الأحداث المؤسفة في اليومين الأخيرين والتي رافقت المظاهرات السلمية في البصرة المنكوبة عكست ردود فعل مختلفة لدى الأوساط الجماهيرية التي تتابع ما يحدث في هذه المدينة الجريحة منذ سنين ، ولم يأبه احد بجراحها من المسؤولين الفاسدين سواءً في الحكومة المحلية او الإتحادية ، فالإثنان وجهان لعملة صدأة واحدة .
لقد تطورت الأحداث بحيث انها اتخذت طابعاً عنفياً مارسته بعض القوى الأمنية التي اودت بحياة بعض الشباب المتظاهرين الذين استشهدوا وهم يهتفون للبصرة واهلها ولم يكونوا ، كما يحلو لبعض المعممين الصغار ان يسموهم ، من العملاء او المخربين او غير ذلك من الصفات التي لا تليق إلا بهؤلاء المعممين الصغير منهم والكبير.
ولا يمكن لأحد ان ينكر بلوغ الغضب لدى المتظاهرين من الحدة بحيث انهم استعملوا الحجارة ضد بعض القوى الامنية التي تصرفت تصرفات اجرامية بشعة بحق المتظاهرين العُزل ، إلا من قناعاتهم بحقوقهم المشروعة التي خرجوا من اجلها .
وبلغ التطور اشده حينما وصلت الأمور الى حرق البنايات وبعض دوائر الدولة التي شبت فيها النيران والمتظاهرون على بعد مئات الأمتار منها ، كما صرح بذلك قادة تنسيقيات المظاهرات الذين اكدوا على سلمية مظاهراتهم . فمن قام بهذه الحرائق إذن ؟ تتوارد الأخبار ومن جهات وطنية تساهم في المظاهرات السلمية في البصرة وتشير الى قيام جهات لا علاقة لها بتنسيقيات المظاهرات بعمليات التخريب التي اشتملت ايضاَ على ترديد شعارات لم تكن ضمن الشعارات الموضوعة من قبل تنسيقيات المظاهرات . لذلك جاء القرار الصائب من قبل التنسيقيات بتعليق المظاهرات لكي يتسنى الوقت للقوى الأمنية من التحقيق بالأمر ومساعدتها على القاء القبض على المخربين الذين قاموا باعمال الحرق . لقد اكدت التنسيقيات على انها ستستمر بالمظاهرات السلمية حتى تتحقق المطالب السياسية والإجتماعية والإقتصادية لأهالي البصرة على الأقل ، وللوطن عموماً .
إن التأكيد على سلمية المظاهرات وتعليقها للأيام القادمة اجراء صحيح وينم عن مسؤولية ومشاعر وطنية تجاه مؤسسات الدولة التي هي مؤسسات الشعب وليس لرئيس الوزراء او رئيس الجمهورية او اي لص آخر من لصوص الحكومة الفاسدة الفاشلة في كل شيئ .
إن المتظاهرين والمحتجين والغاضبين من بنات وابناء الشعب العراقي ، واهل البصرة اليوم في مقدمتهم ، ليسوا اعداءً للدولة العراقية ، وليسوا بصدد تخريب منشآت الدولة العراقية ، ولم يكن هدفهم في يوم من الأيام تهديم الدولة العراقية ، فهي دولتهم التي يسعون لرفع شأنها وعلو مكانتها بين الأمم واسترجاع هويتها التي باعها اذناب ايران والسعودية وقطر وتركيا وكل الأوباش الذين يفاخرون بغير الهوية العراقية . ان المتظاهرين هم ضد حكومات فاسدة تسيدت على الشعب والوطن وانهكته باجراءاتها التعسفية ولصوصيتها التي لم تبق على ارض وطننا من خيرات إلا واستحوذت عليها لتظل الجموع تتغنى " بتنويمة الجياع " في بلد من اغنى بلدان العالم .
ولكن اية دولة نريد ؟ وما هي الدولة التي نسعى اليها ، سواءً في وطننا العراق او في المجتمعات العربية والإسلامية عموماً ؟
إننا تسعى ، وبالدرجة الأولى ، لتحقيق دولة المؤسسات التي تعني اول ما تعني وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، بغض النظر عن جنس او لون او منطقة ، او حتى عن العمر ، إذا كان هذا الشخص ملائماً لهذا المكان في مؤسسة الدولة التي ينبغي ان تعمل وفق مبدأين اساسيين ، اولهما مبدأ المواطنة وثانيهما مبدأ الكفاءة . اما بقية الإنتماءات الأخرى والمواهب الإضافية الأخرى فتظل موضع الإحترام ، بل والممارسة ايضاً ، شريطة خضوعهما للمبدأين الأساسيين ، المواطنة والكفاءة .
الدولة التي نريد هي الدولة العلمانية الديمقراطية ، وما نعنيه بهذا التصنيف ينضوي تحت المفاهيم الحديثة للمصطلحين ، العلمانية والديمقراطية ، وهما مصطلحان لا يقبلان الإنفصال في مفهوم كينونة الدولة الحديثة .
فالعلمانية تعني اول ما تعني حسب المفاهيم العلمية التي تتبناها ، تأسيس الدولة الحديثة على الأسس التنظيمية التي لا تسمح لغير ذوي الإختصاص والكفاءة العلمية والعملية من اتخاذ القرار . وهذا يعني ان تعمل مؤسسات الدولة بمعزل عن اي تأثير خارج اختصاص المؤسسة ، خاصة فيما يتعلق بتأثير الفكر الديني ورجالات الدين الذين لا علاقة لهم بعمل هذه المؤسسة او تلك . بعبارة اخرى فصل سياسة الدولة بكل ما تقتضيه هذه السياسة من تخطيط وتنفيذ عن المؤثرات الدينية مهما كان نوعها . ومن الخطأ الشائع استعمال مصطلح : فصل الدين عن السياسة . وهذا التعبير لا يعكس مفهوم العلمانية بالشكل العلمي الصحيح الذي تعنيه . ان الدولة العلمانية لا علاقة لها بالدين إلا بالقدر الذي تمارس فيه واجباتها بالمحافظة على المؤسسات والممارسات الدينية لمختلف الأديان ضمن حدودها وتبعاً للقوانين السائدة فيها. كل الأديان ، بغض النظر عن قلة او كثرة تابعيها ، يجري التعامل معها في الدولة العلمانية الديمقراطية على السواء دون تمييز دين على آخر، فكل تابعي الأديان في هذه الدولة مواطنون اولاً واخيراً وهم متساوون في الحقوق والواجبات التي تحددها قوانين هذه الدولة . ويتعلق بهذا الأمر اختفاء مصطلح " الأقليات " في هذه الدولة. هذا المصطلح البغيض الذي ندعوا الى رفضه ومسحه من قاموس سياسات اوطاننا العربية والإسلامية.
أما لماذا يجب ربط مصطلح العلمانية بالديمقراطية ، فأن ذلك امر تقرضه معطيات التاريخ الذي قدم لنا نماذج علمانية التوجه والتفكير ، إلا انها دكتاتورية التنفيذ . وامثلة التاريخ بالأمس القريب تشير بكل وضوح الى النازية في المانيا والفاشية في ايطاليا مثلاً . وامثلة التاريخ الحديث تشير بكل وضوح ايضاً الى الدولة التركية الحديثة التي تشكلت على اعقاب سقوط الدولة العثمانية ، والتي اعلنها كمال اتاتورك كدولة علمانية ، إلا انها لم تمارس الديمقراطية في سياستها التي خضعت غالباً للإنقلابات العسكرية . او السياسة الأردوغانية الدكتاتورية التي يمارسها الإسلاميون اليوم في تركيا .والديمقراطية التي نعنيها هنا هي ديمقراطية التنفيذ ، لا ديمقراطية نظريات المكاتب . الديمقراطية تعني الإنسانية بكل وجوهها التي لا تشكل مع العلمانية ، إلا كل اسس النجاح والتقدم لكل مجتمع من مجتمعات الكون .
الديمقراطية التي نريدها ليست تلك " الديمقراطية " التي اصبحت احزاب الإسلام السياسي الطائفية المقيتة تنادي بها اليوم لا إيماناً بها ، بل كوسيلة لها للوصول الى الحكم ، بعد خداع الجماهير بافكارها السوداء المتخلفة ، ثم الإنقضاض على هذه الديمقراطية ، وهذا ما عشناه ونعيشه حتى اليوم في مصر مرسي ، وفي سودان البشير ،وفي تركيا اوردوغان والحبل على الجرار .
من هنا نستطيع ان نقول ان الديمقراطية والعلمانية توأم سيامي لا يمكن معه تفعيل هذا دون ذاك.
الدولة التي نريد هي دولة القانون التي لا سيادة فيها إلا لدستور ينص على مصالح الوطن بكل ابعادها الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية ، تضمن تطبيقها قوانين لا تعلو عليها اعراف او تقاليد او اية علاقات اجتماعية اخرى . الدولة التي تسود فيها احكام القانون . الدولة التي يُحترم فيها رجل القانون . الدولىة التي لا يستهزء بقوانينها او يتجاهلها اي نفوذ يجعل نفسه دولة داخل دولة ، سواءً بقوة السلاح او بقوة تعايم دينية او عشائرية او مناطقية ، او انسجاماً مع عادات وتقاليد لا تصب في مجرى التطور الذي تنشده الدولة على مختلف الأصعدة .
الدولة التي نريدها هي الدولة التي لا تتوانى عن تفعيل كل ما في وسعها من قوة اقتصادية وسياسية وثقافية لإسعاد مواطنيها والسير معهم ضمن المسيرة العالمية المتجهة نحو التطور الدائم والحداثة. الحداثة هي التي ستعطينا الأجوبة على كل التساؤلات التي تعترض سبل الحياة في اي مرحلة من مراحل التاريخ. الحداثة التي ستخرجنا من موقع نكون فيه خير امة تستجدي الناس ، كما هو الموقع الذي نحن فيه الآن ، الى امة تسير مع الناس في بناء الحضارة الإنسانية وتحقيق حياة السلام والمحبة بين شعوب الأرض كافة .