منذ بدء الشروع، في تخريجات ما أطلق عليه بالبيروسترويكا (أو إعادة البناء)، والغلاسنوست (العلانية أو الشفافية)، ارتباطا بظهور عوامل داخلية وخارجية، فرضتها تراكمات سنوات الجمود القاتل وتطورات الصراعات الدولية في إطار الحرب الباردة. أقول منذ فتح أبواب التغيير، والتجديد، المطلوب والذي جاء متأخراً، وبشكل مدمّر، وعلى أنقاض نظام "إشتراكية الفقر"، التي ابتعدت عن جوهر الفكر الماركسي- الإشتراكي، ومنهجه الديالكتيكي- الجدلي، ظهرت ولأهداف ومرامي متنوعة، تنوع مصالح الداعين لها، تكهنات واستنتاجات، متسرعة، وبمنهج تسطيحي، تقضي بشيخوخة الماركسية، بل ونهايتها. ووفقاً لذلك فإن مبادئ الشيوعية الخاصة بآفاق صيرورة المجتمعات، وسبل الخلاص من عبودية رأس المال، نحو بناء الإشتراكية بآفاقها الإنسانية، قد حسمت نهايتها التاريخية.. !!.
فات أصحاب هذه التبجحات والتعسفات الفكرية، وغير الموضوعية، أن الماركسية كمنظومة فلسفية – فكرية، وصلت، وعبر أشكال وأساليب محاولات تطبيقها في الواقع، خلال أكثر من سبعة عقود من الزمن، إلى واقع أزمة قاتلة وشديدة في تعبيراتها ومظاهرها. والأزمة كما هو معروف لا تعني أبداً النهاية، فهي بالمعني الفلسفي الحركي، نقطة، أو عتبة في التطور. هي نقطة وصول التراكم في مجرى التطور، الإجتماعي أو الكوني، المادي، إلى مرحلة الاستهلاك للمضمون، أو المحتوى، حيث تبدأ، الحاجة للتحول بعد مسيرة من التراكم الكمي، إلى كيف آخر جديد، تفرض نفسها. كيف يتواكب مع مستلزمات أو ثوابت العصر الجديد بكل تجلياته وأبعاده.
وفي مفهوم التطور، وقوانينه المتجددة في تمظهرها، فإن عدم التلاؤم مع تلك الحاجات والإستجابة لها بطريقة جدلية وحيوية، تؤدي موضوعياً، إلى بلوغ مرحلة التأزم الخانق، والذي يؤدي بدوره، إن لم تتم الإستجابة له، إلى الإنهيار بكل معانيه. وبهذا المنطق المنهجي الجدلي تتجدد الماركسية، كما تحدث عنه وأرساه، الفذ ماركس، وثم أثبته ورسخ مفهومه صديقه أنجلز.
فللماركسية يعود، الفضل في كشف جوهر الأيديولوجيا، باعتبارها إنعكاساً للواقع، ولطابع العلاقات الإجتماعية، في إطار متابعة مسيرة تحولاتها وتغير مظاهرها. فهي بهذه المعاني، تأريخانية بكل الأبعاد. فالماركسية، وبشهادة الكثير من الفلاسفة وعلماء الإجتماع، وعبر التأريخ، جاءت بمثابة التذليل التام للذاتوية، والإرادوية في فهم العملية التأريخية. فهي أداةٌ فهم وإدراك للحقيقة، مع الإقرار بنسبيتها وحركيتها.
يذكر المؤرخون أن ظهور الماركسية، شكل اختراقا كبيراً في الفكر الإجتماعي، وامتداداً لمحطات تطور الفكر الإنساني، بدءا من الفلسفة اليونانية، ومروراً بالتخريجات والمذاهب، التي غلفت بالطابع الديني، عبر قرون، وصولاً إلى الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، وبالأخص ديالكتيك هيغل ومادية فيورباخ. ويميز هؤلاء المؤرخون في الماركسية عمودين، أو ركيزتين تعبران عن جوهرها: أولهما الفهم المادي الجدلي للتأريخ، ثم الكشف الرصين لأسرار الإستثمار الرأسمالي. وهي بذلك وبحكم جوهرها، تتنافى مع، وتناقض التأويل الجامد. فهي ليست نصوصاً أو مقولات، تدعي الإطلاق في التفسير، بل هي منهج مادي ديالكتيكي يتبع قوانين التحليل التأريخي مع تحولاته، وحلقاته: الملومسية، التاريخية، والسببية في تطور الحياة والكون.
وهنا أجد من الضروري، والمناسب، الإقرار بأنه كان للصراعات وطابعها الحدي المتصاعد، ضد الماركسية ومنذ سنوات نشوئها الأولى، وصولاً إلى بدايات محاولات تطبيقها وتجسيد نماذج إجتماعية – إقتصادية تحتذي بها، ومن ثم في إطار حمى الحرب الباردة، كان لذلك والمعاداة القاسية والشديدة للشيوعية وكل تجلياتها الفكرية والتنظيمية والسياسية، كان لكل ذلك تأثير واضح وملموس في رسم معالم وممارسات أدت إلى ولوج حلقات المراوحة ثم الجمود، التي أدت بالتالي إلى بلوغها حدة الأزمة العميقة لتلك الأنظمة التي تشدقت بها لعقود. فاضطرار القوى والأحزاب وخاصة الشيوعية الرسمية منها، والتي قادت بناء الأنظمة التي سميت بالإشتراكية، وفي لجة الدفاع عن قيمها، أفضت إلى السقوط في محطات الإنعزال وبروز الشمولية في النهج والممارسات السياسية، الأمر الذي أدى مع مرور الزمن إلى حصول تبلورات فكرية وسياسية أفرزت فئات وقوى وارتباطاً، بالإنغمار في الحكم والسلطة، ذات توجهات بيروقراطية تشعبت وتداخلت مصالحها السياسية، وأحكمت سيطرتها على مفاصل الحكم. وهذا الأمر أفسح في المجال لقوى المعسكر المعادي، التدخل وبشتى السبل والأساليب، وبما فيها المخابراتية، من أجل تفسيخ جوهر النظام الإشتراكي بالمعاني الفكرية الماركسية، الجدلية، وأفقدها أبرز ما يمثل قيمها وجوهرها، المتمثل بالديمقراطية المتميزة عن ديمقراطيات النظام الرأسمالي الليبرالية، البعيدة عن مصالح الطبقات والشعوب التواقة لتحررها وتقدمها. وليس غريباً أنه كان من السهل تلمس سمات لم يكن لها أية علاقة بجوهر النظام الإشتراكي والذي كان يوصف عن غير حق بالشيوعي. فحرمان المرأة من الكثير من حقوقها وحتى تحت باب المساواة، وهي الكاسبة لحقها في العمل، وفرض نهج الإنتماء إلى الحزب "القائد"، وتصعيد دور المخابرات وأجهزتها المتنوعة في ملاحقة الذين يختلفون مع تلك الممارسات، والإبتعاد عن التبادل في مراحل الحكم المتعاقبة منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، خاصة مع عدم الإدانة الكاملة والحاسمة للمنهج والحكم الستاليني، رغم إعلان الرئيس السوفيتي حينها خروتشوف الإدانة لتلك المرحلة العصيبة من تأريخ الدولة السوفيتية. كل ذلك عزز من تحول سلطة النظام "الإشتراكي" إلى دولة للبيروقراطية الحزبية والسياسية، الأمر الذي أبعد الكثير من قوى الشباب والفئات الإجتماعية المتضررة عن الحكام والحزب. وواقع إنهيار الحزب بعد بلوغ عدد أعضائه أكثر من 19 مليون إنسان، وانهيار الدولة ومؤسساتها في غضون أيام، يعطي تفسيراً حقيقياً لما جرى بعد إنقلاب يلتسن في صيف العام 1991.
أن تتبع المسيرة، منذ وفاة قائد الثورة البلشفية، الخالد فلاديمير إيليتش لينن، ومروراً بالمرحلة الستالينية، وتوجهاتها، إضافة لتأثيرات الحرب العالمية الثانية، والخسائر والثروات التي كرست لها، وثم تطورات ما بعد المؤتمر العشرين للحزب، وترسيخ نهج التأليه والتقديس للنطرية، على حساب المنهج الجدلي، المادي الديالكتيكي. كل ذلك أدى إلى توفير كل عوامل الجمود والسقوط في مستنقعات التخبط، رغم ادعاءات القوة والتمكن على مدى عقود، كل ذلك أوصل نظام حكم البيروقراطيين إلى التوقف عن التطور، والإنهيار بعد تعزز كل أسباب الجمود والتعفن.
ولا يمكن نسيان الدور الذي أسهم فيه العديد من المفكرين والمنظرين الماركسيين البارزين على مدى التأريخ وخاصة، بعد وفاة المبدعين الفكريين ماركس وأنجلز. ومن بين أبرزهم كاوتسكي، وبليخانوف ومهرينغ. وتبعهم فلاسفة كبار، شكلوا مراكز تنظير للنظام "الإشتراكي ولقادة الحزب على مدى سنوات، والذين وبمجرد ظهور معالم الأزمة، خاصة خلال بدايات تسعينات القرن الماضي، قاموا ليس فقط بإعلان التخلي عن الماركسية، وإنما الإدعاء بخوائها، وفشلها. ولن أنسى أبداً قولة أحدهم وأنا أتتلمذ على يده في دراستي الفلسفة الماركسية، في موسكو، حين قال أن "الماركسية فكرة فاشلة وخاوية"...!!. وذلك بعد سنوات من انتفاعه من موارد النظام الذي كان هو جزء منه بل هو أحد منظريه والمدافعين، عن نهجه وتحولاته في تسييد قوى بيروقراطية الدولة.
هكذا اجتمع الساعون إلى تحطيم الماركسية، من جبهة المعاداة مستغلين طابع الدول، التي فرض مبدأ تمثلها وتمثيلها للفكر الإنساني الكبير. اجتمع هؤلاء موضوعياً مع المتمسكين بدوافع وأسباب وعوامل جمود الماركسية، لبلوغ ما وصلت إليه الأوضاع في سقوط جدار برلين، وانهيار النموذج العملي للاشتراكية، والذي صار سبباً لهدمها بعد إخراجها من طابعها الديمقراطي، الإنساني السليم. كل هؤلاء عملوا على وضع الماركسية وموضوعات مؤسسيها، خارج الزمان والمكان.
فالماركسية لا تخص الماضي فقط، فهي، وكما أراد لها معلموها الأوائل، دخلت في مضمون ونسيج الفكر الإجتماعي، الإنساني، وفي وعي قوى إجتماعية وسياسية، نافذة ومؤثرة، في صيرورات التحولات التأريخية. وبذلك أصبحت وعبر عشرات السنين، جزءًا حيوياً من النسيج الفعلي العملي، للعملية التأريخية.
فالماركسية، ارتبطت ارتباطاً عضوياً، وهي مستمرة في ذلك، وبوصفها نظرية للتحرر الإنساني والتقدم، والإشتراكية، بمثل ومكاسب عصر الثورات البورجوازية كحاجات إنسانية موضوعية. وهي لم تدع فقط إلى التواصل مع التقاليد الديمقراطية، بل هي سمت بها إلى مستويات نوعية عليا، متجاوبةً في ذلك، مع حاجات العصر، وعصور التطور منذ عهود الثورات البرجوازية الأولى.
لقد تصدت الماركسية، للحاجة الحياتية، في تحليل جوهر التناقضات وأبعاد تجليها، في أنظمة رأس المال، مع محدثاتها وتطوراتها. وهي في ذلك عبرت وتعبر، أو لخصت وتلخص حاجات ومصالح كل القوى التواقة لتحقيق أحلام الإنسانية في الحرية الفردية، والمجتمعية، وبشكل خاص قوى العمل والطبقة العاملة، والتي شهدت هي الأخرى تحولات في تكويناتها وطبيعتها وأدوارها، مع تطورالرأسمالية، نفسها، والخروج من عالم الصراعات الطبقية المعولمة، إلى العولمة الرأسمالية الشاملة. وهنا يأتي كتاب رأس المال لماركس، أساساً صار يقر به حتى العديد من منظري النظام الراسمالي، ولو من باب محاولاتهم تجاوز الأزمات الخانقة التي تمر بها أنظمتهم.
الماركسية، لا تزال، إذاً، تعبر عن الطموح في بناء أنظمة تتسم حقاً بالإنسانية، عبر توسيع وتعزيز ديمقراطية المشاركة الحقة والحريات الشخصية الإنسانية، بعيداً عن خداع كل أشكال ديمقراطية التمثيل، وصولا إلى مجتمع يتسم بنظام إجتما- إقتصادي، ينسجم وقيم وحاجات الإنسان في التقدم والإزدهار.
ونخلص بالقول، أن الماركسية تبقى في القلب من كل تجليات، ومعمعات، المسيرة البشرية، وهي تستمر بكونها أداة عملية ومنهجية، في التحليل الفلسفي، والاجتماعي والاقتصادي، مستوعبة بشكل عميق حركية العلوم الإجتماعية. وهي في نهجها ومنهجها، في تحقيق ذلك متمسكة بسلاحها، المنهج التاريخي، المادي – الديالكتيكي. وغير ذلك وبعيداً عنه، لا يبقى غير المراوحة في المكان والزمان، وتوفير أسس، إعادة التأريخ نفسه، وتجديد سبل الجمود والإنهيار ....!!!.

عرض مقالات: