كانت البصرة ذات يوم تدعى بثغر العراق الباسم ، إبتسمت لنخيلها ولرطبها ولمياهها العذبة ولثرواتها الغزيرة ولأهلها الطيبين ، وقد خرج من أهل البصرة المئات من المثقفين ، أدباء وفنانين وقادة سياسيين .
نشأت مدينة البصرة سنة ٦٣٦ م في سهول الرافدين ، وإنتشرت فيها زراعة النخيل والرز والحنطة والشعير والدخن وتربية الماشية . كانت أراضيها سهلة رسوبية وقسم منها صحراوي .
في العهد الملكي أُنشأ فيها مطار البصرة الدولي عام ١٩٣٦ ، ومنذ عام ١٩٣٢ توفرت في المدينة تجهيزات المياه العذبة والكهرباء . وبعد الحرب العالمية الثانية أُنشأت معامل لتكرير النفط ومعمل لطحن الحبوب ، ومعمل للمشروبات الغازية ، وفي سنة ١٩٥٧ أصبح عدد سكانها ٢٢٠ ألف نسمة ثم أُنشأت فيها جامعة البصرة بعد ثورة ١٤ تموز في سنة ١٩٦٤ ، وهي ثاني أهم جامعة في العراق . وبعد سنة ١٩٧٧ أصبح عدد سكانها ١،٥ مليون ونصف .
أثناء الحرب العراقية الإيرانية تحولت البصرة إلى موقع عسكري ومسرح للعمليات العسكرية للطرفين . وقد عانت البصرة الأمرين أثناء هذه الحرب من عمليات حرق وتدمير للبنى التحتية . أما بعد حرب الكويت فقد تعرضت البصرة إلى أشد عمليات العنف والقصف الجوي الذي هدم ما تبقى من البنى التحتية ، وأُصيبت المنشآت الإقتصادية بأضرار مادية جسيمة إستمرت آثارها إلى وقتنا الحالي .
في سنة ٢٠١٢ أصبح عدد سكان البصرة ٣.٥ ثلاثة ونصف مليون نسمة .
لقد إشتهرت البصرة بمصانع كبس وتعليب التمور ومنتجاتها وكثير من المنشآت الصناعية الصغيرة والكبيرة لكن عمليات حرق مزارع النخيل قد أدى إلى توقف هذه الصناعات وإغلاق الكثير من المعامل التي كان يعمل بها شباب البصرة .
إن الحروب المستمرة لم تستطع أن تحرق الموقع الثقافي للبصرة وبقيت هذه المدينة منتجة للكثير من كتاب القصة والشعر ، وبقيت مهرجاناتها الشعرية هي الرائدة في هذا المجال ، مثل مهرجان ( المربد ) والكثير من المعارض التشكيلية لفناني البصرة .
كانت البصرة ولا زالت منبعاً للحركات السياسية الديمقراطية واليسارية ، وكانت ولا زالت تعتبر شريان الدم النظيف في العراق ، إذ أنتجت العديد من القادة السياسيين الذين ضحوا من أجل العراق الحر والديمقراطي ، وإمتلأت أعواد المشانق بأعناقهم .
عانت هذه المدينة من الإهمال في كل المراحل السياسية وبسبب ذلك مات الكثير من نخلها وأبناء شعبها معاً وخاصة بعد الإحتلال حيث تداعى عليها المنتفعون وقادة الميليشيات وأصحاب الشركات المشبوهة والتي تقوم بتهريب النفط يومياً من موانيء البصرة وعن طريق الصهاريج إلى دول الجوار ، ويذكر بعض المراقبين بأن هناك ٤٠ - ٣٠٠ ألف برميل مهرب يومياً من البصرة ، ويُقدم هذا النفط المهرب ملايين الدولارات إلى جيوب قادة الميليشيات والتجار المهربين ، ويباع النفط على هذا الأساس بأثمان رخيصة ، ولا عجب في ذلك فالمسروقات يجري التخلص منها بسرعة بأثمان بخسة .
لقد عانى البصريون منذ سنوات طويلة من سوء الخدمات والبطالة والفساد الإداري والتلوث البيئي كما عانت الأراضي من ظاهرة التصحر . وبعد أن أصبح عدد سكان البصرة ٤ أربعة ملايين إرتفعت فيها نسبة البطالة إلى ٣٠٪ وفقاً لتقرير نائب محافظ البصرة . كما أن هناك ٣٠ - ٣٥ ألف طالب متخرج من الكليات والمؤسسات الخاصة والحكومية ، لكن الحال ينتهي بهؤلاء إلى البطالة ، وتُلام الحكومة الإتحادية على عدم تركيزها على ما تحتاجه سوق العمل ، وقد وعدت الحكومة بتخصيص ٣ مليار دولار لمشاريع الكهرباء والماء بالإضافة إلى توفير ١٠ آلاف فرصة عمل لكن طلبات الوظائف قد وصلت إلى ٨٥ ألف طلب . كل هذا والبصرة تحوي على ٧٠ ٪ من إحتياطي النفط في العراق والذي يبلغ أكثر من ١٥٣ مليار برميل . ومن الجدير بالذكر أن عائدات النفط تشكل ٩٥٪ من ميزانية الحكومة الإتحادية .
إن الأساس المنطقي للبطالة في مناطق الجنوب هو الإنهيار التام للبنى التحتية وبضمها المنشآت الصناعية والزراعية ، فكما ذكرت إزدهرت في البصرة الكثير من المنشآت الصناعية الصغيرة بالإضافة إلى أنواع المحاصيل الزراعية لكن العمليات العسكرية أدت إلى التلوث البيئي وكما هدمت المنشآت الصناعية صحرت أراضي البصرة بالإضافة إلى مدن الجنوب الأخرى كالسماوة والناصرية وذي قار ، وجفت الأهوار مما أدى إلى نفوق الثروة السمكية وتوقف زراعة الرز كذلك أدى هذا إلى موت الكثير من الحيوانات المحلية .
إن جامعة البصرة تخرج سنوياً الآلاف من الطلبة الذين ينتهي بهم الأمر إلى البطالة لسوء البرمجة النظرية والتطبيقية للتعليم ، فتفوق عدد خريجي الدراسة النظرية على عدد خريجي العلوم التطبيقية ، وتضاءل عدد خريجي المدارس المهنية وهم من تحتاجهم الصناعات المحلية . وتبقى السوق السياسية المتطاحنة هي القاسم المشترك بين أفراد سكان البصرة ، حيث تتنافس الأحزاب على الأصوات والمراكز وحين تشعر بأدنى خطر على مواقعها تبدأ لضرب سكان البصرة وكأنها ذيل التمساح ، ولأن زمن الوعود قد إنتهى وبدأ زمن التشبث في المواقع ولا بأس أن يُطحن داخل هذه المطحنة الآلاف وأولهم نشطاء المجتمع المدني والمثقفين وسياسيين أحرار ، وأصبح من الأسهل على تجار النفط والسياسة لإسكات الأقلام والأصوات هو إستخدام كاتمات الصوت ، وإزدهر مؤخراً إستخدام هذا الأسلوب وخاصة على العنصر النسائي ، إذ أن المرأة برأيهم هي آخر من يتكلم وأول من يسكت . وقد إطلعت مؤخراً على خطابات الناشطة الحقوقية الدكتورة ( سعاد العلي ) فلم أجد فيها ما يثير غضب أو نقمة القوى السياسية المتطاحنة ، إذ أنها كانت تدعو إلى الألفة والتعايش بين الأديان والطوائف وإلى عراق موحد ، ولا أدري إن كانت منظمة مثل منظمة ( الود لحقوق الإنسان ) يمكن أن تزعج أي فئة أو جهة سياسية شريفة إلا إذا كانت تدعو إلى الكراهية والتي عانى منها الشعب العراق برمته . وقد طالبت الناشطة الحقوقية سعاد العلي بتوفير الخدمات والقضاء على البطالة والفساء الإداري والتلوث البيئي والمساواة بين الطوائف والأديان ، ويبدو أن هذا لم يعجب البعض ممن إستفاد من الفتنة الطائفية وإستفاد من إبقاء الحال على ما هو عليه ، وجعل الفساد الإداري خطاً أحمر لا يمكن التحرش به .
إن ما لم يتعود عليه السياسيون المخضرمون هو أن ترتفع الأصوات الضعيفة والتي لا تمتلك إلا صوتها وخاصة فئة الشباب والنساء ، هم لم يتعودو أن تفندهم حقوقية متخصصة فقرروا قتلها ، ولم يتعودوا أيضاً أن يظهر للعالم الوجه الجميل للعراق فقرروا قتل ملكات جمال العراق ، وإعتقدوا بأن كل جميل محرم أو يدعو إلى الحرام ، لكن الغريب في الأمر أنهم قتلوا من قبل نوابغ من العراقيات المتخصصات في مجالات الطب المختلفة وفي مجالات العلوم التطبيقية والإنسانية من أساتذة الجامعات . تُرى هل يصر هؤلاء على إظهار الوجه القبيح للعراق كما تخيلوه أو صنعوه وأصروا عليه ولعلهم ينظرون كل يوم في مرآة أحلامهم فلا يرون في أنفسهم إلا القُبح الخُلقي والذين أصروا على أن يطبعوا البعض من أبناء الشعب العراقي ببصمتهم وأن يتحدثوا لا بلغة إبن الشارع العراقي الطيب بل بشفرة سرية لا يعلمها إلا من إنغمس إلى أُذنيه بالدماء البريئة .