حينما كُنا نردد في نشوة حماستنا الثورية الشبابية إنشودة فرقة الطريق العراقية   " يا رفاق الفكر والدم ناضلوا احنا وانتوا بدرب فرج الله الحلو " والتي غنتها في مهرجان الحزب الشيوعي اللبناني في ذكراه الخمسين عام 1974 وكنا حينها نستنسخ شريط كاسيت اغاني المهرجان الوطنية عشرات المرات ونتداوله سرياً على أوسع نطاق في البحرين ، لم أكن حينها أعلم سوى شذرات عن قصة استشهاد هذا القائد الشيوعي اللبناني الفذ سوى شذرات بسيطة ولاحقاً مع تعمق ثقافتنا بتاريخ الاحزاب الوطنية اليسارية عرفنا تفاصيل  مأساة استشهاده البشعة الفاجعة الشاهدة على بربرية الفاشست .

ولأن التاريخ المزيّف والاكثر انتشاراً هو التاريخ الرسمي الذي يكتبه الحكّام المستبدون ويفرضون تدريسه في المدارس والجامعات فيما التاريخ الحقيقي هو تاريخ الشعوب المُستضعفة الذي يُطمس أو يُزيّف ولا يلم به سوى الحركات والقوى المدافعة عنها وعن حقوقها ومصالحها ، فلربما ظن الكثيرون على خلفية قضية خاشقجي المتفجرة الآن بأن جثته هي الأولى في تاريخنا المعاصر لصحفي عربي قتيل يجري تُذويبها في الأسيد ، في حين أن أول عملية إجرامية من هذا القبيل قد اُرتكبت  بحق كاتب وشخصية سياسية وطنية صلبة  مُحنّكة هو القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني الشهيد فرج الله الحلو ، ولم تكن كل جريمته سوى تحفظ حزبه على حل نفسه والتعجيل بإتمام الوحدة الاندماجية الفورية بين مصر وسوريا والتي سرعان ما فشلت بعد مرور ثلاث سنوات من عمرها فقط وثبتت صحة تحفظات الشيوعيين على الاسلوب الارتجالي المتسرع في إتمامها .  

ولئن كان الرأي العام العالمي وذوو خاشقجي وتياره وأنصاره محظوظين في عصرنا الراهن بكشف كل ملابسات الجريمة المروّعة بحقه وجثته أولاً بأول بفضل ما وصلته ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والسوشيل ميديا من تطور مذهل ، فإن كل ذلك لم يكن  متوافراً في عصر المغدور الحلو ، بل ولم تظهر بعد معظم المؤسسات الحقوقية الدولية الحالية الشديدة البأس وإن كانت في عصر الحرب الباردة مواقفها تتسم بالكيل بمكيالين ، أما وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية فقد كانت جميعها تحت السيطرة الكاملة لسلطة دولة الوحدة التي " ما يغلبها غلّاب " ،  وهكذا لم يتبقَ من يستطيع إماطة اللثام عن فضيحة الجريمة المدوية التي تقشعر لها الأبدان سوى صحافة حزب الشهيد ومناشيره السرية بإمكانياتها المتواضعة المحدودة الإنتشار الجماهيري مقارنةً بالامبراطورية الإعلامية التي كانت تملكها دولة الوحدة .   
الكاتب الصحفي والقائد السياسي اللبناني فرج الله الحلو الذي تمر الذكرى الستون على استشهاده العام القادم حيث  اُستشهد في صباح 25 يونيو / حزيران من  سنة 1959 بعد سويعات من اعتقاله في غرفته الصغيرة بدمشق لم يكن " ارهابياً " أو يُضبط مدججاً بالسلاح أو قائداً لميليشيا مسلحة من شأنها تهديد أمت  وسلامة دولة الوحدة " الجمهورية العربية المتحدة " بقيادة محبوب الملايين جمال عبد الناصر،  ولم يكن يملك سوى سلاح قلمه الحر ، ومع ذلك لم يشفع له ولا لحزبه هذا الموقف المرن المسالم ما دامت قيادته لم تستجب لقرار حل الحزب ومادام مناضلوه مازالوا نشطون في تنظيماته ، فكان أن صدر قرار "التصفية الجسدية " بحقه وبحق نخبة من رفاقه القياديين من أعلى المستويات في دولة الوحدة وتُركت الوسائل والتفاصيل التنفيذية للأجهزة الاستخباراتية والتي تولاها وخطط لها في سوريا رئيس شعبة المكتب الثاني عبد الحميد السرّاج الذي صمت دهراً ونطق كفراً أقبح من ذنب الجريمة ، فلم يرف له جفن وهو يدلي باعترافاته في حوار صحفي أجراه معه المؤرخ القومي الفلسطيني كمال خلف الطويل قبيل سنوات قليلة من وفاته ( 88 عاماً ) ونشرته مجلة الوعي العربي (  23 فبراير / شباط 2018 ) واشترط عليه ألا يُنشر إلا بعد موته ، بأنه كان يتابع خطوات المغدور خطوة بخطوة من عتبة منزله في لبنان حتى وصوله دمشق ، ولم نكن نقصد قتله لكن جسمه العليل بمرض القلب لم يقوَ على " الخشونة البدنية التقليدية " التي واجهه بها ضباط استخباراته على حد تعبيره ؛ ويضيف : " بدلاً من أن تقوم شلة الأغبياء عندي بإعادة الجثمان الى عتبة منزله في لبنان -. ولا من شاف ولا دري - ارتكبت واحتاست وقررت اخفاء قرائن الحادث " ! ثم يستطرد : " وأبلغت عبد الناصر وفضّلنا معاً نفي المسألة برمتها " ! 

أما وسيلة اخفاء قرائن الحادث التي ربما رف جفنه عن الحديث عنها وهو في تلك السن من أرذل العمر بعدما صمت طوال اكثر من نصف قرن حتى رحيله قبل خمس سنوات فقط وهو كنف الضيافة والحماية المصريتين منذ فراره الى القاهرة غداة الانفصال عام 1961 فقد تكشفت للجميع ولم تُطمس للأبد ؛ كما يتوهم عادةً الطغاة مرتكبو مثل هذه الجرائم ، فقد جرى دفنه في منطقة قرب غوطة دمشق ، ولشدة الهلع من كشف معالم الجريمة على أيدي أغبياء السرّاج كما وصفهم فقد تقرر استخراجها من قبره  وتذويبها في مغطس حمام ؛ والارجح ان هذه الطريقة هي من لبنات عبقريته الفذة بعد أن وبّخهم على سذاجة الدفن .   

وما كان لمثل هذه الجرائم أن تتكرر بحق الكتّاب والصحفيين وكل أصحاب الأقلام  الحرة لو اعترف مرتكبوها في الانظمة الشمولية القومية بها وتمت محاكمتهم دون أن يمكنوا الجناة من الافلات من العقاب ، لكن هذا لا يحدث إلا في ظل الانظمة الديمقراطية الحقة فمثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، ومن أسف أن أنظمتنا العربية الوطنية والمحافظة على السواء لا تتشارك في ارتكاب مثل هذه الجرائم خارج القانون فحسب ؛ بل وتفزع من مجرد الاعتراف بها فهي لا تعترف كديدنها الدكتاتوري الدائم شيئاً إسمه المراجعة والتصحيح ولا تقر بحكمة "  الاعتراف بالذنب فضيلة " !  

 

عرض مقالات: