آفة الفساد ليست بالمسالة المعقدة والغريبة على المجتمعات والحكومات والدول في العالم فحسب لأنها معروفة وتصدت لها كل القوى الوطنية والجماهير الغفيرة، ، وللشعوب تجارب غير قليلة في مناحي هذه الآفة وطرق المعالجة العلمية الصحيحة للتخلص منها، فالفساد هو جرثومة في فساد عقلي موروث من المجتمعات الطبقية والنظم السياسية الاستغلالية وقانونية حمايته تختلف من دولة لدولة أخرى وهذه القانونية شرعت لاستمرار الفساد والاستيلاء على المال العام بطرق ملتوية، وطيلة عقود من تاريخ البشرية كان أكثرية الذين يديرون السلطة هم من الفاسدين أو حماة للفاسدين الذين يختفون خلف المشاريع الاقتصادية الوهمية ، وعانت المجتمعات البشرية وبخاصة الفئات الفقيرة والكادحة من موظفين وأجراء ومثقفين من هذه الآفة التي فتكت وتفتك بالاقتصاد الوطني وتنهب موارد البلاد تحت طائلة مسوغات ضلالية وقد كشفت الوقائع والدراسات الكثيرة أن البلدان التي استعمرت بواسطة الاستعمار العسكري هي معرضة للفساد أكثر من غيرها وهذا لا يعني تم التخلص من الفساد في الدول الرأسمالية المستقرة نسبياً، الصناعية منها والمتوسطة، لكن طرق الفساد والتلاعب والاستيلاء على قوت المواطن تختلف في الشكل وليس المضمون، ومن هذا الجانب فقد تعرفنا على طرق غير قليلة أيضا من الفساد والاختلاسات والاستيلاء على المال العام ، وتؤكد القوانين الطبيعية العامة والقوانين العادلة الأخلاقية منها بان الفساد راسخ في جسد الرأسمالية ولا يمكن التخلص منه نهائياً بسبب طبيعة هذا النظام الاستغلالي الذي دشن ومازال يدشن سرقة قوة عمل الإنسان، ومن هذا الباب الضيق تتوسع آفة الفساد والاختلاس والسرقة العلنية والقانونية التي سنها النظام الرأسمالي لتنتشر في الأنظمة الطبقية الأخرى تحت مسميات تمويهية قومية ودينية وطائفية، إلا أنها في الحقيقة يبقى هدفها الحقيقي هو الفساد المالي والأخلاقي وبدونهم لا تستطيع العيش ولا يمكن أن تتخلى عنهما مهما حاول الإصلاح العمل لإيقافه أو التخلص منهُ، إذا لم تكن هناك حكومة مخلصة ووطنية، وقاعدة شعبية لها رقابة مميزة وقوة في فرض القانون وعدم شرعية الفساد والاستغلال وسرقة قوة عمل الإنسان.
العراق هو مثال حي على ما ذكرناه في المقدمة لأنه عاش وبخاصة بعد تأسيس الدولة الحديثة مراحل من الفساد الذي كان يتميز حسب الإمكانيات التي كان البلد يتمتع بها، وقد ازداد وتضخم بعد استخراج النفط وتسويقه وما در على البلاد من أموال طائلة .
انتشر الفساد في العراق بعد الاحتلال والسقوط كما يقال في المثل كانتشار النار في الهشيم وأصبح مارداً لا يشق له غبار بعدما استفحل قولاً وفعلاً ونهب واستولى على الواردات والصادرات، وسبى الناس وزادهم بؤساً وعذاباً، فقراً وخراباً، هذا الانتشار لم يهمل أي مرفق اقتصادي واجتماعي استطاع الولوج إليه في الدولة أو المجتمع، وخص الأفندي السفير البريطاني الاقتصاد العراقي مما جعله في متناول كل فرد يزور الفيسبوك أو أي وسيلة إعلامية داخلية أم خارجية، وبهذا وغيرها من الأخبار الموثقة صنف العراق في تقرير سنوي عام( 2018 ) لمنظمة الشفافية كونه من الدول الأكثر" فساداً في العالم وهو في المرتبة السادسة عربياً والثانية عشرة عالمياً" ، ليتصور أي مرصد متابع وله معرفة بثروات العراق وما يملكه من رصيد هائل من موارد طبيعية وإمكانيات نفطية وزراعية، وملم بظروف القطاع الخاص الصناعي وثروته النفطية والغازية ، ليتصور هذا المرصد وغيره الجريمة الكبرى التي اقترفت منذ أكثر من ( 16 ) عاما على سقوط النظام الدكتاتوري، أنها جريمة لا أخلاقية اقترفت بحق هذا البلد وشعبه الذي عاش تحت نير الحكم الدكتاتوري طيلة 35 عاماً وتلتها أكثر من 16 عام عجاف، ــــ كيف تدهورت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية وفي جميع المجالات الأخرى؟، وكيف أصبح السحت والسرقة والاختلاس كأمور طبيعية يلمسها المواطن في كل مرافق الدولة والمجتمع؟ . وأصبح الموقف بشكل عام أكثر تعقيداً وبخاصة ضعف إمكانيات التصدي لهذا المورث السيئ لان أكثر الطغمة الحاكمة وأحزابها الطائفية والتابعة هي صاحبة الشأن في هذا التدهور المريع، وهو إذا ما دل على أمر يثبت رأينا السابق بأن ما قيل حول الإصلاحات أو محاربة الفساد عبارة عن هراء لن يجدي نفعاً في ظل المحاصصة الطائفية، كما يدل على مدى اتساع ليس رقعة الفساد فحسب بل مدى تغلغله في أعماق المؤسسات ومرافق الدولة، ثم فقدان الثقة بأكثرية أحزاب الإسلام السياسي وبخاصة الشيعية منها ومن يقودها، لكثر المصائب والويلات والوعود الفارغة وما حدث من النهب الذي يعد بمليارات الدولارات الراقدة في جيوب الحرامية المعروفين الظاهرين أو الباطنيين والفاسدين المكشوفين " كأعجاز القردة فوق الأشجار " وهم يتقاسمون الغنائم بينهم في نهمٍ وجشع وبلا ضمائر تحسب للفقراء والكادحين والجائعين والمحرومين حتى من ثانية أمان واطمئنان، يطاردهم في المخيمات الخوف والرعب والبرد والجوع وفقدان الثقة بالمستقبل، بينما المليارات من الدولارات والدنانير قد قسمت وأودعت في حسابات بنكية خارجية شخصية وبأسماء متفق عليها كما هي الحال عندما نهبت أموال العراق من قبل النظام الدكتاتوري السابق ووضعت تحت تصرف أولئك القتلة الذين مازالوا يسومون المواطنين العذاب والتفجير والاغتيال والاتوات والخطف والتهجير بدون أي رادع من وجدان أو ضمير وديدنهم الضحك على الذقون وسرقة قوت المواطنين بحجج شتى وبأساليب قذرة تختبئ تحت يافطات دينية وطائفية مثلما كانت تخبأ خلف يافطات قومية.
إن معالجة قضايا الفساد لا يمكن أن تقتصر على البعض من الإجراءات والقوانين غير الجذرية وتحتاج هذه العملية إلى
1 ـــ تشكيل حكومة وطنية قوية ذات برنامج عملي تستمد قوتها من ثقتها بالشعب والقوى الوطنية والديمقراطية
2 ـــ إنهاء المحاصة الطائفية ومنهجها وقوانينها التي سنت في فترة تواجدها والتمسك بمعايير وطنية وديمقراطية
3 ـــ تشخيص مسؤولين لهم قيم أخلاقية وطنية يتمتعون بتاريخ مشرف وبالنزاهة والاستقامة لمعالجة قضايا الفساد بعيداً عن التقاسم المشين الذي مورس ضمن المحاصصة
4 ـــ اختيار هيئة النزاهة بشكل كامل وابتعادها عن المحاصصة والحزبية والتكتلات السياسية وعلى أن تتمتع بالاستقلالية واتخاذ القرارات وفق معايير القوانين المعمول بها
5 ـــ تشكيل هيئات التحقيق في قضايا الفساد والفاسدين على أسس قانونية، والابتعاد عن التأثيرات الحزبية، وان يتم التشكيل بشكل حيادي مستقل لتقصي الحقائق والتحري بشكل سليم عن كل من تدور حوله اتهامات بالفساد وتقديم الذين تثبت إدانتهم إلى المحاكم لإعادة الأموال التي بحوزتهم واتخاذ العقوبات القانونية الرادعة بحقهم
6 ـــ الشفافية في الكشف عن الأسماء التي تدان مهما كانت مسؤولياتهم الحكومية والحزبية وبدون أي استثناءات أو علاقات تعتمد على المحسوبية والمنسوبية والطائفية والحزبية.
7 ـــ التوجه الصارم للتخلص من تركة النظام الدكتاتوري السابق بما فيها إلغاء القوانين والقرارات الجائرة التي اتخذت حينها.
8 ـــ لا بد من ملاحقة المختلسين واللصوص الذين استولوا على المال العام الذي أودع من في الخارج والتحقق من الأسماء التي وضعت أموال الشعب بأسمائهم أو بأسماء معينة والكشف عنها بشفافية علنية .
9 ـــ الاستقرار الأمني في غاية الأهمية وسنداً قوياً لإنجاز المهمات الاقتصادية والسياسية والخدمية وهذا الأمر يقتضي في محاربة الإرهاب والتخلص منه وحل الميليشيات الطائفية المسلحة ودمج الحشد الشعبي بالقوات الوطنية المسلحة حسبما جاء في فتوى المرجع الديني الشيعي السيد علي السيستاني
10ــــ إقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار ومنع التدخل في شؤون البلاد الداخلية وعلى الحكومة العراقية عدم الانحياز في علاقاتها الخارجية ووضع حدود حول العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف ودول العالم
إن النقاط المذكورة هي مدخل لنقاط أخرى مهمة يجب الأخذ بها ووفق المعايير الوطنية والعالمية لكي تنجح الجهود الوطنية المخلصة من التخلص نهائياً من الفساد وفق مراحل زمنية ومنع انتشاره وتفشيه في المستقبل، والذين لهم دراية وإطلاع بتحارب السنين السابقة وما مر على البلاد ونهبها بطرق مختلفة في مقدمتها الحق المقدس للمسؤول الأول والمسؤولين الآخرين الذين يحيطون به ويتصرفون حسب مشيئته والادعاء بقوة إلهية أو ما تقتضي المصالح القومية والدينية والطائفية لكنها تأخذ طريقاً إلى الجيوب! ، ولنا بالمثال الذي نشر مؤخراً حول الموصل من قبل هيئة النزاهة أحسن برهان حيث أكدت أن "دائرة التحقيقات في الهيئة شكلت فريقاً تحقيقيّاً عالي المستوى، للتقصِّي والتحرِّي عن معلوماتٍ حول قيام محافظ نينوى المُقال بسحب مبالغ من الأموال المُخصَّصة لإعادة الاستقرار في المحافظة"، وأوضحت لجنة النزاهة "وجود تلك المبالغ في قاصاتٍ بمبنى المحافظة خلافاً للتعليمات المحاسبيَّة والقوانين، ولم يتم إيداع تلك المبالغ في الحسابات المصرفيَّة".وإن مليارات الدنانير المخصصة لأعمار الموصل مودعة في حسابات شخصية وفي قاصات ديوان المحافظة " وفي اعتقادنا أنها تنتظر الوقت الملائم كي تأخذ طريقها للجيوب مثلما حدث لمليارات الدنانير والدولارات في مجالات النفط والكهرباء والماء وقضايا صحية وخدمية كثيرة، هذا المثال ليس هو الحالة الوحيدة على مدى اختلاف طرق الفساد والاختلاس فهناك مئات الأمثلة في جميع المرافق وفي مقدمتها، القطاع النفطي، وقضية الكهرباء والماء وما صرف عليها، وقطاع شراء السلاح والمعاملات التجارية وتوقيع العقود والبطاقة التموينية وعشرات القضايا الصحية والخدمية والتعليمية وغيرها من القطاعات الاقتصادية، وهي حسب تقصي الحقائق تعد بمئات المليارات من الدولارات التي لو ( ونقول لو زرعوه!! ) لتم إعادة بناء العراق بشكل كامل ووفق معايير مهمة في بناء الدول في العالم التي مرت بظروف مماثلة للعراق.
أخيرا وليس آخراً هاهو الفساد المالي والإداري الذي عم وخرب ومازال يخرب مختفياً تحت جنح فساد أخلاقي وبيافطات دينية ومذهبية طائفية وحتى بعض الأحيان " وطنية"
ــــ ماذا نعمل؟ وما هو الحل؟ للتخلص من الذين لا ذمة ولا ضمير ولا أخلاق عندهم وهم يختلسون مال المواطنين الكادحين.