منذ انهيار النظام الديكتاتوري في العراق وتخريب تشكيلته الاجتماعية جرى انعاش الطائفية السياسية في تشكيلة العراق السياسية ــ الاجتماعية و يعود ذلك بما أفرزته التجربة التاريخية الى كثرة من الاسباب الأساسية اهمها ( أ ) اعتماد النظام الديكتاتوري الطائفية السياسية في بناء سلطة الدولة العراقية . (ب) الاضطهاد السلطوي المتواصل للشيعة العراقيين وتعرضهم المتواصل للإقصاء والتهميش فضلا عن ابعادهم عن المراكز الرئيسية لسلطة الدولة العراقية .( ج ) تجاوب ذلك النهج الطائفي مع ميول الرأسمالية المعولمة  الهادف الى تفتيت الدول الوطنية وتشكيلاتها الاجتماعية التي جرى بنائها في حقبة الاستقلال والسيادة الوطنية .   

ــ الطائفية السياسية التي تباركها الرأسمالية المعولمة أدت الى  تخريب التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية وتفتيت وعي طبقاتها الاجتماعية  واستبدلت وعي مكوناتها الطبقية  بوعي طائفي وذلك عبر تحويل المراسيم والطقوس الطائفية الى مسارات مغلقة تتطور على اساسها النزاعات الاجتماعية المنبثقة من الاوهام والمعتقدات الروحانية والتي تهدف الى تخدير الكتل الشعبية وإبقاء الطبقات الحاكمة  في مواقعها الاقتصادية ـ الاجتماعية بعيداً عن  النقد الاجتماعي الهادف الى توعية الناس  بمتطلبات حياتهم الاساسية.

على اساس تلك اللوحة ومؤشراتها المذهبية العامة نحاول التعرض الى الطائفية السياسية في العراق  ودورها في خدمة النظم الاستبدادية وتجاوبها مع نهوج الرأسمالية المعولمة المتسمة بالهيمنة والتبعية والتفتيت . لذلك دعونا وعلى اساس تلك المواصفات السياسية ـ الفكرية  نحاول  التعرض الى المحاور الاتية  ـ

أولا ــ لمحة تاريخية عن تطور السياسة  الطائفية في  الدولة العراقية .

ثانيا ـ دور الطائفية السياسية في بناء الدولة العراقية الجديدة  .  

ثالثا ــ  المشروع الوطني الديمقراطي والطائفية السياسية .

أولا ــ لمحة تاريخية عن تطور السياسة  الطائفية في  الدولة العراقية .

لن نغوص بعيدا في ظهور الطائفية السياسية في العراق ونتوقف عند نشوء الدولة العراقية بعد انفصالها عن الامبراطورية العثمانية وانتقالها الى ادارة الاحتلال البريطاني , حيث اعتمد نظامها السياسي الجديد على شبكة الموظفين الخارجين من الدولة العثمانية السابقة  والراغبين  في مساعدة الوافد البريطاني على بناء الدولة التابعة على اساس الرؤى البريطانية لبناء الكيانات المستعمرة. وبهذا السياق تشير الوثائق التاريخية الى ان معظم الطواقم القيادية في الدولة العراقية الوليدة جاءت من المذهب السني الساعي الى استبدال التبعية العثمانية بالتبعية البريطانية بينما وقفت الطائفة الشيعية ضد الغازي البريطاني متمسكة بالدعوة الى صيانة الجامعة الاسلامية بغض النظر عن توافقها مع بناء الدولة  العراقية وسيادتها الوطنية.  

ـ عمد  النظام السياسي الجديد للدولة العراقية المترابط والنزعة الطائفية الى تكريس التباعد الديني ين الطائفتين السنية ـ الشيعية من خلال بناء الدولة العراقية على قاعدة الطائفة الواحدة متخليا بذلك عن مشاركة الطوائف الاخرى في بناء نظامها السياسي وبهذا المنحى رسخ الحكم العراقي الجديد الافتراق المذهبي بين طوائف الامة الاسلامية  الواحدة وانخرط في توجهات  الوافد البريطاني الجديد وشعاره العتيد ( فوق تسد ).

ــ انقلاب شباط الدامي وترسيخ التمايزات الطائفية

ــ حاولت ثورة تموز اعادة المساواة والتآخي بين أطراف  التشكيلة العراقية الطبقية منها والطائفية إلا انها فشلت بذلك المسعى لأسباب كثيرة نتوقف عند أهمها ـ

 أولا ــ احتكار القوى السنية  للمراكز الاساسية  في المؤسسة العسكرية وأجهزة الدولة العراقية ــ الامنية فضا عن الاجهزة الإدارية الاخرى.

ثانيا ـ النزاعات الأساسية التي خاضتها القوى القومية العربية ذات الأردية الطائفية ضد قوى التغيير الاجتماعي  المناصرة للثورة الوطنية الديمقراطية تحت شعارات عربية ـ قومية عائمة.

ثالثا ــ  عودة القوى القومية  الى السلطة السياسية  بعد انقلاب شباط الدموي واعتمادها النزعات المذهبية عزز مواقع الطائفية السياسية في ادارة شؤون البلاد السياسية.

رابعا ـ كرست السلطة الانقلابية الجديدة الطائفية السياسية عبر تحكمها في بناء مفاصل الدولة الجديدة خاصة في المؤسستين العسكرية والأمنية  حيث جرى تصفية القوى والعناصر الوطنية المناهضة للحكم الشوفيني الجديد .

خامساــ  استمرار السلطة الانقلابية في بناء وترسيخ طائفية الاجهزة العسكرية والأمنية في الدولة العراقية عبر  محاربة القوى الوطنية والطوائف الدينية المناهضة لإجراءاتها الدموية .

سادساًــ نتيجة لسياسته الدموية المناهضة  لقوى التشكيلة العراقية القومية والوطنية جرى عزل النظام البعثي واستبداله  بنظام عسكري جديد.

سابعاًــ رغم عدم اختلاف النظام الجديد عن النظام السابق إلا انه اضفى تدابير قانونية  على طبيعة الاوضاع  المستجدة في الدولة العراقية بهدف الإبقاء على  البناء الطائفي للسلطة العراقية .

ثامناً ــ استمر بناء الدولة العراقية الطائفي وتعمق الاضطهاد السلطوي المتواصل للطوائف والشرائح القومية الاخرى تحت شعارات ملتبسة ترتكز على مكافحة الشيوعية والطائفة الشيعية فضلا عن  محاربة المواطنين الساكنين في وسط وجنوب العراق بسبب مناهضتهم للنظام السياسي الطائفي الحاكم.

تاسعاً ـ جرى التثقيف علانية وبأجهزة الدولة الرسمية ذات التوجهات الطائفية ضد ذلك الثالوث المناهض لسلطة الدولة العراقية وضرورة اقصائه من الحياة السياسية بطرق الترهيب والإرهاب والاقصاء.

ثانيا ـ دور الطائفية السياسية في بناء الدولة العراقية الجديدة

ــ على الرغم من تعاظم النزاعات الطائفية ــ السياسية في الفترات السابقة إلا ان بناء النظام السياسي الجديد بعد اسقاط الديكتاتورية استند الا سيادة الطائفية السياسية الشيعية التي جرى مباركتها من المحتل البريطاني بهدف الحفاظ على مواقعها القيادية المتميزة في الدولة والمجتمع .

ــ تشكل الاحزاب السياسية ذات الأطر الطائفية في الحياة السياسية  العراقية ، أشر الى  ان  التغيرات الحاصلة في التشكيلة العراقية جاءت مخالفة للتطور الاجتماعي وذلك عبر تكريس بنية الاحزاب الطائفية  ورعاية مصالحها الطبقية في الدولة العراقية .

ــ تماشي الاحزاب الطائفية وسياسة العولمة الرأسمالية المتسمة بالتبعية والتفكك حيث جرى تكريس هذا الواقع السياسي الطائفي في الحياة الفعلية وتحوله الى عرف سياسي تعتمده الشرعية الانتخابية في بناء وقيادة اجهزة الدولة الرئيسية ورسم سياستها الوطنية .

ثالثا ــ  المشروع الوطني الديمقراطي والطائفية السياسية.

بات معروفا ان هناك تعارضاً رئيسياً سائداً بين المشروع الطائفي المعتمد من قبل يعض الاحزاب الطائفية في بناء الدولة العراقية وبين المشروع الوطني الديمقراطي حيث يتمثل هذا التعارض الرئيسي في العديد من المستويات الاجتماعية ــ السياسية نحاول تشخيص الكثير منها بالمحددات التالية ــ  

اولاــ يعتمد المشروع الوطني الديمقراطي البناء الطبقي الفاعل في توصيف وتطور الدولة العراقية ونظامها السياسي بينما  يتمثل المشروع الطائفي بهوية طائفة  مغلقة  بغض النظر عن انتماءات افراد بنيتها الطبقية .

ثانيا ـ يسعى المشروع الوطني الديمقراطي الى تطوير التحولات والتغيرات الاجتماعية بمعناها الوطني الشامل بينما تعتمد الأحزاب الطائفية على بناء وقوة طائفتها السياسية  وما يحمله ذلك  من التناحر والعزلة بين التيارات الحزبية الطائفية المتنافسة.

ثالثاــ يسعى مشروع الوطنية الديمقراطية الى صيانة وتعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية بينما تحاول التيارات السياسية الطائفية بناء علاقاتها الاقليمية على اساس التوجهات المذهبية وليس المصلحة الوطنية.

رابعا ـ يهدف المشروع الوطني الديمقراطي الى بناء دولة عراقية وطنية تهتم بمصالح ومكونات الشعب العراقي بكل طوائفه وقومياته بينما يعتمد المشروع الطائفي على مراعاة مصالح طائفة محددة  وترسيخ مواقعها الطبقية  في الدولة والمجتمع.

خامسا  ــ يقود مشروع الوطنية الديمقراطية الى نشر الديمقراطية السياسية والاجتماعية في الدولة الوطنية بينما  يؤدي المشروع الطائفي الى الديكتاتورية والتناحر الاجتماعي .

سادسا ـ يفضى مشروع الوطنية الديمقراطية الى التوازنات الطبقية في بناء التشكيلة الاجتماعية الوطنية بينما يميل المشروع الطائفي الى تعزيز المواقع الطائفية للطبقات السائدة وما ينتج عنه من نزاعات مذهبية بين الفئات الطائفية المتنازعة .

سابعا ـ تساهم الطائفية السياسية بتعطيل الكفاح الاجتماعي الديمقراطي عبر عادات وتقاليد  مذهبية ــ تاريخية متوارثة بينما يعتمد المشروع الوطني الديمقراطي على توازن المصالح الاجتماعية الفعلية لأطراف التشكيلة الطبقية .

ثامنا ـ تتطابق الطائفية السياسية مع ميول العولمة الرأسمالية الهادفة الى تفكيك التشكيلات الاجتماعية عبر مساندتها لقوى طبقية ــ البرجوازية الكمبورادورية  والبرجوازية المالية  وما ينتجه ذلك من تبعية البلاد الى مسار حركة التكتلات الاقتصادية  الدولية.

اخيرا لابد من التأكيد على ان بناء الدولة العراقية ونظامها السياسي الديمقراطي يعتمد الركائز الاساسية التالية ــ

1 ــ  تعتمد النزاعات الطبقية في التشكيلة الاجتماعية العراقية على المصالح الفعلية لطبقاتها المنتجة ولا تعتمد على استبدال المذاهب الطائفية بمذاهب طائفية اخرى.

2 ــ  يتطلب بناء السلطة السياسية الموازنة الطبقية وما يشترطه ذلك من مراعاة المصالح الاساسية للطبقات الاجتماعية الاخرى عبر الشرعية الديمقراطية لبناء الدولة العراقية ونظامها السياسي .

3 ــ بناء التوازنات السياسية على المساواة والعدالة الاجتماعية بعيدا عن الانتماءات الطائفية يشترط رفض التبعية  لمتطلبات العولمة الرأسمالية .

الاستنتاجات

بناء على ما جرى استعراضه من أفكار وأراء نحاول تحديد المحاور المثارة  بالاستنتاجات التالية ـ

أولا ــ تسعى الطائفية السياسية الى توظيف احداث التاريخ وأدوات الماضي في بناء الحاضر والمستقبل لغرض ترسيخ مساراتها الطبقية والسلطوية المناهضة لتطور التشكيلة الاجتماعية العراقية.

ثانيا ـ يهدف المشروع الطائفي الى اثارة النزاعات الدينية لتحقيق اهدافه المتمثلة بالهيمنة الطائفية عبر شدها الى مسارات فكرية سياسية تاريخية بعيدة عن التطور الاجتماعي  الهادف الى تلبية حاجات الناس الفعلية.

ثالثاـ تهدف الطائفية السياسية الى بناء تشكيلات اجتماعية طائفية منعزلة متعارضة مع الطوائف الدينية الأخرى  بهدف شل الكفاح الديمقراطي وإدامة هيمنتها  الطائفية.

رابعا ـ يتوخى المشروع الطائفي السياسي اثارة النزاعات الدينية لتحقيق اهدافه المتمثلة بالهيمنة السياسية بعيدا عن التوافق الاجتماعي المتوازن الهادف الى صيانة الدولة الوطنية وتشكيلتها الاجتماعية.

عرض مقالات: