لا ينبغي أن نتجاوز أو نقفز على معطيات التاريخ بكل ملابساته وكوارثه، والذي كم من المداهنين شككوا فيها أو تغافلوها قصدا أو بسطحية جاهلة، إما لعدم فهمهم بما مر من أحداث قاتلة حيكت في دهاليز السياسة وما فتئت تمر، أو لتطويع الأحداث لتحقيق أهدافهم المتعددة النوايا والأحابيل والتنكر للحقائق التي قصدا يراد تشويهها بسبب تعدد الأغراض الشخصية الضيقة على حساب المواطنة الشريفة والصادقة لبناء الوطن والإنسان، وهنا تكمن مشكلة العراق لانعدام الحس الوطني الذي يتميز به جل ساسة العراق اليوم منذ أن ابتلينا بتعقيدات السياسة وتشابكها وكوارثها، والتي كانت بمعظمها غامضة وملتبسة ولا يمكن للمرء البعيد عن الخريطة التي يصممها السياسيون ويرسمون خطوطها العريضة لأغراض شخصية ضيقة، أن يدرك أهدافها إلا بعد فوات الأوان في غالب الأحيان، وغالبا ما تكون هذه الخريطة مقرونة بمفاتيح لا يفك طلاسمها إلا المخططون لها، ليظل الجميع يدورون في حيص بيص الكوارث دونما التقرب من أسبابها وأهدافها والفكاك من فواجعها، ناهيك عن برامجها الخبيثة والمغايرة لما هو معلن والتي تخفي ما تخفي من اهوال قادمة باتت من سمات المجتمعات المتخلفة والقاصرة في فهم الراهن المعاش بكل تفاصيله المريرة.
من هنا يمكننا التيقن من خطورة هذه الإشكالية التي تكمن وراء هذه الالتباسات وكثرة التخبط، فاغلب الظن أن حالة التجريب المختبري وفقدان الحنكة لدى السياسيين بعقلياتهم فاقدة الخبرة واليافعة، هي واحدة من هذا التخبط الذي امتد لأكثر من ستين عاما وما يزيد، وهم يتشبثون بعقلية الفكر الشمولي الذي لا يضاهيه أي فكر آخر كما كانوا يظنون، وهم على قدر من البلادة والسطحية وعدم قراءة الواقع بعين المتزن والحكيم والاستفادة من الدروس والعِبر التي سببت تلك الأخطاء المميتة وبيقينية فاسدة، بأن فصيلهم وكتلتهم واتجاههم وغير ذلك، هو الأصدق وما عداهم هم المنحرفون وخونة الوطن، وهنا تبدأ التجاوزات التي تقود للكوارث، بإلغاء الآخر وعدم الاعتراف به وبطبيعة ما يعتقد ويفكر، خلافا للسائد الذي فرضوه قسرا و أعتباره هو الطريق الأوحد، ولنا في العراق من الأمثلة ما لا تعد ولا تحصى، خلافا للخطوط العريضة التي يتفق عليها الجميع في بلدان التحضر الأخرى، للتمييز بين مبادئ ثابتة للدولة والتي تلتقي عندها وتتفق عليها وعلى احترامها كل المشارب والاتجاهات والقناعات الفكرية والمذهبية، لأنها تشكل أسس الدولة وبنيانها القوى، إذا ما أردنا الحفاظ على نسيج المكونات متعددة المشارب والمنظومة المجتمعية التي تشكل الطريق الذي ينبغي أن تسير عليه كل مفاصل المجتمع المختلفة، ليبقى الاختلاف في السعي لتطبيق الجزئيات التي لا تؤثر ابدا على هيبة الدولة بثوابتها المتفق عليها، من خلال الانتقال السلمي للسلطة، وهي الأنسب دون الاقتراب من أسس بناء الدولة وركائزها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق قفزات نوعية والعمل على الانتقال من مرحلة الى أخرى أكثر استشرافا وتقدما وتحقيقا للمنجزات الكبرى لخدمة المواطن وتحريره من ربقة الانتماءات الطائفية والحزبية والمذهبية الضيقة والتي غالبا ما تكون هي السائدة في وقتنا الراهن، وسبب الكوارث الحقيقية، سيما في مجتمع متعدد الموزائيك والتلوينات الجميلة كالمجتمع العراقي.
فهل ما عشناه ونعيشه في العراق من حالات لا تصل حتى لألفباء السياسة المتعقلة، يتسم بذات ما ذهبنا اليه؟ ونحن نشعر بغصة حقيقية بأن ما وصل له العراق من تخبط وفوضى في كل شيء انسحبت حتى على نسيجه المجتمعي لتشكل أسس هدم حقيقية وهي الأسهل من فعل البناء المطلوب من كل الشرفاء والمخلصين.
دفعني للكتابة عن هشاشة الوضع السياسي في العراق والذي رافقنا منذ نعومة اظفارنا حتى اليوم، هو التخبط الذي تعيشه الأحزاب السياسية والكتل التي بقيت لخمس عشرة عاما وهي مرحلة ما بعد التغيير، تتعوق في العمل لوضع خطوط متفق عليها تغلّب فيها العام على الخاص، وتحرص على روح المواطنة لكل من يحتكم على الحس الوطني من منتسبيها، لكن واقع الحال يقول العكس، حين تحولت تلك الكتل والأحزاب الى أوكار للفساد والنهب وتوزيع الامتيازات على رعاياها في بلد مثخن بالجراح والحروب والفوضى والتفكك المجتمعي والأخلاقي وكل ما من شأنه أن يُبقي مصير البلد مفتوحا على كل أسوأ الاحتمالات والتي بسببها سيتعاظم الخطر على أمن الوطن والمواطن ومستقبل الأجيال القادمة، دون الإحساس بأدنى صيغ المواطنة المطلوبة، لبلد يكون بأمس الحاجة لتكاتف الجهود لإخراجه من محنه التي ما توقفت يوما واحدا، بعد أن راهن الجميع على أن التغيير الذي حصل بعد عام 2003 كفيل بإشاعة الأمل من جديد وبث روح التفاؤل لمواطن عانى الأمرّين من حكم فاشي قمعي مخيف، ليتفاجأ بفلول خراب اشرس وأعتى ممن سبقتها، لتتعدد مراكز القرار بل وتتقاتل على كسب الامتيازات وتحويل البلد الى ضيعات و مداشر ومحاجر مسورة لهذا الحزب دون غيره.
ومما يلاحظ بعد مسلسل الكوارث التي سببها الوضع الجديد، ليكمل ما سبقه من مغامرات وحروب وكوارث لوضع شمولي وقمعي خطير، نلاحظ محاولات ترقيع لفتوق بات من الصعب رتقها، بعد أن تيقن العراقي المغلوب على أمره والمتضرر من وحشية أذرع النهب وساديتها التي طالت حتى خبزه اليومي، بعد أن تفاقمت أوضاع البلد يوما بعد يوم دونما لمسة إحساس بالمواطنة، مما افقد أصحاب القرار بكل مشاربهم أي تعاطف معهم أو تكرار ذات الخطأ المميت بمنح أصواتهم التي ذهبت سدىً، بعد أن عادت السلوى الوحيدة للمغرر بهم قضم أصابعهم، ندما على ما فات، ليشعر ساسة الكتل والأحزاب والمكونات، أنهم سيكونون على شفا الانهيار في الانتخابات القادمة، فأخذوا بالاستعداد لتهيئة أسمال بالية لترقيع فتوق أخطائهم القاتلة.
هذا المواطن المتضرر بشكل رئيسي من هكذا أوضاع تغلفها غيوم كالحة ولا وجود لخيط أمل يلوح في الأفق، وهو أخذ بالمراهنة على تفعيل الخط الحياتي الراكد وعلى جميع الأصعدة في شتى مفاصل حياته المفجوعة، لا من الغريب، بل من أبناء جلدته ممن احتالوا على بساطته وثقته بهم، فاتجهت البوصلة عكس ما كان يراهن، ويقينا ستظل بهذا المنحى الى ما شاء الله، إذا ما تدارك الخطأ الفادح الذي وقع فيه، وكان اختيارا قاتلا، بإمكانه أن يصححه قبل فوات الأوان، حيث لا ينفع حتى الندم.
نلاحظ الآن وموعد الانتخابات أخذ يقترب شيئا فشيئا، أن الفاسدين الذين نذروا أنفسهم للخراب دون سواه، تحقيقا لمنافعهم في السحت الحرام، وللأسف الشديد، أنهم شرعوا بشحذ كل أسلحتهم الصدئة لترميم الشروخ، إما عن طريق تفتيت مكوناتهم وتبني مشاريع أدعوا أنها جديدة ستنقذهم من الورطة التي كانوا سببا للوقوع بها، بتشكيل اتجاهات تبنت شعارات مغايرة لما الفناه، إما بالرجوع للإرث العائلي الذي يعتبرونه مقدسا لدغدغة عواطف التابعين لهم، وما أكثرهم، لأن المواطن المتضرر بإمكانه أن ينسى حجم مأساته بسبب ذات الكتل والشخصيات، بمجرد اللعب على تحريك فطرته الدينية، وهي الأخطر والأمضى من السيف البتّار، كما يقول طيب الذكر العلامة المرحوم الدكتور على الوردي، في بحثه عن الشخصية العراقية، "الملتبسة جدا"، أو شم رائحة التقارب بين قوى دينية وأخرى مدنية وعلمانية، بعد أن أخذت تتعاظم وتتسع شعبيتها لتشكل قوى وطنية طاردة للشائن والمعيب في الوضع السياسي المعتل والمصاب بكل أنواع الأمراض المزمنة. حيث نسمع وبأصوات ملعلعة الآن التحذير من خطر الإلحاد والعلمانية للحفاظ على ثوابت الدين، والجميع يعلم بأنها ضحك على الذقون تنم عن سطحية فرسانها وأغراضهم السيئة في تلميع سمعتهم المنهارة اصلا.
لهذا وختاما نقول إن على كافة العراقيين وقبل فوات الأون عدم تكرار الفوادح التي وقعوا فيها، لأنها ستكون من القوة ما تقود للقبر، عندها لا ينفع أبدا الندم وبتر الأصابع.
أن الأمل المتبقي الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه هو التحرك الفاعل والقوي باتجاه دعم القوى الناهضة للتيارات المدنية المتحالفة مع قوى الاعتدال الوطني الديني، ودون ذلك لا يلوم من يتعالى صراخه يوميا احتجاجا على تردي الأوضاع وتفاقمها، ليصم آذاننا، إلا نفسه. فأعد ترتيب اوراقك المبعثرة وذاتك المرتبكة أيها الناخب العراقي.