تعد مشكلة السكن احدى المشاكل المهمة في المجتمع العراقي لمساسها المباشر بحياة الناس واستقرارهم النفسي والاجتماعي والاقتصادي وارتباطهم بالأرض التي يقفون عليها وهو حق كفله الدستور والقانون إذ نصت المادة (30/ثانياً) على (تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم وينضم ذلك بقانون) ولا يخفى على الجميع عدم تشريع هذا القانون لغاية الان وبقاء هذه المادة حبراً على ورق، ويرى العديد من الاجتماعيين ان السكن هو الوطن فمن لاسكن له لا وطن له وهو الحد الأدنى من الحاجة الإنسانية ليشعر الشخص بإنسانيته بعد الحاجات الفسيولوجية كما صنفها العالم الاجتماعي ابراهام ماسلو في هرمه الشهير حيث اعتبر الحاجة الى الأمان اهم الحاجات الإنسانية التي يعمل الافراد على اشباعها وتأتي بعد حاجته الى الطعام والشراب فحين يفقد الانسان السكن فهو يفقد طعم الهناء والاستقرار أي يفقد طعم انسانيته.
ومن الواضح ان ازمة السكن تتجذر في المجتمع العراقي منذ عقود طويلة ولغاية الان حيث افرزت العوامل الطبيعية والسياسية والاقتصادية والامنية واقعاً متردياً اهلكته الحروب الخارجية والداخلية فضلاً عن سنوات الحصار المدمرة وسوء الإدارة والتخطيط وعدم وجود الوعي المطلوب من قبل الطبقات الحاكمة وأصحاب القرار السياسي والاقتصادي منذ حوالي اربعة عقود ولغاية الان مما نتجت عنه صعوبات كبيرة اثرت على واقع ومستقبل السكن في العراق، وتعود اسباب هذه الازمة الى العديد من العوامل التي يمكن اختزالها بما يلي :-
• الزيادة المضطردة في اعداد السكان اذ ارتفع من 22 مليون عام 1997 الى 37 مليون عام 2018 حيث يعد العراق من البلدان سريعة النمو وبمعدل يصل الى 3‎ في المائة‎ سنوياً.
• ضعف الأجهزة التخطيطية من حيث الكفاءة والعشوائية والارتجال في قراراتها خلال العقود السابقة.
• غياب السياسة المالية والمصرفية والدعم اللازم لتمويل مشاريع الإسكان سواء على مستوى البناء الفردي او مشاريع الإسكان الكبيرة.
• الافتقار الى سياسة اسكانية واضحة مستقرة ومستمرة تتبناها الدولة.
• الهجرة من الريف الى المدينة، والضغط على الأماكن الحضرية لأسباب عديدة منها عدم وجود عمل في المناطق الريفية و ارتفاع نسب البطالة في تلك المناطق.
• الواقع الأمني المتردي للعديد من المدن العراقية، والذي أجبر سكانها على النزوح من مدنهم الى مدن اكثر اماناً كان بمثابة عبء اضافي على ازمة السكن في العراق.
وتقدر احتياجات العراق من الوحدات السكنية بقرابة 3 ملايين وحدة تتزايد بشكل مضطرد بارتفاع الولادات وتزايد النسب السكانية في البلاد حيث تصل هذه الزيادة الى قرابة 850 الف نسمة في كل عام يشكلون نواة اسر جديدة تحتاج الى السكن والمأوى، مع الاخذ بالاعتبار الدمار الحاصل في البنى التحتية والشقق والمنازل السكنية للمدن المحررة من عصابات داعش بالإضافة الى عجز الحكومات السابقة في وضع الحلول المناسبة لهذه الازمة.
ان الواقع السكاني المتزايد وارتفاع عدد الاسر العراقية يؤشر ضرورة وجود حلول جذرية واستراتيجية واقعية وعميقة تعمل على رسم الخطط اللازمة لهذه الازمة ويمكن الإشارة الى مبادرة رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي حيث اعلن في مؤتمره الصحفي الاسبوعي في 21 تشرين الثاني 2018 عن اطلاق مشروع سكني كبير في مختلف المحافظات لتوزيع اراض مملوكة للدولة على المواطنين وتمليكها لهم مجانا وخصوصا ساكني العشوائيات والشرائح الفقيرة ومن لا سكن له. وقد سبقه في مثل هذه المبادرة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي من خلال بيان المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء في 8/حزيران/2018 والذي نص على ان "الحكومة تسعى للإسهام في تقديم المعالجات الجذرية لأزمة السكن وإيجاد الحلول للتخفيف من الأعباء التي يواجهها المواطنون في هذا الجانب، وذلك من خلال تخصيص الأراضي السكنية للمواطنين". وتمثل هذه المبادرات واحدة من الطرق الحكومية المعتادة بين فترة وأخرى والتي تكون فيها الحكومة هي المساهم الأكبر لحل ازمة السكن بآليات تكون في الغالب غير مرضية للجميع، وهو إجراء بالرغم من الفوائد العديدة التي قد يحققها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي لكنه يبقى محدود الأثر وغير مجد عملياً وخصوصا بالنسبة للفقراء وساكني العشوائيات، وعند النظر الى هذه المبادرات من وجهة نظر اقتصادية تتجلى امامنا صورتان عن واقع الحال.. الأولى هي ما يمكن ان تضيفه هذه المبادرة من حركة عمل تترتب على بناء هذه الأراضي (اذا ما تم فعلاً توزيعها) تعمل على دفع عجلة الاقتصاد والسوق العراقي الذي يعاني من كساد منذ فترة ليست بالقصيرة، حيث يضمن توزيع قطع الاراضي تشغيل مئات الالوف من الايدي العاملة في كل محافظات العراق مما يؤدي الى خفض مستويات البطالة وتوفر فرص العمل للشباب خارج اطار الوظائف الحكومية وبما يحقق كبح زخم الشباب نحو القطاع العام وضمان توجههم نحو فرص عمل القطاع الخاص، بالإضافة الى رفع روح المواطنة والانتماء بين افراد الشعب وإعادة جسور الثقة والتواصل بين المواطن والقرارات السياسية في حال نجاح هذا المشروع.
والصورة الثانية هي التحديات التي تواجه الحكومة العراقية عند البدء بتنفيذ هذه المبادرة والمتمثلة بتوفير البنى التحتية والخدمات الأساسية اللازمة مثل العمل على تأسيس شبكة مجاري جديدة لهذه الوحدات السكنية، بالإضافة الى توفير المياه الصالحة للشرب والكهرباء والانارة اللازمة لها، واستحداث شبكة طرق جديدة ومستشفيات ومدارس وأماكن الترفيه، بالإضافة الى العمل على توفير الأموال اللازمة وتحسين وتطوير النظام المصرفي للقيام بصرف قروض مصرفية تمكن المواطن من الاستفادة منها في بناء هذه الأراضي وتسهل عليه تجاوز العقبة المالية، وغيرها العديد من الخدمات الأساسية التي يمكن ان تشكل تحديا كبيرا للحكومة العراقية وخصوصاً ان العراق يعاني اصلاً من نقص هذه الخدمات وتراجعها وبشكل كبير جدا.
ان مبادرة رئيس الوزراء شكلت جزءاً من الحل الحكومي التقليدي لمثل هذه الازمات والذي يحمل في طياته العديد من المشاكل والمعوقات التي اوضحنا قسما منها ويجب الإشارة الى وجود حلول غير حكومية يتبعها المواطن من تلقاء نفسه كحل لازمة السكن كما بينها المهندس رشيد السراي في بحثه "مقترح مشروع المدن الجديدة لحل أزمة السكن في العراق" والمتمثل بالنقاط التالية :-
• بناء دار على حسابه الخاص وهذا الحل متاح لعدد محدود، لان تكلفة البناء المناسب ليست متاحة للجميع ، لذا فهي ليست ذات جدوى ما دام مستوى دخل الفرد منخفضاً.
• شطر الدار الى دارين او اكثر وهو حل مؤقت وغير متاح الا في البيوت ذات المساحات الكبيرة والتي يوجد توافق معقول بين أفرادها وهذا يخلق مشاكل كبيرة في توفير الخدمات وكثرة الزحام في المدن، فضلاً عن المشاكل الاجتماعية التي قد تترتب على هذا الحل.
• البناء في المناطق او الاراضي الزراعية او قريبا منها وهذا الامر يعد غير قانوني حالياً لعدم وجود تشريع يملك البيوت في الاراضي الزراعية، لذا فلن يستفيد صاحب الدار من أي امتياز تمنحه الدولة لصاحب العقار من سلف وغيرها .
• البناء في العشوائيات عند اطراف المدن او داخلها، وهذا خلق أحياء عشوائية (تجاوزات) ذات مستوى منخفض في الخدمات بشكل كبير، وفوضوية عالية في تصميم المنازل والشوارع، ولو تم حل أزمة السكن لذوي الدخل المحدود والفقراء لما تم اللجوء لمثل هذا الاسلوب.
على الحكومة العراقية وضع حلول جدية وواقعية لأزمة السكن في العراق لما تمثله من خطر داهم يهدد المجتمع العراقي حيث تشير العديد من الدراسات الى ان نسبة 44‎ في المائة‎ من حالات الطلاق في المحاكم العراقية تعود لأسباب مرتبطة بالسكن والاحتكاك الاسري الناجم عن وجود اكثر من عائلة في منزل واحد، ولعل هذه الحلول هي مسؤولية الحكومة العراقية والتي يمكن الإشارة اليها بالنقاط التالية :-
1. ‎بناء مدن جديدة خارج الحدود البلدية للمدن الحالية مع تجنب الارضي الخصبة قدر المستطاع.
2. التركيز على البناء العمودي في الخطط الحكومية والابتعاد عن البناء الافقي لما يمكن ان يستهلكه من مساحة الارض.
3. اشراك القطاع الخاص والتركيز على الاستثمار الداخلي والخارجي كمرتكز أساسي لأي مشروع اسكاني.
4. تحديث وتطوير النظام المصرفي بما يضمن توفير السلف والقروض المالية وبشروط واقعية بعيدة عن المبالغات غير الموضوعية.
5. توزيع قطع أراضي على المستحقين والمحتاجين من أبناء الشعب كأحد نقاط الحل ولتجنب تدمير وتجريف الأراضي الزراعية التي تراجعت بشكل كبير بسبب البناء العشوائي للأفراد.
6. العمل على بناء وتحديث وتطوير البنى التحتية للبلاد مثل تأسيس شبكة مجاري حديثة وتطوير الطرق وبناء المدارس والمستشفيات في المناطق الجديدة وغيرها.
7. تعزيز وتطوير نظام المعلومات وقواعد البيانات بالحاجة الفعلية للوحدات السكنية لكل محافظة والتنبؤ بالنمو السكاني فيها، والتحديث المستمر لها.
8. الاهتمام بالتنسيق بين دوائر البلديات والتخطيط العمراني والتسجيل العقاري في المحافظات باعتبارها من الدوائر المعنية عن هذا المجال.
9. إعادة رسم وتخطيط المدن وفق الأسس العلمية الصحيحة مع مراعاة نسبة الزيادة السكانية السنوية.
10. تشجيع الباحثين والدارسين من حملة الشهادات الأولية والعليا على وضع الدراسات والبحوث ورفدها بالأفكار والمقترحات للنهوض بالواقع السكاني.

عرض مقالات: