كثيرون تغنوا بكِ، وأكثر منهم نظموا فيكِ، وأكثر أكثر كتبوا عنكِ، قالوا إنكِ ذهب الزمان وضوعه العطر، وأنكِ مكملة الأعراس، ووجهكِ يغسله القمر، فغدت معسولة لياليكِ الألف، أما ذكرك فمقرون بذكر الأحرار، فما ذُكروا في وطن إلا وأهلوكِ العلى ذكروا. وصفوك بقبلة العالمين وحكاية السائحين والغادين والرائحين.. الداخلين فيها والخارجين منها، وقد صدقوا في كل توصيفاتهم، فأنت المدينة التي قال فيها الشعراء والكتاب والرواة القدماء والمحدثون، ما لم يجتمع قوله في أرض من بقاع المعمورة. أنت بغداد ملهمة الشعراء والكتاب والمؤرخين والسواح، أنت التي قال فيك خضر الطائي:

أبغداد لا أهوى سواكِ مدينة

ومالى عن أم العراق بديل

خيالك فى فكرى وذكراكِ فى فمى

وحبك وسط القلب ليس يزول

رعى الله صحبى فى الرصافة أنهم

بقلبى على بعد الديار نزول

وأنت بغداد مهما طاف السواح في بقاع المعمورة، يعودون في وصفهم كالعرجون القديم إلى ضفافك وجمالك، فقد قال فيك الشاعر الوراق ابو القاسم:

أعاينت في طول من الأرض والعرض

كــبــغـــداد داراً إنـهــا جـنـة الأرض
صفـا العيـش في بغداد وأخضر عـوده

وعـــودُ سـواه غـيـر صافٍ ولاغض
تـطــول بـهـا الأعـمـار إن غــذاءهــــا

مريء وبعض الأرض أمرأُ من بعض

وانت التي صدح في وصفها كل من حل فيها راغبا.. ولم يكن يرتحل عنها إلا مرغما، فهذا أبو محمد البافي عبد الله بن محمد ينشد:

على بغداد معـدن كل طيــب

ومـعنى نـزهـة المتنــزهينــا
دخـلنـا كـارهيـن لـهــا فلـمـا

ألفـناهـا خرجـنـا مكرهـينــا

نعم.. وغير هذا كثير.. كثير.. ما لاتسعه صفحات ولاتحتويه مجلدات في الوصف والتشبيب، فالقاطنون فيها يتغزلون بجمالها وحسنها وطيب أناسها، والناؤون عنها يتحرقون شوقا الى حاراتها والى مائها وهوائها، فقد كتب طاهر بن المظفر بن طاهر الخازن:
هي البلدة الحسناء خصت لأهلهـا

بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مِصرِ
هـواءٌ رقيقٌ فـي اعتـدال وصحـة

ومـاءٌ لـه طعــمٌ بِحَرٍّ وفي قَرِّ
ودجـلتـهـا شـطـان قـد نظـمـا لـنـا

بتاج الى تاج وقصـرٍ الى قصـرِ
تـراهــا كـمسـكٍ والمـيـاهُ كفـضـةٍ

وحصباؤها مثل اليـواقيـتِ والـدرِّ

أما هارون فقد كان مولعا بمدينة الرقة في الشام، وحين أرادت زوجته زبيدة أن تحيده عن رأيه وتلفت انتباهه الى بغداد أعياها ذلك، فلم تجد بدا من الاستعانة بالشاعر منصور النمري، وقالت له: قل له شعرا تحبب بغداد الى قلبه، فأنشد:
ماذا ببغداد من طيب الافانين

ومن منارة للدنيا وللدين
تمشي الرياح بها إذا نسمت

وجوشت بين اغصان الرياحين

وهذا الشاعر ابو سعد محمد بن علي الهمذاني، ينشد بعد أن طاف مشارق الأرض ومغاربها فيقول:

فدى لك يا بغداد كل قبيلة

من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها

وسيرت رحلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا

ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا

وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا

 هي بغداد عشقها القاصي وتعلق بها الداني من الغرباء.. أوليس حريا بنا نحن بنيها من أب وجد (لسابع ظهر) أن نوليها اهتمامنا بما يليق بها كأم رؤوم وحضن يلملم شتاتنا. فالليل في بغداد يمحق صخب النهار ومتاعبه بأطياب التوادد والتحابب والمؤانسة بين البغاددة، فكأنها تمارس دورها في الاحتضان كقطة وديعة، يدفعها حبها الغريزي الى الاستلقاء مستسلمة أطراف الليل وآناء النهار، داعية جراءها وكأن لسان حالها يقول: هلمو الى حضني، هلمو لحصص الحب اقتسموها بينكم، واغترفوا منها ماشئتم فلدي منها الكثير، أوليس تقاسم الحب خير من محاصصة الغنائم والمناصب؟ فلو جبتم فجوج الأرض، وذرعتم خطوط الطول والعرض، لن تجدوا مأوى كأرضي، ولا سقفا كسمائي، ولامأكلا كخيراتي، ولامشربا كفراتيّ.

 

عرض مقالات: