سنحت لي فرصة اعتبرها تاريخية على الصعيد الشخصي بزيارة الصين للمرة الثانية وكان ذلك في الفترة من 22 شباط الى 2 آذار عام 2019.
تتمحور أهمية هذه الزيارة بالنسبة لي في نقاط عديدة منها معرفة الفارق في التنمية والتطور بين عام 2016 حيث قمت بزيارتي الأولى وبين زيارتي هذا العام. أما النقطة الثانية فتتجلى في أجندة هذه الزيارة الغنية حيث زرنا مدينة نانجينغ في منطقة جيانغسو التي تشهد تنمية كبيرة، فمثلا يبلغ عدد الجامعات في هذه المنطقة أكثر من مئة جامعة، ويزيد الناتج القومي لهذه المنطقة عن الناتج القومي لألمانيا.
كما زرنا مدينة أرومتشي في منطقة شينجيانغ، وشاركنا في المؤتمر الذي جرى تنظيمه في هذه المدينة حول “سياسة الصين الاثنية والتعريف بالوحدة والتضامن بين المجموعات القومية: التطبيق والانجازات”. واطلعنا بشكل عياني على ما جرى تحقيقه من إنجازات في مجال بناء المعامل والمصانع وطرق المواصلات والاعمار والبنايات التي تضاهي إعمار وبنايات الدول الصناعية المتقدمة، إضافة إلى مشاريع التنمية في المجالات الاجتماعية والثقافية والتربية والتعليم، حيث قدم الحزب الشيوعي الصيني الذي يقود عملية بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية درساً كبيراً ليس للوفود المشاركة في المؤتمر الذي شارك فيه 16 وفدا من 43 دولة و60 حزبا، بل لكل القوى الراغبة في حل اشكاليات الهوية سواء الإثنية والعرقية والقومية والدينية والمذهبية والطائفية، بأن الحل يكمن في الماركسية اللينينية المتجددة والتي تعتبر نهجاً أساسياً في سياسات الحزب الشيوعي الصيني وتجديده للاشتراكية ذات الخصائص الصينية، التي لا يمكن التعامل مع نتائجها وإنجازاتها من منطلق كونها تجربة محلية صينية فقط بل يتجاوز هذا الطابع المحلي ليقدم للبشرية تجربة جديدة في التنمية الحقيقية المبنية على النمو المطرد وتجلياتها في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبما يؤمن المساواة القومية وحل اشكاليات الهوية على أساس التوازن بين الهويات المحلية وإعطائها مجالها الحيوي للتقدم والتطور وبين الهوية الوطنية الصينية المبنية على أساس المواطنة الاشتراكية الفاعلة.
وهكذا يتجاوز بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية البعد الوطني الصيني، ليأخذ بعدا عالميا من خلال ترك الأثر الكبير في تطوير الاشتراكية العالمية والتجربة النضالية للأحزاب الشيوعية العالمية في نضالها من أجل الاشتراكية، وتاريخ تطور المجتمع البشري.
ولم يكن لهذه السياسة أن تجد مجالها في النجاح لو لم يتم التعامل من قبل الحزب الشيوعي الصيني والحكومة الصينية مع الإشكاليات المختلفة والمتنوعة للهويات على أساس كونها قضية مجتمعية لها علاقة بمجالات التنمية المختلفة وبما يؤمن المساواة والعيش الرغيد للفرد.
وبهذه الشاكلة ترد الحكومة الصينية بشكل عملي على الإشاعات والافتراءات كافة ضد السياسة القومية في الصين، والتي تقوم بها حكومات مناوئة لما يجري من إنجازات في التنمية ومجالات التطور المختلفة.
أما النقطة الأخرى في أهمية زيارتنا فهي أن رفاق الحزب الشيوعي الصيني هيأوا لمناضلين من أحزاب اليسار في غربي آسيا وشمالي إفريقيا أن يجتمعوا معا ليتداولوا ويتعرفوا على بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية من جهة، ويتحاوروا عن الأوضاع الملتهبة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا ويبحثوا عن آليات تخلق التواصل والتضامن والعمل المشترك. فكانت الزيارة بالنسبة لي ــ وأنا أمثل الحزب الشيوعي الكردستاني ــ فرصة للقاء مناضلين من أحزاب اليسار العربي لأجدد أمامهم تضامن الشعب الكردستاني مع نضال الشعوب العربية وأحزابها الديمقراطية اليسارية في نضالهم من أجل الحل العادل للقضية الفلسطينية على أساس حق تقرير المصير، ونضال الشعوب العربية في مواجهة التطرف والإرهاب والكفاح من أجل الحريات والعيش الكريم، ولكي تطّلع تلك الاحزاب على معاناة الشعب الكردستاني وقضيته العادلة ونضاله المشروع من أجل حقوقه الوطنية.
لقد قدّم لنا الرفاق الصينيون خلال فترة تواجدنا في جيانغسو، وشينجيانغ، وبكين التوجهات الأساسية لمجموعة واسعة من التوجهات والأفكار والاستنتاجات الهامة التي اعتمد فيها على الربط الديالكتيكي بين النظرية والممارسة، على أساس تشخيص الواقع في إطار الدولة والمجتمع وما يجري في العالم من تطورات كبيرة ومتنوعة، والسعي الناجح الى تغيير الواقع من أجل تحقيق انتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل وإحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد.
وفي هذا المجال يعتمد الرفاق الصينيون على طرح الواقع كما هو بعيدا عن تجميله، وقام الحزب بشكل واضح بتحديد التناقضات الأساسية والتحديات الحقيقية في مجال عملية بناء الاشتراكية.
إن الشيء المهم في تجربة الحزب الشيوعي الصيني يكمن في تحديد التناقضات القائمة على الصعيد الداخلي والدولي بشكل متجدد وتشخيص الثغرات. ولذا نرى أن الحزب يؤكد على وجود التناقض بين حاجة الشعب المتزايدة إلى حياة جميلة من جهة والتنمية غير المتوازنة ولا الكافية من الجهة الأخرى.
إن تسوية مشكلة الغذاء والكساء لصالح مليار ونيف نسمة بشكل مستقر من المسائل المهمة جدا، في وقت تتزايد المطالب بالحياة الجميلة والثقافة والديمقراطية وحكم القانون والإنصاف والعدالة والأمن والبيئة. وهذا ما يتطلب معالجة ما شخصه الحزب من ضرورة معالجة مشكلة عدم توازن التنمية وغياب كفايتها لدفع التنمية الشاملة للإنسان والتقدم الشامل للمجتمع.
وتقدم لنا الارقام في مجال سياسة مكافحة الفقر دليلاً واضحاً على نجاح هذه السياسة. لقد كان حجم الأفراد تحت مستوى خط الفقر في زيارتي للصين عام 2016 يبلغ 70 مليون شخص، في حين يبلغ هذا العدد هذا العام 30 مليون شخص، حيث يتم سنويا إنقاذ 10 ملايين شخص من مستوى خط الفقر، بمعدل شخص واحد خلال ثلاث ثوان. واقترن الحديث عن النجاحات بالأرقام والتحولات التي هي ظاهرة للعيان في مجالات التنمية العلمية والثقل الكبير لموقع الصين في السياسة الدولية، وتحقيق النمو على الصعيد العالمي، والدعوة إلى بناء العلاقات الدولية بين الشعوب والدول وفق أسس التنمية المتبادلة، ونجد تجليات هذه الخطوات في مشروع الحزام وطريق الحرير.
إن ما يجرى في الصين الآن يعتمد على افكار وطروحات الأمين العام للحزب الرفيق شي جين بينغ وخاصة فيما يتعلق بالحوكمة في الإدارة والدولة والحزب وارتباط ذلك بالتنمية العلمية في إطار تجديد الاشتراكية وتفعيل دور الصين في الحوكمة العاملة فيما يخص الصراعات الاقليمية والدولية.
وأعتقد أن الجهد النظري في تجميع كل هذه المفاهيم النظرية المطروحة وربطها بالواقع والممارسة العملية الناجحة ومعالجة الثغرات في إطار تلك العملية السياسية، يمكن إدراج كل ذلك في إطار مصطلح من الضروري العمل على بلورته وهو مصطلح “الحداثة الاشتراكية” التي تعتمد على الدمج بين النظرية والممارسة حول الهدف العام والمهمة العامة والتخطيط العام والتخطيط الاستراتيجي واتجاه التنمية والظروف الخارجية، وفي مجال التحليل النظري وتوجيه الاقتصاد والسياسة، في وقت تشهد الحداثة الرأسمالية إخفاقات حقيقية في مجال الإجابة على الأسئلة الملحة التي تطرحها الحياة، وتسعى إلى تعميم نموذج الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، واكتفت بطرح نظريات نهاية التاريخ لفوكوياما والذي تراجع عنها مؤخرا، و”صراع الحضارات” لصاموئيل هنتنغتون الذي يبرر صدام الحضارات.
ولم تأت المساهمات الغنية للحزب الشيوعي الصيني من فراغ، فقد استند الرفيق الامين العام على قاعدة فكرية ونضالية متينة من تجربة الحزب الشيوعي الصيني وتجربة الشعب الصيني في التحرر والبناء والتنمية. وهكذا لم تكن مساهماته قطيعة مع المساهمات النظرية والعملية السابقة.
ولذا نرى عندما يشير إلى الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، فهو يتحدث عن هذا المفهوم كاستمرارية عبر التأكيد بان العصر الجديد هو (عصر وراثة السلف ومتابعة الماضي وشق طريق المستقبل وإحراز انتصارات في ظروف جديدة وتحقيق انتصار حاسم في إنجاز مجتمع رغيد الحياة).
وفي الوقت الذي تسود فيه التوترات والصراعات في بقاع كبيرة من المعمورة، نرى أن الصين تقدم للبشرية تجربة جديدة في التنمية والإعمار وتفتح آفاقا جديدة للتنمية البشرية المشتركة وفق المصير المشترك الذي يتطلب إنهاء الصراعات المسلحة وحل قضايا الشعوب وفق حلول سلمية عادلة.
*الدكتور كاوه محمود: كاتب وباحث، وسكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني ووزير الثقافة السابق في إقليم كردستان.
ـــــــــــــــــــــــــ
*موقع الصين بعيون عربية ـ
آخر تحديث مارس 14/ 2019