علم المتحجرات او ما يسمى علم الحفريات القديمة يتفرع من علم الأحياء ويبحث في اشكال الحياة القديمة في فترات تاريخية وجيولوجية مختلفة تصل الى ملايين السنين. ولهذا العلم فروع كثيرة اهتم بها علماء الأحياء ، فمنها المتحجرات الحيوانية والنباتية والصخرية التي تعطي الباحث معلومات عن نوعية الحياة العامة او الخاصة بفصيلة ذلك المتحجر قبل ملايين السنين.

إلا ان العلم ، بكل حداثته اليوم ، لم يخبرنا عن المتحجرات الفكرية التي لم تمض عليها ملايين السنين ، بل انها لم تزل تعيش بيننا وتشترك معنا في كل مفاصل حياتنا اليومية. نعيش هذه المتحجرات الفكرية ليس على شكل ديناصورات متحجرة او قواقع او نباتات وما شابه ، بل نعيشها ممثلة بأناس يشاركوننا هذه الحياة التي نعيشها اليوم، وهذا هو السر الكامن خلف ضرورة معالجتها وإيجاد الطرق الكفيلة بالتعامل معها كما ينبغي .

المتحجرات الجيولوجية عامة، صخوراً حيوانات ونباتات ، توفر لنا معلومات علمية يمكننا الرجوع اليها في مختلف البحوث التي تتناولها علوم الأحياء والتاريخ او حتى الأنواء الجوية .وبالعكس من ذلك فإن المتحجرات الفكرية لا يمكننا التعامل معها بنفس الأسلوب الذي نتبعه في التعامل مع المتحجرات الجيولوجية . إذ انه بالرغم من توصل المتحجرات الجيولوجية عامة إلى نتائج علمية تؤيدها وقائع الحياة وتدعمها الأدلة والبراهين الجلية ، إلا ان السؤال حول صحة او دقة هذه النتائج يظل مفتوحاً ليتفاعل مع تطورات العلم وأدواته وسبله، بعبارة اخرى يمكن القول ان هيأة المادة المتحجرة التي اخذت شكلاً ثابتاً لا يعني باي حال من الأحوال ثبات المعلومات المكتسبة من هذا الشكل الثابت ، إذ ان تطور العلم يمكن ان يأتينا يوماً ما بنتائج اخرى غير تلك التي الفناها من قبل . وهذا ما لا يمكن ان نجده في المتحجرات الفكرية التي تظل متقولبة على شكل لا تغادره حتى لو اثبتت لها كل مفاصل الحياة شذوذها عن القوانين الجديدة التي تتحكم بالمجتمع وابتعادها عن مسيرة التاريخ الذي غادر افكارها منذ امد طويل.

ما يهمني شخصياً في هذا الطرح هو التجني الفاضح الذي يمارسه حملة التحجر الفكري امام التطور الحضاري  العام وأثر ذلك على الفكر العلمي وما يتبناه من فلسفة في الحياة ، خاصة الفلسفة الماركسية التي عادت لتحتل اليوم موقع الصدارة الفكرية ، خاصة بعد الأزمة التي تعرض لها النظام الرأسمالي العالمي في العقد الأول من هذا القرن، وعلى الأخص بعد ان فشلت كل مكائن الإعلام الرأسمالي عن تشويه الماركسية بعد ان انهارت الأنظمة التي كانت تدعي العمل بها.

التحجر الفكري الذي يجعل من الفلسفة الماركسية ، رائدة الديناميكية ولولب التطور ، اقوالاً تنام على معطيات ازمانها الغابرة تتمثل بنصوص لم يعِ حملة المتحجرات الفكرية كنهها ومضمون رسالتها التي ما استسلمت يوماً لما يريده هؤلاء منها والمقترن بترديدها من خلال ربطها بشكل الحرف ناكرين عليها طبيعة التطور الكامنة في مضمون هذا الحرف . إن الخطر البالغ الذي يسببه التحجر الفكري ، خاصة بالنسبة للفلسفة الماركسية ، يكمن في كثير من التوجهات التي سيسبب تفعيلها وضع عصا غليظة في عجلة التطور الحضاري والتلاقح المجتمعي مع هذا التطور .

الخطر الأول يتجلى بكل وضوح بما يعلنه التحجر الفكري عن نصوص للفكر الماركسي يعتبرها غير قابلة إلا لفهم واحد لا بديل له ، ولا يفهمه على شكله الصحيح إلا حامل هذا التحجر الفكري وحده دون منازع وكل من يقول بغير ذلك فهو اما عدو للماركسية او مفلس لا يملك من المبادئ الماركسية شيئاً ، هذا إن لم يصفه بالخيانة للماركسية التي لا يفهم كنهها إلا هو وحده لا شريك له. إن هذا الفهم للفلسفة بشكل عام ، وليس للفلسفة الماركسية فقط ، ينطلق من امتلاك الحقيقة المطلقة في حياة تعج بالمتغيرات اليومية التي تأتينا بحقائق تجبرنا على إعادة النظر بمفاهيمنا التي الفناها ليس قبل عشرات او مئات السنين فحسب ، بل وحتى بمفاهيمنا الحديثة المكتسبة عبر التطور العلمي الحديث الذي لا يثبت على حال. يظل السؤال والإستقصاء والتحليل والإستنتاج ومن ثم السؤال والإستقصاء وهكذا يمثل دورة حياة العلم عموماً والعلوم الفلسفية بشكل خاص والفلسفة الماركسية على الأخص ، وذلك نظراً لقناعة مؤسسي هذا العلم الذي سار به كارل ماركس وفردريك انجلس على خطى الفلاسفة الأوائل ولكن بعد ان الهما هذا العلم بكل ما وجدوه من متغيرات في الزمن الذي عاشوا فيه وما توقعوه للقادم من الزمن استناداً الى ما توفرت لديهما من معلومات آنية . لذلك فلا غرابة ان ينص البيان الشيوعي على

" إن الشيوعيين لا يتميزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في أنّهم: من ناحية، يُبرزون ويُغلِّبون المصالح المشتركة في الصراعات القومية المختلفة للبروليتاريين، بصرف النظر عن تابعية عموم البروليتاريا، ومن ناحية أخرى، يمثِّلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور، التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية. "

ولابد لنا من التمعن هنا بالإشارة الى المصالح المشتركة في الصراعات القومية لمختلف البروليتاريين والتي تؤكد على صرف النظر عن تابعية عموم البروليتاريا . ومفهوم المصالح المشتركة هذا يعني اول ما يعني ضرورة التأكيد عليها ووضعها في صدارة النضال. وإذا ما علمنا بان هذه المصالح المشتركة قد تتفاوت من موقع الى آخر فإن ذلك يعني ضرورة ايجاد الوساءل النضالية الملائمة التي تتفق وهذا التغيير، وهذا لعمري يؤسس لفكر متحرر من قيود النمطية في العمل الجماهيري ، رافضاً لعبادة النص مهما كان مصدره ، مستلهماً لروحه الإبداعية ومضمونه الحضاري.

اما الإشارة الأخرى الى مجمل الحركة في مختلف اطورا التطور التي يمر بها الصراع فإنها تسجل علامة واضحة على ان مسألة الصراع لا تأخذ وتيرة واحدة، بل هي خاضعة لبلورة المصالح المشتركة في الصراعات القومية. ولا تمثل هذه الإشارة إلا التأكيد الواضح على دراسة الأوضاع الآنية التي يمر بها الصراع وعدم الإرتكاز على وصفات جاهزة او منسوخة لا علاقة لها بتطور المعطيات الآنية للمصالح الممشتركة.

أما النقطة الأشد وضوحاً والتي تشير الى مختلف اطوار التطور التي يمر بها الصراع ، فهي التي تشكل جوهر الفلسفة الماركسية التي جعلت من التعامل مع التطور على مختلف الأصعدة علامتها الفارقة وأكسير وجودها الدائم وتفاعلها المنسجم مع المستجدات المختلفة في اي مجتمع من المجتمعات. قد لا يعي التحجر الفكري الذي اُبتليت به الماركسية ، ومجموع حركة اليسار ، شر بلاء التنكر لفحوى هذه الأطروحة التي تضمنها البيان الشيوعي، وتنكرهم او جهلهم هذا يشكل بدوره عائقاً امام الطرح العلمي الموضوعي للفلسفة الماركسية امام الساعين لتبني هذه الفلسفة على الصعيد الإجتماعي العملي ، لا من خلال الأطروحات الصالونية.

اما الخطر الأكبر الذي تؤسس له المتحجرات الفكرية التي تدعي وحدانيتها في تبني وفهم وتفعيل ونشر الفلسفة الماركسية ، وتأتي بما لا يقبل به العقل ولا ينسجم مع الواقع المُعاش ويحوم في خيالات هؤلاء المتمركسين ، فيتمثل بان اطروحاتهم الخيالية واللامنطقية تصبح مصدراً من مصادر الفكر المعادي اساساً للفكر الماركسي ونظرته الى التغيير من خلال التراكمات الكمية الحادثة في مجرى الصراع الإجتماعي . إذ طالما يستند اعداء الفلسفة الماركسية على مقولات او تفسيرات او القيام بعمليات طائشة لا تستند على القاعدة العلمية الجدلية للماركسية يتبناها ويعمل على نشرها مدعو الفكر الماركسي ، ملوحين بقبضاتهم من اجل التغيير في الوقت الذي لا يملكون فيه اهم اساسيات هذا التغيير المتمثلة بقاعدته الجماهيرية ومؤهلاتها الفعلية للتغيير. وطالما ينطلق هؤلاء من اسلوب حرق المراحل التاريخية غير آبهين بما حذرت منه الماركسية نفسها حينما اكدت " إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفاري قبرها. " وإن إتمام حفر القبر لا يمكن ان يتم بالتمني بعيداً عن النضج المرحلي لكل حقبة من حقب النضال . فحينما يلجأ اعداء الفكر الماركسي الى امتشاق السلاح الذي هيأه مدعو الماركسية ، ليضعوا الفلسفة الماركسية على مشرحة : من فمك أدينك ، فإن ذلك يعني بدون ادنى شك المساهمة الجدية في إعلان الحرب على كل افكار التحرير والتغيير والتي تشكل الفلسفة الماركسية جوهرها العلمي ، وتشير الى دربها المفضي الى مستقبلها الأممي الخالي من الإستغلال والإضطهاد .

لا مناص من الوقوف بجد وبدون هوادة ، وبكل ما تقدمه افكار التحرر من معارف وسبل وتوجهات ثقافية وعلمية ، للرد الحضاري الملتزم بكل ما تعنيه الحضارة وما يهدف اليه التمدن ،على الهجمة الخطرة على الفلسفة الماركسية ، الهجمة التي يعمل على تنشيطها وتفعيلها نفر من الأدعياء الذين يقدمون اسباب هذه الهجمة على طبق جاهز لأعداءها الذين لا يتوانون عن تغليف افكارهم الشريرة بغلاف الدين او القومية او الوطنية او ما شابه ذلك من الإنتماءات التي يسخرونها نحو القتال والإعتداء بين ابناء الشعب الواحد ،  هذا التسخير الفج الذي يعيشه اهلنا ووطننا العراق منذ اكثر من خمسة عشر سنة كنتيجة لتولي خلفاء البعثفاشية المقيتة امور هذا البلد الذي يمخرون في كل زاوية من زواياه دون ادنى شعور بمآسي اهله ودون اقل ذرة شرف تشير الى حرصهم على بلد قامت على ارضه حضارات الإنسانية الأولى .

لقد اصبح همّ عبيد الإحتلال وورثة دكتاتورية البعث التطبيل والتزمير لنشر الجهل والأكاذيب وكل ما تنتجه مخيلات مختبرات جرائمهم للنيل من الماركسية والشيوعية بكل ما توفر في جعبة اكاذيبهم من تهم لا يمكنها ان تنسجم بأي حال من الأحوال مع فلسفة تدعو الى التحرر والإنعتاق والتحضر والرفاه الإجتماعي . إن اكاذيبهم التي يختلقونها لنشر الرعب والخوف من الشيوعية لا تختلف في أساسها الفكري عن الخوف من الطنطل والسعلوة إذ أن كلاهما يتأسس على مبدأ الجهل بالحقيقة . الجهل عمومآ مرض يقتل صاحبه ببطئ حتى وإن فهمنا هذا القتل بمعناه المجازي . وجهل الحقائق الكونية والإجتماعية التي جاء بها العلم قديمه وحديثه ليشبع بعض رغبات ألإنسان المتطلع إلى المزيد من المعرفة دومآ , حفزت البعض على إستكشاف المزيد والمزيد ليشبع هذه الرغبة العارمة للتزود بالمعارف وإكتشاف أسرار الحياة ، وهذا ما يشكل واحداً من الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية العصِّية على التحجر .

الدكتور صادق اطيمش

 

 

 

-