مثلَ العطاء السعودي قمة السخاء في منح المليارات السبعة من الدولار الأمريكي لجمهورية مصر العربية وقائدها الرئيس عبد الفتاح السيسي إثر انقلابه على الرئيس الإخواني محمد مرسي، ليعقبه عطاء سخي أماراتي وكويتي. الانقلاب شكل علامة فارقة في حياة الشعب المصري ولازال. وفي نفس الوقت  أفصح عن قدرة وقوة وعزيمة المملكة السعودية على تنفيذ سياستها في المنطقة والعالم الإسلامي بقدر ما تستطيع وبما تملكه من تأثير وسطوة وفائض مالي كبير.

بعد تلك الأحداث ظهر أن  إزاحة  الرئيس الإخواني محمد مرسي عن كرسي الرئاسة في مصر، جاء على خلفية الصراع الوهابي الإخواني. فوجود الإخوان المسلمين على رأس السلطة في جمهورية مصر شكل صداعا قويا وتهديدا مباشرا   للسلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية الوهابية في  للملكة السعودية. فالأخوان يعدون المنافس الفكري السياسي ـ الاجتماعي للعقيدة الوهابية على مستوى العالم الإسلامي، رغم أن الطرفين ينبعان من ذات الأصول الفكرية، ويتوافقان في الكثير من تفاصيل المناهج الدينية التي يرتكنون أليها ويعملون على ترويجها، وفي الوقت ذاته فان السيطرة على العالم الإسلامي هي الشغل الشاغل لكلا الطرفين، لذا فالأحداث تفصح عن حلبة الصراع السياسي بينهما، ووفق هذا الصراع الخفي أو المعلن، أعطت المؤسسة السياسية والمالية السعودية الإشارة لأذرعها بضرورة التحرك ولملمة ما يمكن من المشهد في مصر، لتقليم أظافر الإخوان، ومن ثم الإطاحة بالمشروع الإخواني الذي استطاع الاستحواذ على السلطة في مصر وفق استحقاق انتخابي، وليس انقلابا عسكريا أو صعودا إثر تخلي الرئيس حسني مبارك  عن السلطة.

 أغلب الوقائع حينذاك كانت تشير لوجود رغبة داخل المؤسسة العسكرية المصرية واعتمادا على وعود بالمساعدات السخية من السعودية وبعض بلدان الخليج، لإعادة وضع قاطرة الدولة المصرية على سكة النظام السابق مع بعض التغييرات الطفيفة، وهذا الترتيب الذي جاء عبر انقلاب عسكري، قامت به المؤسسة العسكرية المصرية، وكان الغرض منه إعادة أنتاج نظام حسني مبارك بطبعة جديدة، وهذا ما حصل فعلا.

في السودان اليوم صراع علني بين مطالب الجماهير ومنظماتها  في مواجهة المؤسسة العسكرية .هذه المؤسسة الراسخة بتقاليدها الغير مرنة والمحافظة، ورغم تقاليدها المحافظة وسيطرة روح الانضباط والمسلكية عليها، لكنها وفي مراحل تاريخية عديدة منذ الاستقلال الناجز عام 1956 ،أفرزت رجالا وقادة تحسب لهم وقفات وطنية شجاعة . ولكن هذه المؤسسة العسكرية وفي المرحلة الراهنة، ومن طبيعة تعاملها مع مطالب الجماهير إثر الإطاحة بالبشير، تبدو وكأنها دُجنت على عهد عمر حسن أحمد البشير، لذا نجدها بعد الإطاحة بالبشير غير راغبة بترك السلطة دون أن تجد ضمانا يمنحها حق الحفاظ على المكاسب التي حققتها أثناء حكم عمر البشير.

شكل انقلاب العقيد عمر حسن البشير على حكومة الصادق المهدي في 30 يونيو عام 1989وسيطرته على السلطة بما يقارب 30 عاما ما يمكن تسميته رسوخا دكتاتوريا بغيضا عانى فيه الشعب السوداني الأمرين. أتخذ البشير خلال تلك الفترة العديد من المواقف المتقلبة المتذبذبة  وقاد المؤسسة العسكرية السودانية نحو مواجهات واسعة ومفتوحة مع الأحزاب والمنظمات الجماهيرية وقطاعات شعبية كبيرة، وبسبب حروبه الداخلية والسياسات الطائشة المتذبذبة وغير الحكيمة في مجالات الاقتصاد والسياسة الخارجية ، أصبح الوضع الاقتصادي والسياسي ينذر بالخطر وبات من غير المنطق لا بل ليس من الحكمة بقاء البشير على رأس السلطة في السودان .

كان نظام البشير حليفا قويا للمنظمة العالمية للإخوان المسلمين وسبق أن استضاف العديد من قادة التنظيم وقدم المساعدات اللوجستية لهم، يضاف  لذلك حصوله على تأيد قوي وفعال من دولة قطر وتركيا، قدمت قطر له المساعدات المالية جراء إخلاصه وولائه لمنظمة الإخوان، وبات السودان مثلما دولة قطر وتركيا ممرا حيويا للراغبين بالذهاب إلى الجهاد في أفغانستان أو سوريا والعراق وليبيا.

أيضا سبق لعمر البشير أن مد جسور الصداقة والعمل مع إيران، ورسخت  تلك الصداقة لفترة جدا طويلة، استطاعت إيران فيها تقديم الكثير من المساعدات للسودان، ووقفت إلى جانبها في خصومتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، كذلك رفضت قرارات المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمت البشير بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور وأصدرت حكما نص على جلبه أمام المحكمة الدولية ومحاكمته على العديد من التهم.

 جميع تلك العلاقات والتوجهات السياسية للبشير عمر، ما كانت لتكون غير تصعيد وإيذاء وتحد ومناكدة  للسلطة في المملكة السعودية، وأثارت أفعال عمر البشير وعلاقاته حقد المملكة وفتح شهيتها للبحث عن ثغرة أو لحظة للانتقام منه، وهذا ما جعلها دائما في حالة استنفار وريبة،  وتترقب الفرصة لتنال منه .

كانت حرب اليمن التي عملت السعودية على إثارتها وشكلت لأجلها تحالفا عربيا ودوليا لغرض خوض الحرب ضد الحوثيين اليمانيين، جاءت لتكون مفتاحا جديدا لعلاقة مختلفة مع عمر أحمد البشير، وبابا لجعله يغير من طبيعة علاقاته وتحالفاته السياسية. فعبر إغراءات مالية كبيرة استطاعت السعودية أن تقلب الطاولة على رأس الصداقة الإيرانية والقطرية للسودان، وتكسب سلطة عمر البشير إلى جانبها في حرب اليمن وبما سمي ( عاصفة الحزم ). حيث أرسل البشير قطعات عسكرية سودانية للوقوف بجانب ذلك التحالف. تلك المشاركة قلبت ظهر المجن للحليف السابق، مما جعل إيران تتخلى كليا عن أحمد البشير.

ولكن جميع تلك التقلبات الانتهازية السياسية دائما ما جعلت السعودية بعيدة جدا عن القناعة بأن يكون البشير حليفا مؤتمنا. وفي ذات الوقت ما كانت لتجعل السعودية تتخلى عن فكرة إزاحته عن السلطة، ويأتي في مقدمة التخوف هذا مجاهرته بانتمائه ألإخواني، وهذا يكفي لجعل السعودية في حالة قلق وريبة دائمين، فالرجل غير مؤتمن لذا يسبب لها صداعا مزمنا وكذلك يثير قلق حليفها المصري الرئيس عبد الفتاح السيسي.

بعد الإطاحة بعمر حسن البشير إثر انقلاب العسكر عليه يوم 11 ابريل 2019 واحتجازه من قبل معاونيه من قادة الجيش في مكان مجهول، رغم إن جميع هؤلاء كان للبشير اليد الطولى والفضل في وجودهم كقادة للمؤسسة العسكرية، وجاء ذلك الانقلاب بعد فترة احتجاجات جماهيرية امتدت لأكثر من عام .

 وأمام إصرار الجماهيرية  وتماسكهم التنظيمي، بدأت المؤسسة العسكرية تخضع بعض الشيء للمطالب الجماهيرية، وبالذات إثر إصرار الجماهير على رفض كامل للحكومة العسكرية المؤقتة،  مما دفع رأس الانقلاب الفريق أحمد عوض بن عوف للاستقالة. وجاءت هذه الاستقالة تعزيزا لموقف الجماهير. ولكن يبدو إن موقف العسكر رغم الخلافات داخل المجلس المؤقت، فلا زالوا يراهنون على نقطة الإبقاء على المكاسب التي حصلت عليها وتمتلكها المؤسسة العسكرية دون مساس، أيضا التفكير بوجود ضامن لتراتيبية السلطة التي تفرض مشاركة قوية للجيش، ومن هذا المنطلق طرحت فكرة قبول حكومة مدنية على أن تكون وزارتي الداخلية والدفاع من خيار الفريق المشكل للمجلس العسكري المؤقت.

 وما يشير لوجود اليد السعودية الفاعلة في مجمل عملية الإطاحة بعمر أحمد البشير، تأكيد أعضاء المجلس العسكري الانتقالي المؤقت على ضرورة بقاء الجيش السوداني المشارك في عاصفة الحزم السعودية، ولهذا تعهّد الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري المؤقت ببقاء القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي لاستعادة الشرعية في اليمن حتى تحقق أهدافها.  أيضا فالإعلان عن قيام وفد مصري كبير بزيارة للسودان بعد يومين من زيارة لوفد مشترك من السعودية ودولة الإمارات،.وقد تم خلال اللقاءات السياسية مع قادة التغيير الاتفاق على الدعم السياسي والاقتصادي للنظام الانتقالي، وهذا يشير بشكل حاسم للدور السعودي الإماراتي في التغيير،ولم تخفي القيادة المؤقتة هذا الارتباط ، وبدون مواربة صرح أحد الضباط في القيادة المؤقتة ، إن الإمارات والسعودية ومصر كان لها دور في التخطيط  لعزل البشير، ومن ثم إزاحة الفريق عوض بن عوف وزير الدفاع وصلاح قوش رئيس جهاز المخابرات والأمن الوطني، في إطار إستراتيجية  ترمي لإبعاد وإضعاف قوة الإخوان المسلمين في السلطة الجديدة.

 أيضا شكل صعود نجم الفريق أول عبد الفتاح البرهان دالة واضحة على إن التغيير جاء ضمن أجندات التحرك السعودي الإماراتي المصري، في محاربة الإخوان المسلمين، فالفريق أول البرهان سبق وأشرف مباشرة خلال عهد البشير، على القوات السودانية المشاركة في التحالف العربي الذي أسسته السعودية، وأقام علاقات وثيقة بكبار المسؤولين العسكريين السعوديين وكذلك قادة الجيوش في التحالف العربي

جميع الوقائع تعطي الانطباع الكامل والمؤشرات الواقعية حول مشاركة السعودية وحليفيها الإماراتي والمصري بشكل جلي وفاعل بعملية الإطاحة بالرئيس السوداني حسن أحمد البشير على خلفية الصراع مع الإخوان المسلمين. ومع عمق تغلغل أنصار الإخوان المسلمين في المجتمع السوداني وأزمة النظام الاقتصادية، يثار التساؤل عن قدرة قادة التغيير على تجاوز المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعب السوداني، وليس اقلها التركة  الثقيلة لنظام البشير التي أدخلت البلاد في صراعات لا تتناسب وقدرات البلد. كذلك ما طبيعة المساعدات التي سوف تحصل عليها السودان من السعودية والإمارات لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور هناك.

عرض مقالات: