اثارت الموجة المصطنعة حول تصريحات السيدة هيفاء الأمين جملة من التعليقات التي لم استشف منها غير الضياع الفكري الذي يخيم على الوسط الديمقراطي العلماني الذي تنتمي اليه النائبة الشيوعية عن كتلة سائرون. وسطنا الفكري الذي افتخر شخصياً بانضمامي اليه باعتباره يمثل التوجه الإنساني الذي انتهكه الإسلام السياسي الحاكم في العراق وشلة المطبلين له من احزاب حاكمة انتهازية لصوصية وضعت الدين ستاراً امام انتهاكها لكل القيم التي جاء بها هذا الدين الذي تدعيه. هذا الوسط  الديمقراطي   الذي يفرض عليه الواقع المر الذي يمر به وطننا وشعبنا ان يتحلى بروح الشفافية والتفاهم والحوار المنطقي بين منتسبيه على الأقل لمواجهة الهجمة الرجعية المتخلفة التي يواجهه بها رواد الجهالة والضلالة من مفكري ومنظري الإسلام السياسي واحزابه المليئة بعتاة اللصوص وكبار الدجالين الذين ما انفكوا يواصلون اكاذيبهم على الناس ليسرقوا كل ما لديهم ياسم الدين الذي عبرت عنه الجماهير بشعارها العتيد " باسم الدين باكونا الحرامية " وهي صادقة كل الصدق فيما تقول. وسطنا الديمقراطي هذا الذي يفتش في زوايا بعضه البعض عن اصغر النفايات التي لا يخلو منها اي موقع في هذا الكون الفسيح مهما كانت طبيعة الإهتمام بهذا الموقع ، وذلك لسبب بسيط جداً يتعلق بالجهد البشري الذي لا يمكن ان يكون خالياً من هذه الشائبة او تلك طالما يرتبط ذلك بعمل الإنسان ، الإنسان العامل، إذ ان الذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ كما هو معلوم للكثيرين من رواد هذا الفكر.

مما يؤسف له حقاً ان يحاول البعض من الوسط الديمقراطي بالذات ان يتناول بعض كلمات مريدي هذا الوسط نفسه ليضعها في نفس ذلك الموضع الذي يريده اعداء هذا الفكر من الإسلاميين المتخلفين او الرجعيين الحاقدين او الطائفيين المتطرفين او العشائريين المتعصبين ، تماماً كما جرى التعامل مع مفردات من تصريحات السيدة هيفاء الأمين حينما تحدثت عن التخلف في مجتمع جنوب العراق ، هذا الجنوب الذي كبرنا وترعرعنا وعشنا على ارضه الطيبة وبين اهله الأخيار والذي قدم من الشهداء والضحايا للقضية الوطنية مما يجعلنا نفتخر بالإنتماء اليه حقاً .

لم اعش لقاءً من لقاءاتي داخل الوطن جرى الحديث فيها عن مآسي وطننا وشعبنا لم يجر التطرق فيه الى الظاهرة التي لم يهضمها الكثيرون لحد الآن والتي تتكرر في الإعلام يومياً والتي تشير الى ما يصف الناس الاحزاب الحاكمة والعاملين في صفوفها  به من اللصوصية وانعدام الضمير وضياع الشرف والتوجه نحو الإثراء الفاحش وكل الموبقات التي تخطر على البال ، إلا ان هؤلاء الناس ينتخبون هذه الأحزاب ليس لمرة او مرتين بل لأكثر من ذلك . هذا الموضوع يجري تناوله في كل المجالس الخاصة والعامة حينما يجري التطرق الى المشاكل التي يعاني منها وطننا والتي يعزوها الجميع الى الحالة الفكرية التي تغلب على منتخبي هذه الأحزاب والتي تتأثر بالعواطف والمواقف اكثر من تأثرها بهموم الوطن التي تستوجب تغيير هذه الوجوه الكالحة للسياسيين الحاكمين ، لا إعادة تسويقها لتمارس نفس لصوصيتها وكذبها على من انتخبها وغيره من بؤساء الشعب العراقي . يكاد يتفق المتحاورون في كل لقاء يناقش هموم الوطن واهله على الطبيعة اللاواعية التي تُمارس فيها الإنتخابات والتي تشير نتائجها الى عدم الوعي بالمصلحة الوطنية التي تستوجب التغيير ثم الإصلاح ، اي التخلف الفكري لدى جماهير واسعة تلعب دوراً حاسماً في تحديد مصير العملية الإنتخابية . جميعنا يتحدث عن التخلف السائد بين اوساط جماهيرية غفيرة تقرر نتيجة الإنتخابات ، بالرغم من ارتفاع اصوات هذه الجماهير بالإحتجاجات والمظاهرات المطلبية. فلماذا إذاً يجري التنكر لمثل هذا التشخيص حينما يصدر من انسان يعي هموم وطنه وشعبه كالسيدة هيفاء الأمين التي لا يمكن للكثيرين من شحذوا اقلامهم بالنقد لما اعلنته عن مجتمع تعيش هي في وسطه وبين اهله ان يزايدوا على انتماءها الوطني واخلاصها لهذا الإنتماء.إن اللاوعي والتخلف الذي نتحدث عنه هنا هو النتيجة المنطقية التي نخرج بها جميعاً في مجالسنا الخاصة والتي نتداولها بيننا كنتيجة لسياسة التجهيل والإغراء والتهديد التي تتبناها قوى الإسلام السياسي ومؤازروها في الحكم. فلماذا تصبح هذه النتيجة سبة على من يجهر بها بشجاعة ويشخصها بموضوعية لا في مجالسه الخاصة فقط ، بل وعلى الملأ ايضاً كما فعلت السيدة هيفاء الأمين ، ام كونها شيوعية مناضلة لا يتفق البعض مع انتماءها الحزبي او توجهاتها السياسية بشكل عام؟ هل هذا سبب كاف يحدو بالمؤمن حقاً وفعلاً بالديمقراطية والدولة المدنية ان يتبناه في هذا الوقت العصيب الذي يمر بها وطننا واهلنا ؟

جميعنا يتحدث عن سيادة التقاليد العشائرية التي ادت الى غياب القانون وضياع الدولة بين الدكة العشائرية والفصل العشائري والدية العشائرية والنهوة والثار وعودة كل ما تضمنه قانون دعاوى العشائر الذي قضت عليه ثورة الرابع عشر من تموز ليعود اليوم وبقوة ليس ليتحكم بالشارع العراقي فقط ، بل وفي مؤسسات الدولة ايضا ، التي بدأ بعض منتسبيها ينصح مراجعيه بحل القضية المتنازع عليها عشائرياً . لم اعش في حياتي موقفاً في مكتب رسمي يسألني الموظف العامل فيه عن أصل أعمامي " مِن يا عمام " هذا السؤال الذي واجهته شخصياً اثناء مراجعتي قبل اسابيع لبعض المكاتب الرسمية في العراق. القانون العراقي والقضاء العراقي وضعه حكم الإسلام السياسي في خزانات اقفلها ورمى مفاتيحها في بحر الجهل والظلام الفكري والتمويه الذي عمّ ارض وطننا كاستمرار مخلص للقمع البعثفاشي المقيت المسلط على اهلنا في  وطننا عموماً . ونظراً للطبيعة العشائرية التي تغلب على جنوب العراق فقد اصبح الإنتماء العشائري الذي لا يتنكر له معظم اهل الجنوب ،هو الفيصل في حياة المواطنين الذين كانوا يعولون على الدولة وقوانينها التي تجعل وطننا في صفوف مسيرة الدول المتقدمة حضارياً بسيادة هيبة الدولة ومنجزاتها في مختلف مجالات الحياة ، لا العودة الى تراث بائس لم تجدنا نفعاً كل ممارساته في العهد الملكي الزائل . اليس هذا تخلفا عما كنا عليه على الاقل ، ناهيك عن تخلفنا عن الركب الحضاري العالمي ؟ وهذا الحديث بالذات يجري تداوله بين المثقفين والديمقراطيين الذي يشخصون سيادة هذه الظاهرة المتخلفة في مجتمعنا . فلماذا ينزعجون اذن اذا ما جرى التطرق الى هذه الظاهرة ووسمها بالتخلف الذي يعاني منها مجتمعنا ؟ اين الخطأ هنا ؟ ولماذا هذه المزايدات الفارغة تجاه مناضلة  عرفت مآسي اهلها التي وضعتهم في هذه الدرجة من الحياة البائسة والمتخلفة ايضاً.

هل من مزيد من التخلف الذي يعيشه وطننا واهلنا ؟ نعم هناك المزيد والمزيد الذي لا يتحكم بنشره المسدس فقط ، بل والمقدس ايضاً . وحينما نناقش دور العنف المنفلت والعنف المقنن بتعليمات الإسلام السياسي ورواده ، فسنجد الهوة السحيقة من التخلف الذي يعيشه اهلنا ووطننا الذي يسميه الكثيرون اليوم " حارة كلمن ايده إله " الذي تنتشر فيه العصابات المسلحة وقد تخصص كل منها بجانب من جوانب العذابات المسلطة على الإنسان العراقي الذي اصبح لا حول له ولا قوة امام هذه العصابات والمليشيات. فللخطف اخصائيوه ، وللسرقة ابطالها الذين يجوبون الحارات ليل نهار ولا من رادع يردعها ، وللإبتزاز والتهديدات فرسانها الذين طالما يضعون مسألة " العّمام " والفصل العشائري في مقدمة الحلول للمشاكل التي يخلقها هؤلاء انفسهم للآخرين الذين ليس امامهم سوى الدفع او الموت حيث اصبحت عملية القتل لا تكلف الكثير في عراق الإسلام السياسي. اليس هذا تخلفاً حتى عن الحياة التي عاشها العراقيون انفسهم قبل عشرات السنين ؟ لماذا اذن يقتصر حديثنا عن ذلك بيننا فقط ، وإذا ما تجرأ احد على نشر هذا الغسيل القذر ينبري البعض لتكذيب حتى نفسه او ما يعتقد به حقيقة وواقعاً ، إلا انه مرفوضاً حينما يأتي على لسان امرأة مناضلة تعي الكيفية التي يعيش بها اهلها كالسيدة هيفاء الأمين ؟

إن سمات التخلف التي يعيشها اهلنا في عموم الوطن وفي الجنوب بشكل خاص لم يمر بها العراق طيلة تاريخه القديم والحديث . وحينما يحاول بعض من يريد تشخيص هذه السمات ، وقد حاول البعض فعلاً طيلة هذه السنين العجاف من حكم الإسلام السياسي ، يرى ، مع الأسف الشديد بعض من ينتظر منهم الوقوف الى جانبه لمعالجة هذه المحن التي يعيشها الإنسان العراقي، وكأنه يريد ان يوقع به او بسمعته او بانتماءه الوطني او بتاريخه النضالي او اي جانب من جوانب حياته ، لا لأن المنتقد هذا لا يعتقد بصحة تشخيص التخلف ، بل بالعكس فإن حديث المنتقد عن التخلف في مجالسه الخاصة لا نهاية له، إلا ان المسألة تبدو وكأنها سجال بين الديمقراطيين انفسهم الذين لم يعوا لحد الآن ان وحدتهم امام القوى التي تنشر هذا التخلف في وطننا وبين اهلنا هي الضمانة الوحيدة لمساهمتهم الفعلية في كبح الآثار المدمرة لمنهج التخلف الذي تزاوله احزاب ومنظمات الإسلام السياسي .

سوف لن اجد النهاية لهذا الحديث فيما لو اردت الإستمرار على سرد سمات التخلف المنتشرة في مجتمعنا والتي نتحدث عنها يومياً في كل مجالسنا ، وانني اتحدى من هذا الموقع اي انسان مؤمن حقاً بالديمقراطية وبالدولة المدنية ، لم يتحدث عن التخلف المنتشر بين اوساط جماهيرية كثيرة في مجتمعنا والذي افرزته كل سياسات الإستحواذ واللصوصية والكذب والخداع والفساد بكل انواعه وغياب التعليم الناجح والعمل المثمر وانتشار الفقر والبطالة والتغير الذي طرأ حتى على التقاليد العراقية القديمة التي كانت موضع فخرنا واعتزازنا بها ، وكل المآسي الأخرى التي لا تسع مجلدات لتعددادها سواءً على الأصعدة الشخصية او العامة ، والتي ابتلي بها اهلنا ووطننا جراء السياسة العفنة للأحزاب الحاكمة مهما اختلفت مذاهبها او قومياته، والتي تنكرت للوطن والمواطنة.

لا اريد ان اغادر هذا الموقع دون الرجاء الأخوي من كل الديمقراطيين المؤمنين بالحرية والديمقراطية وبالمواطنة كاساس لبناء الدولة الحديثة ، لأن يتيقظوا لما نحن فيه من ويل عميم وخطر عظيم يهدد وطننا واهلنا بالضياع والخراب ، إن لم نتدارك الأمر ونوحد الصفوف ونبتعد عن اقتناص هذه الهفوة او تلك ، او حتى اختلاق الهفوات لبعضنا البعض والتي لا تصب إلا في خانات تجار زيادة التخلف وتعاظم الخطر وابتعادنا اليومي عن هذفنا في الدولة المدنية الديمقراطية.

لقد علت الأصوات من خلال خلق مادة للهجوم على مناضلة كهيفاء الأمين اقل ما يقال عنها ويشرف الفكر الديمقراطي عموماً انها السيدة الوحيدة التي حطمت اسيجة التخلف الفكري ونشطت بين اهلها في مجتمع محافظ بحيث حصلت على الإحترام والتقدير في كل تصرفاتها سواءً كناشطة سياسية او كبرلمانية في الوقت الحاضر . اما دعاة اليوم للنيل منها الذي وسعه البعض للنيل من حزبها ، الحزب الشيوعي العراقي ، الذي يريد بعض المتطفلين على السياسة وتاريخها في العراق التطاول على هذا الطود الشامخ ، ان كل ذلك يجب ان ينظر له الديمقراطيون بنظرة عراقية فاحصة تكتشف ما تخبؤه مثل هذه الدعوات المرفوضة والتي لا تحترم نضال الشعب العراقي وتضحياته منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى يومنا هذا .