ونحن نتابع الأوضاع في العراق يوما بيوم، بل لحظة بلحظة، آملين أن نشاهد ما يسرنا ونحن على بعد الاف الأميال من مركز القرار في العراق، حيث أن الأوضاع التي ابتلى بها العراق منذ التغيير حتى الآن تأسيسا على ما ورثناه من خراب إبان الحكم الفاشي البعثي وما ترتب عنه من مغامرات أحرقت الأخضر واليابس، الموضوع الذي اغرقناه تناولا ومقالات وكتابات لا حصر لها، لنتشبث بأمل جديد ولو من باب التمني المشروع، بأن العراق مقبل على تغيير كبير سيقلب معادلة الخراب الموروثة من الحكم الشمولي الدموي الذي ذهب دون رجعة، عاقدين العزم على الاعتماد على جيوش القادمين من خارج الحدود، بمعية من بقي في الداخل من المتضررين من السياسات الاقصائية لنظام البعث المجرم الذي شملت بركات تصفياته المخيفة كل من لا يصفق ويزمّر ويتحول الى بوق مدفوع له ثمن المواقف الرثة والرخيصة، على حساب التفكير بمصير الوطن والناس وحجم العذابات والخراب الذي لم يترك صغيرة او كبيرة في العراق الا وطالت اذرع التدمير لهذا البلد الذي كان من الممكن أن يصبح بلدا عملاقا في كل شيء، نظرا لاحتكامه على ثروات بشرية وطبيعية هائلة وعقول تتسم بالعطاء والخلق والابداع في كافة المجالات، ناهيكم عن الإرث التاريخي المشرف لهذا العراق، مما يؤهله أن يكون في طليعة دول العالم، لكن الرياح كانت تتجه عكس ما تشهيه سفن البناء المعول عليها بعد عقود المحن والفواجع ومصادرة الإرادة الوطنية، بعقولها وكفاءاتها وعطائها وهي ما كان يتميز به العراقي المعطاء قبل زحف الافاعي لبث سمومها القاتلة في كل بيت وكل مرفق حياتي، وبالتالي أنهاء كل شيء بين ليلة وضحاها، رغم حجم الدروس والعبر التي مرت بالعراق والتي كان من الممكن تجاوز الأخطاء القاتلة اذا ما توفرت النوايا الوطنية الصادقة والاعتراف بحجم الأخطاء التي كانت تزحف نتائجها المميتة لأسرّة نوم رجالات السلطة المخبولين الذين اعمت بصائرهم الكراسي ومغرياتها الخبيثة بسبب غياب الحكمة والرزانة والرصانة السياسية المطلوبة والتفكير بعظائم الأمور، وكأن مغريات السلطة باتت في رأيهم وقناعاتهم البليدة محسومة ولا من طوفان قادم قد يطيح بعروشهم.
حين نقارن عقود الخمسينات والستينات والسبعينات ونحن نعيش ونكبر ونترعرع وندرس ونتساكن مع أهلنا وجيراننا واصدقائنا وزملائنا في كنف عوائلنا الطيبة، لم نكن نعلم ونعرف ونسأل ويتبادر لأذهاننا عن هوية وانتماء وتبعية وحقيقة ما كان عليه الناس الذين كانوا جميعا بمثابة عوائلنا واحبتنا دونما تفريق أو تمييز بين أسرة المرء وجيرانه وأحبته من المقربين له، هكذا كانت طبيعة المواطن العراقي وما يتحلى به آنذاك، وما كان يتميز به من قيم تسامح وتعايش ومحبة، بتذويب كافة الفوارق والتمايز بين هذا الانسان وذاك، فكنا نلتقي نحن وعوائلنا، باحترام وعطف وتعاون ومشاركة وجدانية مع الجميع على مسافات واحدة دونما تمييز بين الطائفة والمذهب والمكون والدين وحتى في احايين كثيرة بين هذه العشيرة وتلك في مجتمع كان يتسم بالقبلية وحضور العشيرة بقوة في حياة الناس، ولكن حتى العشيرة نجد فيها العربي والمسيحي والكردي والصابئي وغير ذلك، يعيشون جميعا متآخين تحت خيمة واحدة.
هكذا كان المجتمع العراقي بكل تكويناته التي كانت من الجمال والبساطة والحب والتعاون بين الجميع وبروح مواطنة كانت هي الأقوى والأسمى مما نعيشه في وقتنا الراهن وللأسف الشديد، وهنا تكمن دهشتنا واستغرابنا واستنكارنا لما يعيشه العراقي اليوم، فهل أن الزمن يسير بالمقلوب، حيث من المفروض في زماننا الآن اعتمادا على حجم التطور الكبير الذي حدث في العلاقات الإنسانية والمجتمعية، أن تذوب جميع الفوارق والانتماءات والتشكلات الاجتماعية لتتعايش في بوتقة الوطن الواحد وتحت ظله وهو الخيمة والملاذ والمآل لكافة العراقيين دونما تمييز بين هذا المواطن وذاك، وبين هذه المحافظة وتلك، وبين هذا الدين وسواه، وبين هذا المذهب وما يغايره، ايمانا من الجميع بأن التساكن المجتمعي المبني على حب الوطن والاعتزاز بالانتماء اليه، هو الأساس وهو المطلوب في بناء المجتمع المتماسك والقوى الذي بإمكانه أن يصد كل المخاطر التي قد تحيق بالعراق ويحيل هكذا تلاحم وطني صخرة صلبة تتكسر عليها كل المناورات الخبيثة التي تسعى لإضعافه وتفتيت لحمة أبنائه وما اكثر هذه القوى الخبيثة التي تتحين الفرص للانقضاض على العراق وتشتيت ابنائه.
ومما يحز في النفس ويثير فينا الأسى والدهشة، أن هناك قوى عراقية تتحول الى أدوات تنفيذ لهكذا مخططات بوعي أو دونه، لتصبح هذه القوى بشتى مشاربها إلى أدوات هدم لوطن لا يملكون سواه إذا ما هبت عليهم عواصف التدمير التي يقينا ستنالهم قبل غيرهم، ولكن من أين لنا أن نركب على أجسادهم
عقولا بديلة تفكر بمصير الوطن ومستقبل أجياله قبل تغليب مصالحها الآنية والقاتلة؟
فما الذي حصل لنعيش حالات من التفكك والتباين والتطاحن والاقتتال والحقد الأرعن، ويعود العراقي كلٌ يغني على ليلاه الطائفية والإثنية والمناطقية والقبلية والمذهبية والدينية، واضعين وبشكل ذليل ومخجل كل امكاناتهم في خدمة من يعادي الوطن وينصب العداء له ولا يتمنى الخير لأبنائه، ولا يحتاج كل ذلك إلى دلائل بمدى حقد الآخرين لأبناء الوطن الواحد.
هل بات ذلك التراجع الخطير والمؤلم بسبب امتيازات السلطة والمال الحرام وتفتيت المجتمع العراقي بموزائيكه الجميل والثري، لان التنوع ينبغي أن يكون مصدر ثراء وتجدد وتقارب أكثر منه، أن يكون سبب فرقة وتناحر واقتتال. هكذا تشير التجارب الكونية وهكذا ينبغي أن يكون عليه السلم الاجتماعي المطلوب.
هنا تلعب السياسة بكل ويلاتها وخرابها ودسائسها لعبتها الدنيئة، سيما بين من لا يفقه ويجهل ما للسياسة من تأثير تخريبي لنوازع من يقترب منها ويدخل في دهاليزها، إذا ما وظفت بخبث وأهداف غير وطنية، وحتى يكسب هذا السياسي الجاهل بأحابيل وسموم السياسة، امتيازات دنيوية مندوفة بالخزي والعار والدناءة، وهو لا يعلم بأنه يحفر قبره بيده ويرهن مستقبله وأولاده والوطن لكافة صيغ الخراب، وبالتالي يضع حياته والقادم من أيامه على سكة المجهول، لسبب بسيط، ذلك أن تكوينه الفكري الهش وتربيته الفطرية الجاهلة بعظائم الأمور، وقصوره الذهني يدفعه ليكون طيّعا وعبدا لنوازعه الفردية، دون أن يعي بأنه ينتمي لوطن وحضارة ومجتمع ومكونات تشكل بتعدد مشاربها مصدر قوة لا معاول هدم.
ما دفعني للكتابة عن هذا الأمر الخطير، ما نطالعه يوميا وعبر فضائيات الوطن من تكريس وبشكل متعمد وواضح للطائفية والمذهبية والمناطقية والاثنية واحياء النعرات العشائرية، وهذه بوابات حقيقية لقيادة العراق جهة المجهول، فهل يعي المواطن العراقي خطورة هذا النهج وتجنيد نفسه ليكون مادة تخريب لمجتمعه واسرته ووطنه، ليتحول الى بيدق بيد من يريد الشر للعراق، حتى وإن كان هذا الذي يقوده ينتمي للعراق ولكنه انتماء شكلي وما يخفيه من نوايا بداخله لهو أعظم وأشد هولاً.
بالأمس شاهدنا بعض الظواهر المؤلمة والتي تنم عن استيطان الطائفية بقوة في دواخل بعض العراقيين، ذلك أنهم يستقبلون سياسيين هم سبب الدمار وإشاعة الفساد وتكريس الطائفية وما اشاعوه من فساد ونهب واستحواذ على خيرات الوطن وسرقة أموال البلد وتبديدها، يستقبلونهم بالهتافات والاهازيج والاشعار وكلمات الاطراء التي لا يستحقونها، وبالمقابل نجد ذات المخلوقات الفاسدة، هي من تعبث بمقدرات البلاد والعباد وتستشري فسادا ونهبا وعبثا بمقدرات الوطن، والأغرب والأنكى من ذلك، أننا نشاهد تلك الأبواق تخرج زاعقة وتتشكى مما تعانيه من فقر وحرمان واقصاء وبطالة وغياب الخدمات وانعدام اصلاح البنى التحتية والتي تذهب ميزانيتها المخصصة لجيوب أولئك الفاسدين واللصوص وعوائلهم ومن يدور في فلكهم. وهم يصولون ويجولون على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي منتحبين وباكين وشاكين ومتذمرين وزاعقين من سوء أوضاعهم المزرية وتدني الخدمات على امتداد جغرافية العراق، وبالمقابل نجدهم يرفعون عقيرتهم ما أن يلتقون بواحد من الفاسدين وهم يهزجون ويتغنون بمفاخره وحسبه ونسبه وما سواها من زعيق يجعلنا حقا في دهشة من أمرنا، لنطرح سؤالا موجعا ومحيرا: هل أن بعض العراقيين باتوا بهذا القدر من التلون والنفاق وبيع الضمير، ليصفعوننا بموقفين متناقضين وصارخين في يوم واحد؟
إنه اشتباك خطير وعصي على الفهم والادراك ومعرفة فحواه ومغزاه.
أن الطائفية السياسية كما يقول الباحثون المتخصصون، تكون مكرسة من قبل ساسة ليس لهم مصداقية دينية ولا التزام بأبسط الشرائع الدينية أو المذهبية، بل هي موقف انتهازي لاستمالة الآخرين لجانبهم ليدوروا في فلكهم وتكريس النزوع العصبي والاثني كما يقول ابن خلدون، ليصبح الانتهازي السياسي قادرا على الوصول للسلطة والحصول على الامتيازات، جاعلا من البسطاء وفاقدي الأهلية المعرفية مادة طيعة وسهلة للوصول لأغراضه الدنيئة.
فمتى يعي العراقي الذي يدور في فلك الطائفيين والفاسدين دون وعي، بأنه مجرد أداة رخيصة وسهلة الركوب للوصول لأغراض الطائفيين الخبيثة وتحقيق مآربهم الرثة على حساب المسحوقين والمعدمين والمتضررين من أبناء الوطن الجريح في الوقت الذي ما يحتاجه العراق منهم الوقوف معه وليس مع اعدائه، إذا ما كرسنا كل جهودنا لإعادة بنائه لينهض معافى وأبيا وكريما وعزيزا بأبنائه من جديد؟