تثير العولمة الرأسمالية العديد من الإشكالات السياسية ـ الاقتصادية ــ الفكرية على صعيد بناء الدول الوطنية وتشكيلاتها الاجتماعية وتترابط تلك الاشكالات مع المصاعب المتجددة التي ينتجها اسلوب الانتاج الرأسمالي المعولم وتثير تلك الاشكالات اسئلة ( حارقة ) منها ـ ما هي آفاق تطور وحدانية التطور الرأسمالي بعد سيادته الدولية ؟ ومنها ما هو مستقبل الدول الوطنية بعد سيادة ميول التبعية والتهميش ؟ ومنها ما هي افاق الكفاح الديمقراطي الذي تخوضه الحركات الاجتماعية المناهضة لهيمنة راس المال الكونية . وقبل هذا وذك ما هو مستقبل الحركات القومية و الوطنية وآفاق نزاعاتها الدولية ؟
معاينة الأسئلة الاقتصادية ــ الفكرية ــ والسياسية المثارة تتطلب جهداً نظريا ــ فكرياً كبيراً يساهم فيه كثرة من المفكرين والكتاب المهتمين بدراسة مصاعب المرحلة المعولمة من التوسع الرأسمالي وآفاق تطورها.
ارتكازاً على ذلك وبسب تعدد رؤى الباحثين في التوسع الرأسمالي اتوقف مجتهدا عند سؤال يتلخص مضمونه في ــ ما هو مصير الدولة الوطنية في العولمة الرأسمالية .؟ وهل يمكن للقوى اليسارية بناء دول وطنية ديمقراطية مستقلة مناهضة للتبعية والتهميش ؟ .
لغرض الاحاطة بالسؤال المذكور نحاول فحصه على ضوء المنهجية التالية ـ
أولا ــ المرحلة الكولونيالية والدول الوطنية .
ثانيا ــ حركة التحرر العالمية والدولة الوطنية المستقلة .
ثالثا ـ العولمة الرأسمالية وميول التبعية والتهميش
اعتماداً على المحاور الثلاث نسعى الى الاجابة عنها برؤية مكثفة تستمد ملامحها من التجربة التاريخية العالمية.
1 ــ المرحلة الكولونيالية والدول الوطنية .
ــ بات معروفا ان أسلوب الانتاج الرأسمالي نما وتطور انطلاقاً من تطور قاعدته الانتاجية ومنظومته السياسية المرتكزة على تشكيلته الطبقية المسندة بالشرعية الديمقراطية لنظمه السياسية .
ــ سعت الكولونيالية السائدة عالميا لغرض النمو والتطور الى الانتشار بعيدا عن حدودها الوطنية بهدف البحث عن اسواق جديدة تمدها بمصادر الثروات الوطنية والأيدي العاملة الرخيصة.
ــ مرت المرحلة الكولونيالية بفترات تاريخية مترابطة يمكن الاشارة الى اهمها بشكل مكثف ــ
1 ــ الانتداب الكولونيالي .
ــ سعت الدول الكولونيالية الى استعمار الأقاليم الخارجة من الامبراطوريات المنهارة ومنها الامبراطورية العثمانية عبر سيطرتها المباشرة على تلك الاقاليم انطلاقا من قوانين الانتداب والحماية الدولية وبهذا المسار شكل قانون الانتداب الذي أقامته عصبة الأمم لتطبيقه على الأقاليم التي جرى انتزعها من الامبراطورية العثمانية الصيغة الدولية المعتمدة لدى الاطراف الدولية المتنازعة .
ــ نص قانون الانتداب بصيغته الاستعمارية على تحديد دول كولونيالية لمساعدة البلدان التابعة ضعيفة التطور وتدريبها لتكون قادرة على حكم نفسها عبر نيل استقلالها وتحكمها بسيادتها الوطنية . كما اشار نظام الانتداب الكولونيالي على أن الغرض منه هو مساعدة هذه الأقاليم التي لم تبلغ النضج السياسي الذي يمكنها من التحكم بنفسها.
2 ــ الدول ناقصة السيادة الوطنية
ــ عمدت الدول الكولونيالية الكبرى الى بناء الدول التابعة والهيمنة على قراراتها الاقتصادية والسياسية بهدف ادامة توسعها الرأسمالي وهيمنتها الكولونيالية على الثروات الوطنية والأيدي العاملة الرخيصة وبهذا الشكل الكولونيالي نشأت عشرات الدول الوطنية ناقصة السيادة التي غذتها لاحقا حركات التحرر الوطنية بالفكر السياسي القادر على انتشالها من المواثيق والمعاهدات الاستعمارية . وبهذا المنحى شكل نموذج الاستقلال الوطني اساسا لكفاح الدول الوطنية والذي عني في الجوهر امكانية بناء الاستقلال السياسي والاقتصادي للكثير من الدول الوطنية المستقلة على اساس اسلوب انتاج وطني مستقل يهتم بالمصالح الاساسية للطبقات المنتجة والفقيرة .
ثانيا ًــ حركة التحرر العالمية والدولة الوطنية المستقلة
ــ انتصارات الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية فضلا عن حرية اختيار النظم السياسية ونهجها الاقتصادي المسند من ازدواجية التطور رأسمالي ــ اشتراكي العالمية ساهم بتحرر الدول من الهيمنة الكولونيالية .
ــ ازدواجية التطور السياسي ــ الاقتصادي لم تكن قادرة على حسم التطور الاقتصادي اللاحق لصالح اسلوب الانتاج الاشتراكي بل بقيت علاقات الانتاج الرأسمالي تتطور بسبب مرونتها القادرة على امتصاص ازماتها الاقتصادية وذلك بعكس المنظومة الاشتراكية التي باتت اسيرة لتوجهات مرحلتها السياسية المتمثلة بدكتاتورية الطبقة العاملة التي اثرت بدورها على الديمقراطية السياسية في الدول الوطنية .
ــ اختلافات النظم السياسية العالمية لم تمنع استقلال الدول الوطنية والتمتع بسادتها الوطنية التي شكلت بدورها سياجا مناهضا للامبريالية داعما للنظم الاشتراكية في العلاقات الدولية ورغم هذا السياج السياسي المناهض للإمبريالية إلا ان الدول الوطنية عانت من مشاكل سياسية كبرى اهمها غياب الديمقراطية السياسية كمثيلتها في دول الاشتراكية الفعلية وما جره ذلك من فشل التحولات الاقتصادية الاجتماعية اللاحقة في تلك البلدان .
ــ لقد عانت الدول الوطنية من النظم الديكتاتورية والتبعية للدول الرأسمالية الكبرى وبهذا المسار لم تستطع القوى الديمقراطية الفاعلة في الدول الوطنية ضمان انتصارها الديمقراطي بسبب التدخلات العسكرية الخارجية والقمع السلطوي .
ــ خلاصة القول ان الدول الوطنية ومنظومة الدول الاشتراكية شهدت نشاطا مشهودا متعدد الجوانب الاقتصادية ــ الاجتماعية والثقافية إلا انها لم تستطع بناء نظم ديمقراطية بسبب الفكر السياسي الناظم لمسيرتها الوطنية والهادف الى ترويض وإقصاء الطبقات الاجتماعية المناهضة لسيادتها في المرحلة الانتقالية.
ثالثا ـ العولمة الرأسمالية وقوانين التبعية والتهميش
ــ حملت العولمة كثيرا من الأفكار والنهوج السياسية ــ الاقتصادية أهمها وحدانية التطور الرأسمالي بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية وبهذا المسار تواجه الباحث المهتم بالفكر السياسي الناهض كثرة من الاسئلة منها ــ هل باتت الاشتراكية ضربا من الفكر السياسي الغابر ؟ هل تتمكن القوى الديمقراطية من بناء انظمة سياسية تعني بمصالح الطبقات الفقيرة والكادحة ؟ ما هي الأساليب الكفاحية القادرة على تلبية مصالح القوى الوطنية ـ الديمقراطية ؟
اسئلة كثيرة وإجابات متعددة لا يستطيع العقل الفردي الاجابة عليها دفعة واحدة عليه سنتوقف عند ميول التبعية والتهميش التي تصاحب حركة رأس المال المعولم فضلا عن علاقة تلك الميول ببناء الدول الوطنية الديمقراطية.
ــ قبل التوقف عند الموضوعات المثارة لابد لنا من توصيف العولمة الرأسمالية والتي يمكن اعتبارها مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية يتسيد في تطورها الرأسمال الكسموبوليتي العابر للحدود الوطنية والرافض لأي قواعد وقوانين دولية والهادف الى اعلاء القوة في العلاقات الدولية .
ــ ان تعريف الطور الرأسمالي المعولم يتلازم وانحسار الديمقراطية السياسية في بناء الانظمة الرأسمالية الكسموبولتية مع رفض التقييد بالقوانين الدولية الناظمة للعلاقات الدولية .
انطلاقا من ذلك التوصيف لابد من تحديد الميول الناتجة عن حركة الطور المعاصر من العولمة الرأسمالية وأثرها على الدول الوطنية والتي اراها في الموضوعات التالية ــ
1 ــ تفتيت التشكيلات الاجتماعية وسيادة الفئات الفرعية
تعمد الرأسمالية المعولمة الى تفتيت التشكيلات الاجتماعية في الدول الوطنية وذلك عبر الحصارات الاقتصادية والعقوبات السياسية ومنع تطور تلك التشكيلات المناهضة لمصالحها الكونية من خلال حمايتها السياسية للأنظمة الديكتاتورية ومحاربتها القوى الديمقراطية المطالبة بالمساواة والسيادة الوطنية . وفي هذا الاطار تلعب القوى الكمبورادورية والشرائح المالية بعد سيادتها في التشكيلات الاجتماعية ادوارا اساسية في تغليب المصالح الكسموبوليتية على المصالح الوطنية.
2 ــ تفتيت هيمنة الدولة على ثرواتها الوطنية.
تسعى النظم الكسموبوليتية الى تخريب مبدأ السيادة الوطنية وجعله عاجزا عن حماية الدولة وثرواتها الوطنية عبر النهب الكوني الذي تمارسه الاحتكارات الدولية ويتمتع نقل السيادة الوطنية الى شركات دولية تسعى الى النهب والإفقار في الداخل الوطني بأهمية كبرى في علاقات الرأسمالية المعولمة بقوى وتشكيلات الدول الوطنية . وبهذا الهدف تسعى الشركات الاحتكارية الى بناء الاتفاقات الدولية الساعية الى فرض الشراكة الدولية على استثمار الثروات الوطنية.
3 ـ الحماية الدولية للأنظمة الاستبدادية
ــ تمارس الرأسمالية المعولمة ضغوطا سياسية واقتصادية على الانظمة الديكتاتورية بهدف العمل على احتواءها ومباركتها القمع السلطوي ضد القوى الديمقراطية وبهذا السياق تعاني القوة الوطنية من سياسة تنوع الدعم الخارجي للقوى الديكتاتورية محاولة بذلك منع التغيرات السياسية لصالح القوى الديمقراطية
ــ فرض الحماية الدولية للنظم الاستبدادية عبر الدعم الدولي والمساندة السياسية لغرض اعاقة تحقيق مهام الكفاح الوطني المتمثلة بديمقراطية النظام السياسي وبناء وحدته لوطنية .
ــ ان التغيرات الدولية الجارية في العلاقات الدولية وانهيار الدول الاشتراكية المساندة لحركة التحرر الوطنية ناهيك عن سيادة الرأسمالية المعولمة ذات النزعة الكسموبولوتية تطرح على القوى الوطنية الديمقراطية مهمة العمل على ايجاد منطلقات فكرية جديدة تتماشى والطور الجديد من العولمة الرأسمالية تساعدها على المضي في بناء الدول الوطنية الديمقراطية بعيدا عن الاضطهاد السياسي الذي تمارسه القوى المحلية المتحالفة مع الشركات الاحتكارية الدولية.
استنادا الى ما جرى استعراضه يمكننا ايراد الاستنتاجات التالية ــ
أولا ــ انطلاقا من مصالحها الكونية المتمثلة بالاستحواذ على الاسواق الاجنبية وثروات الدول الوطنية عملت المراكز الكولونيالية على بناء سيادة ( وطنية ) وهمية للدول الناهضة.
ثانيا ــ تهدف قوانين الرأسمالية المعولمة الى تفتيت الدول الوطنية المستقلة وتخريب تشكيلاتها الاجتماعية وإلحاقها بالتكتلات الدولية .
ثالثا ـ تشترط ميول تهميش وتفتيت الدول الوطنية الناتجة عن قوانين الرأسمالية المعولمة تشديد الكفاح الوطني الديمقراطي المتشح بالتحالفات الوطنية المناهضة لكسموبولوتية الرأسمال المعولم .