهم وخبثهم الدفين باتجاه محاولات افساد مشاريع التغيير المباركة التي ينتظرها كافة العراقيين، بعد ان يكون الفاسدون والمخربون قد تم تحجيمهم ورميهم في مزبلة التاريخ.
يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير "قد أكون مختلفا معك في الرأي ولكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك" لنسترشد بهذا القول الحكيم والعظيم من مفكر يعتبر أحد أعمدة النهضة الحديثة.
أين هذا من كلام الشيخ الكفيشي ومن يدور في ذات الفلك الحاقد، وتحريضه لقتل المخالفين له في الرأي والموقف؟
ندعوا كافة القوى الخيرة من أحزاب وتشكيلات وطنية مخلصة ومنظمات مجتمع مدني وكل من يريد للعراق أن يكون معافى وخال من الأصوات النشاز، أن يجندوا كل طاقاتهم لإيقاف مثل هذه التخرصات والتحريضات الخطيرة، وبشكل ملح وفاعل، لان الوقت لا يسمح بتمرير مثل هذه المواقف الشاذة التي من شأنها أن تفتح نوافذ خطيرة باتجاه الاحتراب الذي عانى منه العراقيون ما عانوه وقدموا آلاف الضحايا من الأبرياء دونما سبب منطقي، سوى أن تجد مثل هذه الدعوات العدائية أرضية خصبة بين أوساط البسطاء وذوي العقول الهشة، وبالتالي سوف تزحف نار الأحقاد لتحرق الجميع دونما تفريق، وأولهم أصحاب الدعوات الشريرة، فليتعظ ذوو العقول الحكيمة، والعبرة لمن اعتبر.