يقول الروائي الكولومبي غابريل غاريا ماركيز الحياة ليست ما يعيشه أحدنا ، وإنما هي ما يتذكره وكيف يتذكره ليرويه .

 من الأمور التي تفرض نفسها على الذاكرة ، ولا تنسى ، هي رفقة العمل المشترك الجامع بين حب الوطن ورفع سمعته وبين خدمة ناسه . وخاصة في زمن لم يكن رحيما على القائمين بالعمل المشترك المقدر بقياس ما تفرضه مصالح الشعب والوطن العليا ، والتي لم يجر التهاون بها تحت سطوة التعذيب حتى الموت . الأغلبية العظمى إختارت هوية ميلاد الخلود . أمثال هؤلاء قائمتهم تطول وتطول لا لكونهم رفضوا ما عُرض عليهم من حياة مرفهة ، وإنما لكونهم لبوا نداء الشاعر التركي ناظم حكمت ، إذا أنت لم تضح وأنا لم أضح فمن يضيء الطريق ، ويعني طريق الوصول للحياة الحرة الكريمة للشعوب . ولتزايد اعداد المضحين بحياتهم لقب حزبهم بحزب الشهداء.

 من ضمن هؤلاء تعايشت رفقتي وإياهم (رغم قصرها) ، بحب الوطن وناسه ، فجعلوا منهما جسرا يربطني بذكراهم . احدهم الشهيد الدكتور صباح الدرة ، الذي عايشته عندما كان سكرتير اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي ( وفدي ) حيث سجل مواقف بطولية في الصمود بمقر جريدة إتحاد الشعب ليسهر على تأمين أماكن آمنه لحماية رفاقه من الهجوم البربري العفلقي على حزب الطبقة العاملة ،الحزب الشيوعي العراقي.

كان الشهيد يتصف بسداد الرأي واﻷمكانية الخلاقة في  تربية الكادر ، و نظرته الى عامل الزمن الذي يفرض استغلاله لتحقيق ما نصبو اليه ، فهو لا يعطي الفرصة إذا أطالنا التفكير به ، فيمر كما  يقول بسرعة ، وأي تأخر في مجاراته بإتخاذ موقف صائب تجاه ما يواجهنا به من أمور تتطلب سرعة البت بها ، يضيع علينا قدرة حسم ما يأتي . لهذا كان يرعى ويهتم بالشباب من الرفاق بأعتبارهم عنصر حركة الحزب بين الناس ، يحثهم على ضرورة التواضع  والتعود الى اﻷنصات للأخرين ، وعدم التطير من اﻷفكار المغايرة  والمطروحة مهما كانت بدائية داخل التنظيم فحسب . فرسائله المحملة بأخبار الوطن واﻷرشادات التي بعث بها وأنا في كوبا مع مجموعة من شبيبة العالم ، ﻻ زالت تأبى مفارقة الذاكرة ناصحا إياي استغلال الوقت لتعلم اﻷسبانية ، وفعلا تم ذلك بحيث في آخر فترة الدورة عوضت اﻷنكليزية باﻷسبانية .، غادر الى الوطن بعد وصولي الى بودابست بأشهر، التقيته للمرة اﻷخيرة في مهرجان الشبيبة العاشر عام 1973 ببرلين ، ليصبح هذا آخر لقاء بيننا ، حيث أختطف مع آخرين أواخر عام 1979. فما كان إلا أن نتحرك في المحافل الدولية لشن حملة تضامن مع شعبنا ، فإتصلت بأصدقائه وزملائه في إتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي لهذا الغرض لمطالبة النظام العفلقي بمعرفة مصيره وأطلاق سراحه مع من أختطف . هنا طغت المصالح وتداخلت العلاقات السياسية فحالت دون التضامن مع شعب كان يصفى وطنييه ويغيبون تحت التعذيب بأيدي جلادين مساكين وهم يضحكون.

بعده شغل منصب سكرتارية اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي(وفدي) الشهيد فهمي الحكاك . الذي كان يؤكد على تحقيق مباديء الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية ، إذ كان يؤكد على أنه إذا  اردت أن تخدم حزبك وبالتالي شعبك ما عليك الا أن تبدع في مجال عملك وأن تكون اينما يكون في حاجة لخدماتك ،  يجب أن تصغي للآخرين ، وان تطغي نشاطاتك الطبقية على نشاطات المعادين لها ، من حيث الكمية والنوعية ، فالمعركة اليوم كما كان يقول عند تصاعد الهجوم البعثي على الحزب هي معركة تثبيت الروح الوطنية التي تحتاج الى نهج فكري يؤمن بالديمقراطية في حياة الحزب الداخلية . ليته الآن بين صفوفنا ليرى ان تمنياته قد تحققت ، فالديمقراطية قد تعمقت في حياة الحزب الداخلية ، وإتسع حراكه الوطني ذو اﻷبعاد الأنسانية والإجتماعية ، فها هو الحزب يجسد تنسيق الحراك الجماهيري في ساحات ألتظاهر ، تطبيقا لمقولة الخالد فهد ، قووا تنظيمكم قووا تنظيم الحركة الوطنية ، فخرج مع إسلاميين وطنيين معادين للطائفية والفساد ، بإتلاف سائرون لوضع حد للمحاصصة والفساد وكنس آثارهما السلبية من العملية السياسية. 

لن أنسى أبن القوش الباسلة الدكتور سلمان داود جبو الذي لبى نداء الحزب في معركة الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان ، فإستشهد في الطريق لكردستان العراق . فذكراه فرضت نفسها ، بشكل لا يمحى من الذاكرة بما كان يتمتع  به من علاقات حميمية ، مع قابلية تقديم المساعدة للأخرين ، ما فيهم من لا يروق فكره لهم . بالرغم من إدراكه من انهم كانوا يستهدفونه ضمن حملاتهم لتصفية شيوعي الخارج . لقد امتاز الرفيق الشهيد بهيأة ذات طلعة عراقية اصيلة ومميزة ، تدل على اصوله الكلدانية ، التي تأخذك الى عالم مدن العراق الاثرية بابل ونينوى وإلى مكونات مجتمعنا العراقي العرقية ورثة  بناة حضارة وادي الرافدين  ورجالاتها . امتاز بمرحه الذي يقارب الطفولة في براءتها.

في سوريا كانت رفقتي القصيرة مع الرفيق هادي صالح (ابو فرات ) العامل في مطبعة المدى بدمشق . بعد إزاحة الدكتاتورية عاد الى الوطن وعمل في نقابات العمال . إستشهد خنقا بسك بعد تجليسه على الكرسي ،من قبل عصابة لم يروق لها أن تحتل الطبقة العاملة العراقية مواقعها الرائدة في طليعة نضال شعبنا من أجل حياة حرة كريمة ، وعند عملي في طرابلس بليبيا . عملت مع الرفيق شاكر اللامي ( ابو علي) اغتالته ايادي الطائفية ، ليستشهد مع العشرات الذين تصدرهم الشهيد سعدون وكامل شياع على ايدي طائفيين لا يروق لهم  أن يواصل نجم الحزب سطوعه في سماء الوطن ، هؤلاء وغيرهم غادرونا جسديا ولكنهم بقوا عالقين بأفكارنا بإعتبارهم رواد الشهادة من أجل صيانة فكر الحزب ووحدته.    

المجد والخلود لشهداء حزبنا الأبرار

 

عرض مقالات: