بعد ان عانت البصرة الكثير في سنوات الحرب العراقية ـ الايرانية، حرب الخليج الثانية، الهجوم الدموي لصدام بسبب انتفاضة ربيع 1991 التي انطلقت شعلتها منها و عمّت البلاد، ثم بسبب الاحتلال الاميركي، الارهاب الاسلاموي سواءً من القاعدة او من الميليشيات الشيعية الإيرانية و التابعة لإيران، عانت بسبب مقتل الآلاف من ابنائها و عوائلها و مافعله و يفعله الرعب بسبب انعدام الأمن، اضافة الى الدمار في البنى الاساسية للمحافظة، كلّها تسببت بالحياة المريرة التي يعيشها ابناؤها، وهي المحافظة الطافية على بحيرات النفط الهائلة و تسد بحدود 90 % من مصاريف البلاد.   ومنذ عام 2011 و الى الآن انطلقت مظاهرات و احتجاجات عارمة حرّكت كل الأجواء في العراق مطالبة بالامن و الخبز و الحرية، احتجاجات لم تحصل بتحريك حزب ما ولا بتحريك موقع اجتماعي في فرنسا كما عبّر مسؤولون حمقى، و انما احتج اهالي المحافظة شيباً و شباباً و نساءً و من كل الاطياف العراقية بسبب البطالة و الفقر و انقطاع الكهرباء في مواجهة الصيف القائض و الشتاء القارس، مطالبين بتغيير المسؤولين في المحافظة و تقديمهم للقضاء على الأق  .

الاحتجاجات التي واجهها المسؤولون هناك بالرصاص الحي و باعتقالات و اختطاف الناشطين التي تسببت بسقوط شهداء و مئات الجرحي و ضياع اخبار العشرات، الاّ انها تواصلت و اخذت تتصاعد متحدية المسؤولين الفاسدين و رصاص و قنابل الميليشيات الاسلاموية انفة الذكر التي تسببت و تتسبب بتساقط اعداد كبيرة جديدة من الشهداء و الجرحى، و ادّت الى مهاجمة مقرات الاحزاب الحاكمة التي اسست للفساد الهائل و للنهب و التهريب الفلكي للنفط الخام سواءً بانابيب مموهة، او عبر ناقلات برية و بحرية تسير بحماية تلك الميليشيات .  ورغم العنف و القمع بكل الوسائل تجاه المحتجين، فإن الحكومة المحلية و المركزية اجزلت الوعود لإيجاد حلول عملية للمعاناة المتصاعدة، في إيجاد فرص العمل، و التعامل الجدي مع موضوع العمالة في شركات التراخيص النفطية، و العمل بالمشاريع الاستراتيجية الخدمية لانهاء أزمة المياه وألطاقة، بل و ان رئيس الوزراء السابق السيد العبادي في دورته كان قد وعد بالاسراع بايجاد حلول عملية سريعة لأنواع المعاناة في المحافظة، و خاصة في المشاريع الخدمية بتوفير الماء الصالح للشرب و توفير الكهرباء و غيرها، الاّ ان شيئاً لم يحصل، الامر الذي صاعد من الاحتجاجات .  .

في ظروف وصفها مراقبون، بمحاولات جماعات لجهات اشارت اصابع الاتهام الى كونها ايرانية و خليجية، حاولت حرف الاحتجاجات عن مسارها الطبيعي السلمي المكفول دستورياً، الى اعمال عنف و شغب منها مهاجمة القنصلية الايرانية التي كانت قد سحبت وثائقها، و القنصلية الاميركية التي انسحبت لاحقاً حفاظاً على منتسبيها. و رغم اجراءات القمع اللاحق بحق المحتجين، بحجة مهاجمة القنصلية الإيرانية و الاعلان عن بدء التحقيق لمعاقبة المتسببين، الاّ ان الأمر مرّ دون الإعلان عن نتائج التحقيق و دون الإعلان عن تلك الجهات.

لقد فاقم تواصل الإهمال الأوضاع اكثر و تحوّل الى انتفاضة شعبية في محافظة يعيش فيها حوالي ثلاثة ملايين نسمة، يشكّل ابناء الطائفة الشيعية الغالبية فيها، بوجه الحكم الطائفي (الشيعي) محلياً و مركزياً، و وصلت مقاومة المنتفضين للقوات المهاجمة ايّاهم الى اعلان الجيش و عدد من الوحدات الأمنية، اعلانهم عدم التدخل .  . فكانت انتفاضة شعبية شكّل ابناء الشيعة الغالبية فيها بوجه حكم (شيعي)، انتفاضة عرّت الحكم بكونه ليس استمراراً على موقف الامام الحسين بوجه حكّام بني امية الجائرين كما حاول تصويره المالكي رئيس حزب الدعوة الحاكم.

و رغم الاهتمام المتأخّر لرئيس الوزراء حينها العبادي بالموضوع و زيارته للمحافظة و قيامه ببعض الإجراءات (الاستثنائية) كاشراف مجلس الوزراء المباشر على الاصلاح في المحافظة .  . الاّ انها لم تُغيّر من الواقع المرير شيئاً، في وقت اججت فيه الانتفاضة و قساوة محاولة قمعها، الاوضاع في عموم البلاد و ادت الى فقدان العبادي لفرصته بالفوز لدورة ثانية، رغم دوره الواضح في الانتصار على داعش و دوره في عدد من الاجراءات المهدّئة.  

و تشير صحف و وكالات انباء دولية و اقليمية محايدة، الى انه فيما تتجدد الإحتجاجات بسبب استمرار الفساد و المحاصصة و عدم اتخاذ حكومة السيد عبد المهدي اجراءات رادعة و عملية سريعة،  فان الاحتجاجات تجري الآن في ظروف اكثر خطورة تتزايد  فيها احتمالات احتكاكات اميركية ـ ايرانية على الاراضي العراقية، في وقت اعلان الحصار على الجارة ايران .  .   

و يشيرون الى توجيه محتجيّن في محافظة البصرة نداء إستغاثة الى الرئيس الاميركي ترامب لتوجيه الجيش الاميركي بالتدخل والقضاء على الميليشيات آنفة الذكر التي اسموها (العصابات المسلحة) التي تسرق نفط المحافظة و تسلمه مقابل اسلحة و عمولات سواء الى ايران او الى عصابات ارهابية، و ان تلك العصابات قد أغتالت و قمعت و عذّبت متظاهرين وناشطين شاركوا في التظاهرات الاخيرة.

في وقت اكّدت فيه وسائل اعلام و نواب على افتقاد مواطني المحافظة الى ابسط وسائل العيش مثل الماء والكهرباء، و انهم يطالبون بالاصلاح والتعيينات للشباب العاطل عن العمل واكثرهم من الخريجين واصحاب الشهادات العليا ولكن المجاميع المسلحة تحتكر التعيينات لصالحها ولصالح احزابها و عصاباتها، مشددين على ضرورة أعتماد الجدية والسرعة في أنجاز واستكمال المشاريع الخدمية المرتبطة بتحسين الواقع المعيشي بأعتباره حقا أساسيا مكفول دستوريا ودوليا لمواطني المحافظة، و على طرد العمالة الاجنبية غير الماهرة واستبدالها بالعراقية التي تعاني من البطالة و الفقر فضلا عن حل مشكلة المياه ومحاسبة الفاسدين ونزع السلاح وحصره بيد الدولة والاسراع بتنفيذ وعد الحكومة السابقة بمنح البصرة 10 ألف درجة وظيفية.

و يرى الكثيرون ان اهمال حكومات المحاصصة و انشغال رجالها بالسرقات و الارباح الانانية الضيقة وفق المحاصصة، جعلها تغمض العين او غير قادرة على ملاحظة مايعمله الفساد و الاهمال بالشعب الذي تغيّر موقفه من الحكّام، و منه تغيّرْ مواقف اهالي المحافظة بسبب ما ابتلاهم به حكم الاسلام السياسي الذي حوّل حياتهم جحيماً، الامر الذي جعل اوساطاً منهم و باسف تطالب بتدخل الاميركان لتخليصهم، كما خلّصوهم من داعش  .  .

بل و ينشغل افراد حكومات المحاصصة بموضوعة (ابعاد القوات الاجنبية) و جدولة انسحابها، ناسين حتى انها هي التي اجلستهم على كراسي الحكم .  . و ناسين دور قوات التحالف في ابعاد خطر داعش التي استولت على ثلث البلاد و هددت العاصمة بغداد و النجف الاشرف، اثر اصرار المالكي و موافقة اوباما على انسحابها في عام 2014 ، و ناسين اغفالهم عن تغلغل الدوائر الإيرانية في اجهزة الدولة و تسيّدها في تقرير : من يكون المسؤولين و اية قرارات هامة عليهم اقرارها.

تلك الإهمالات و اللصوصية و العنف و التهديد، هو الذي جعل الكثير من المؤسسات الدولية و الاقليمية و الراغبة بالاستثمار في البلاد، تصف المتنفذين و الحكم القائم بكونه حكم فوقي لصوصي، و ارهابي مهمل متستّر بالدين و الطائفة ـ وهما منه براء ـ ، عدا شرائح تحاول الاصلاح الفعلي . في وقت يرى فيه مراقبون، بان الأحداث تُثبت ان المطالبة بخروج القوات الاجنبية لها اسس و مقومات اولها عيش مواطنها بأمان و بالشروط الانسانية التي حددتها الامم المتحدة و المنظمات الإنسانية الدولية، اضافة الى ايقاف دخول الدوائر الايرانية في هيكل دوائر دولة البلاد و ايقاف تحكّمها و سعيها لجعل العراق ساحة للصراع الأميركي ـ الإيراني.

عرض مقالات: