إنه عتابٌ دامٍ مع الوطن البعيد، والمنفى، والموت الذي أخذ يزحف حتى لأسرة نومنا، بعد أن بلغنا من العمر ارذله، بعد أن كنا وما زلنا محملين بهموم وطن ظل يستوطن وجداننا المنكسر دائما وعلى امتداد عقود المحن التي مرت بالعراق ولم تسنح لنا فرص الانعتاق من ربقتها وهي آخذة بالتمدد يوما إثر آخر، ونحن نمنّي النفس أن ننال قسطا من الاطمئنان، وبأننا نرتمي في أحضان وطن يمنحنا لمسة حنان يعوضنا ما فاتنا من عقود عمرنا التي مرت دون أن نحفل بهدأة وسلام وحياة بقينا نتمناها ونسعى لها حتى في احلامنا، ما أن نضع رؤوسنا على وسائدنا ونستحضر اذرع الوطن تمتد لأجسادنا المنهكة لتمنحنا دفئا بقى يلازمنا ونحن في منافينا، رغم حجم الخسائر التي يئن منها لنشاركه عذاباته ويشاركنا وحدتنا واحساسنا باليتم الذي ظل ديدننا منذ أن غادرناه بدموع وحسرة وألم وما كنا نعرف إن كانت تلك هي رحلة الوداع الأخيرة، أم أن ثمة أمل بالعودة لأحضانه وبقينا نتشبث بهذه الأمنية منذ أن غادرناه شبابا يافعين بعمر الزهور، حتى أخذت ورود اعمارنا الغضة تأخذ بالذبول سنة بعد أخرى، وأملنا المعقود بالعودة آخذ بالتلاشي، وأهالينا يتساقطون كأوراق الخريف واحدا واحدا دون أن نلقي عليهم نظرة الوداع الأخير، أو نطبع على جباههم قبلة، عرفانا لهم وهم يلاحقون اخبارنا حين كنا في وطن لا يعرف غير السجون والمعتقلات والملاحقات وتغييب الأحبة. لتستمر محنهم ونحن بعيدين عنهم، موزعين في أصقاع الله الواسعة والنائية عنهم.
وانا أتذكر بخشوع سيرة أهلنا الطيبين وحجم عذاباتهم المهول وقلوبهم معلقة بنا وبأخبارنا وهم يعانون الأرق والسهد والمواجع التي ما تحرروا منها يوما، تذكرت أمي وعمتي "الزايرة" حين قررتا وبإصرار لا رجعة عنه، أن تسافرا لسجن نقرة السلمان لزيارة أخي الأكبر المعتقل في ذلك السجن الصحراوي المخيف، سجن الموت والتصفيات الجسدية، أواخر عام 1963، وقت كان حزب البعث الفاشي وجلاديه يرسلون خيرة شباب العراق ومفكريه ورجالاته لذلك المنفى الذي كان العراقيون يعتبرونه وضع نهايات لأعمار أولئك المناضلين الأفذاذ، بعد أن حشروا المئات من المعتقلين في قطار الموت المعروف لدى العراقيين.
كانت أمي تنوح ليل نهار على ابنها الذي لا تعرف عن اخباره شيئا، حيث تصل من حين لآخر أخبار موت وتصفيات وقتل فلذات اكبادهم، وكنا نخشى عليها أن تقضي نحبها بكاء وألما على ولدها، لهذا قررت السفر لذلك المنفى الذي كان يعتبر نهاية الحياة، حين عقدت العزم على السفر صحبة عمتي التي كانت أكثر جرأة منها، ومما زاد من مخاوف العائلة وقلقها، انها قررت اصطحاب حفيدها الذي لم يبلغ حينها من عمره الثلاثة أعوام، بمغامرة تكتنفها المخاطر والأهوال وحرارة الجو الذي تفوق الخمسين درجة.
أفلحت أمي المسكينة في الوصول لذلك الجحيم الأرضي، وعادت لنا وهي بفرح غامر ممزوج بحنين الأمومة الذي تركته هناك مع اعداد هائلة من رزم رسائل المعتقلين التي بقيت أنا الصغير اليافع مع والدي نبحث عن عناوين العوائل لإيصال الرسائل لهم.
آثرت أن استعين بذاكرتي لإدراج هذه المحطة الهامة من عشرات المحن التي مررنا بها وعوائلنا منذ نعومة اظفارنا لتكون شاهدا على حجم المرارات التي لا نحتكم على غيرها ونحن نتنقل من فاجعة لأخرى، دون بصيص أمل بالتخلص من ربقة المآسي التي كانت هاجسنا ومصدر تعاستنا، وحين هربنا بجلودنا وما نرتديه من أسمال خوفا من مخالب الموت التي كانت آخذة بالتمدد نحونا نحن الذين بقينا بذات الوفاء والإخلاص والايمان للقيم والمبادئ التي تربينا عليها، حيث كان من العسير التهاون بها أو المساومة عليها، بات قدرنا أن نختار المنافي التي تحولت الى ملاذات أخيرة لا خيار لنا سواها، واخبار الأهل تصلنا يوميا وهي تحمل الفواجع والكوارث، وروائح الموت تصل حتى لمنافينا، فماذا ربحنا اذاً غير أننا بقينا ممسكين بكرامتنا بتشبث نادر تلك التي اعتبرناها هي الرأسمال للحقيقي للتفاخر بالحفاظ على نقائنا.
وها هم الأحبة ممن شاركونا ذات الملاذات البعيدة عن الوطن الذبيح شأنهم شأن الراحلين من اهالينا واصدقائنا ورفاقنا واخبار الموت هي من تصلنا فنكتفي بالنواح والنشيج، والحسرة تأكل دواخلنا دون أن نقول لهم وداعا، ها هم أصدقاء المنافي من رفاق وأحبة يغادروننا يوما بعد آخر، ولا نملك من أمرنا غير النحيب على ما حل بهم وما سيحل بنا، بالأمس القريب ثكلنا بفاجعة رحيل رفيقنا جمعة الحلفي، وقبلها برحيل رفيقنا أبو مريم، واليوم نتوصل بمغادرتنا المفكر العزيز فالح عبد الجبار، وغيرهم الكثير، حيث نختزن الآن بمفكرتنا الدامية أخبار الأمراض المميتة التي تلازمنا، فمنا من ينتظر رحيله قريبا ومنا من يأمل بكسب حفنة من أيام قادمة.
فما أمر وأقسى وأشد حزنا وأنت تنتظر رحيلك بعيدا عن الأحبة والأصدقاء وما تبقى من أهل، وقبل كل شيء أن تحفل بلمسة دفْ من تراب الوطن، فهل هذه الرغبة الإنسانية بعظيمة التحقق.
وأخيرا أقول لأحبتي واصدقائي ورفاقي ممن ينتظرون يوم رحيلهم، ما علينا إلا أن نستثمر ما تبقى لنا من أيام لنرثي الوطن قبل أن نرثي أنفسنا.