لم تتكلل ثورات انتفاضات الربيع العربي مطلع العقد الجاري في معظم البلدان العربية التي هبت فيها بالنجاح المأمول وذلك لأسباب متعددة ،  من بينها حجم القمع الوحشي الجنوني غير المسبوق الذي مارسته الأنظمة الدكتاتورية العربية بحقها  ، بمساندة أوصمت حلفائها الغربيين  وعلى رأسها الولايات المتحدة ، ونجاح بعضها الآخر  ببراعة في تفجير التناقضات والنعرات المذهبية   لكي لا تتوحد الشعوب وقواها السياسية حول مطالب الثوار الشباب المنتفضين في الميادين ؛ مستغلة  في ذلك الشعارات المتطرفة  التي وقعت فيها قوى الإسلام السياسي التي حشرت نفسها بين الشباب المنتفضين لقيادتها ، فضلاً الأخطاء التي وقعت فيها القوى الوطنية والديمقراطية بالصمت أو بالخضوع على مضض لتلك الشعارات    . وقد توهمت هذه الأنظمة من هذا النصر الدموي المتوحش الذي حققته على ثورات وانتفاضات شعوبها بأنها  لن تقوم لها قائمة بعدئذ  وستظل خانعة مستكينة لحكمها البوليسى الوحشي الدموي إلى الأبد  ، ولكن هاهما شعبا بلدين عربيين إفريقيين هما السودان والجزائر تنطلق فيهما ثورتان شبابيتان تجبر كلا النظامين الشموليين فيهما على تقديم تنازلات مهمة ولو بالتقسيط  ، وعلى رأسها إسقاط رأس النظام ، و مع أن كلا النظامين لم يُسلّما بعد بتحقيق كامل مطالب المحتجين . لكن كل المؤشرات تقطع بأن هذين النظامين في طريقهما نحو الزوال آجلاً أم في المستقبل القريب   .

ومثلما كان ربيع تونس في ديسمبر / كانون الأول 2010  الذي تكلل بالإنتصار ، حافزاً على إنطلاقة ربيع مصر في يناير / كانون الثاني 2011 الذي لم يتكلل سوى بسقوط رأس النظام مع استمرار نظام مبارك السابق بعد سلسلة من الإخفاقات جراء الألاعيب الماكرة التي برعت المؤسسة العسكرية في استخدامها لإجهاض ذلك الربيع رويداً رويدا  ؛ فليس خافياً القلق الذي بات يستبد اليوم بالأنظمة الدكتاتورية التي نجت من طوفان الربيع العربي الأول مطلع العقد من توسع الربيع الجديد لتمتد شراراته إلى عقر دارها .  

وإذا ما تمعنا جيداً في مغزى ودلالات هاتين الانتفاضتين السودانية والجزائرية ، وقرأنا أبعادهما بموازاة الاحتجاجات الشعبية على تدهور الأوضاع المعيشية وسلسلة فضائح  الفساد للحكومات العراقية المتعاقبة في العراق منذ إسقاط نظام الدكتاتور البعثي صدّام حسين في 2003 ، وهي حكومات يغلب عليها نفوذ الإسلام السياسي الشيعي ، وبالتوازي أيضاً مع الاحتجات الشعبية على تدهور الأحوال المعيشية وتفاقم فضائح الفساد في ظل تحت حكم الملالي  الإسلاموي في إيران المزمن  ؛ وبالتوازي كذلك مع نموذج آخر للإسلام السياسي الثيوقراطي السني في نفس المنطقة ،  فإن كل ذلك يبشّر بنتيجتين هامتين نحو التفاؤل بمستقبل حركات التغيير في المنطقة    : 

الاولى : ما يلوح في الأفق -ولو بعد حين غير بعيد - بنهاية  تاريخ حكم العسكر في المنطقة العربية والمتمثل في الانظمة الجمهورية الاستبدادية واستنفاد أي  ثقة مستقبلية للجماهير  العربية في أي مصداقية  له في قضايا التعبير عن الثورات  للتحول إلى أنظمة ديمقراطية حقيقية قائمة على الفصل بين السلطات الثلاث والانتخابات النزيهة الحرة الشفافة للبرلمان ( السلطة التشريعية ) ، و استقلالية السلطة القضائية ومبدأ تداول السلطة المنتخبة وفق دساتير عقدية حقيقية معبرة عن إرادة الشعب وحق التعددية الحزبية وسائر الحريات العامة فضلاً عن كفالة الحريات الشخصية   . 

الثانية : إن ثقة الجماهير في قدرة قوى الإسلام السياسي على إدارة الدولة الحديثة وحكمها آخذة هي الاخرى في التلاشي بسبب فشل نماذجه القائمة في الحكم   ؛ فحينما يكون الجوع كافراً فلن ينفع النظام أو السلطة الإسلاموية المنتخبة تخندقها وراء الشعارات الإسلامية ، ولا تدثرها الكاذب  بالشعارات الليبرالية والديمقراطية باعتبارها شعارات لا تنسجم مع ايديولوجياتها ، بل واُمتحنت جيداً بعد استلامها السلطة في مدى إلتزامها بها قولاً وفعلاً ، كما في النموذجين الإيراني والعراقي  . 

وحتى مع ما يلوح في الأفق من إمكانيات لانتصار ثورتي السودان والجزائر تسمح   بتوسع موجة ربيع عربي جديد ،  فليس ثمة أي مؤشرات أيضاً على أن الأنظمة الدكتاتورية العربية قد تعيد النظر في تدابيرها القمعية باتجاه إطلاق مبادرات إصلاحية جذرية جادة ، كدلالة على إستفادتها من عِبر ودروس الانتفاضتين السودانية و الجزائرية ، ومن ثمَ الإنفتاح على  شعوبها وقواها المعارضة الديمقراطية والاصغاء إلى مطالبها المشروعة للتغيير والإصلاح قبل فوات الأوان ؛ وهذه لعمري  هي عادة وديدن كل الحكام الدكتاتوريين المستبدين ، بل سترى بأن ما حدث في هذين القطرين يفرض الحاجة إلى المزيد من تعزيز  القبضات الوحشية الدموية الفاشية الأمنية والعسكرية بمعدلات أشد وحشيةً  وأعظم من التي واجهت بها انتفاضات وثورات شعوبها أوائل العقد الجاري لإخمادها ، وهذه بلا شك أوهام المستبدين التي لن يفيقوا منها إلا بعد فوات الأوان عندما يوقنوا بأن رحيلهم النهائي قد أزِف لامحالة ويدركوا حينها مصداقية أشهر شعار وحّد انتفاضات وثورات الربيع العربي الأول في مطلع العقد والمتمثل في بيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي : إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر   .  

عرض مقالات: