تعد المتغيرات الاقتصادية عرضة للتحليل والبحث حول حقيقة وجودها واسباب ديمومتها وآلية عملها و طبيعة اثارها في سبيل التخفيف من حدة هذه الاثار اذا كانت ضارة، عن طريق ايجاد المعالجات المناسبة، ومن هذه المتغيرات البطالة، والتي تعد واحدة من الامراض الاقتصادية التي تضرب الأنظمة بمختلف توجهاتها.
وكنتيجة حتمية لتفشي البطالة عمت شوارع المحافظات الجنوبية عموماً ومحافظة البصرة خصوصاً موجات احتجاج على تردي الواقع الاجتماعي والاقتصادي والخدمي، ومطالبة بالالتفات الى الاحتياجات الملحة لهذة المحافظات، وفي مقدمة هذه المطالب القضاء على البطالة، وتوفير فرص العمل لألاف الشباب العاطلين الذين ملوا الانتظار على دكة الوعود الحكومية، لانتشالهم من واقعهم المتراجع.
وعرفت الادبيات الاقتصادية البطالة بأنها التوقف عن العمل، اوعدم توافره، لشخص قادر عليه وراغب فيه. فيما عرفت منظمة العمل الدولية ((ILO العاطل بانه كل شخص قادر على العمل، وراغب فيه ويريده، ويقبل به عند مستوى الاجر السائد لكنه لايجده.
وعند دراسة الامراض الاقتصادية يجب مراعاة انفراد الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية العراقية والتي جعلته مختلفاً عن بقية الدول المحيطة به لكون العراق غارق بالتناقضات لقرابة اربع عقود حيث شهدت بداية ثمانينيات القرن الماضي تراجع الوفرة المالية وبداية الاهتزازات الاقتصادية على اثر الحرب العراقية الإيرانية والتي مثلت الهزة الاولى للمجتمع. مروراً باجتياح الكويت والحرب الثانية عام 1990 وما تبعها من حصار دولي القى بظلاله الموحشة على الاقتصاد العراقي تلته الحرب الثالثة عام 2003 وافرازاتها التي اثرت كثيرا في الواقع العراقي ولا يزال يعيش تبعاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية في الوقت الذي نعمت به بقية الدول المحيطة باستقرار على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، مكنتهم من استثمار وتوظيف مواردهم الطبيعية والبشرية بالشكل الأمثل عكس الحالة العراقية والتي استنزفت هذه الموارد كوقود للحروب المتتالية والصراعات الداخلية مما يحتم على الباحث سلوك طرق مغايرة عن الخط الاكاديمي العام في دراسة البطالة في العراق.
وقبل البحث عن اسباب البطالة في البلاد لابد من مرور سريع ومقتضب على واقع العمالة في العراق اذا بلغ تعداد سكان العراق بحسب وزاره التخطيط عام 2017 قرابة ٣٧ مليون ضمن معدل نمو سنوي بلغ 61, 2 في المائة اي بزياده مقدارها ٨١٢٧٤١ مواطن سنوياً، وبحسب الامم المتحدة يعد العراق من اكثر الدول شباباً وهذا يعني توافر القوى العاملة، وان البطالة وفقا لهذا المعدل قد تعمل على تدمير المجتمع اقتصادياً واجتماعياً، حيث ان نحو 59 في المائة من العمالة هم تحت 19 عاما، وتشير العديد من الاحصائيات ان العراق يأتي في مقدمة دول الشرق الأوسط بنسبة بطالة تقدر بـ ٥٩ في المائة من حجم قوة العمل ونحو ٣١ في المائة‏ بطالة مقنعة، وان اكثر من يعيش كابوس البطالة هم خريجو الجامعات والمعاهد من اصحاب المؤهلات الفنية والتقنية، اذ بلغ عددهم نحو 45 الف متخرج عام 2017 ، وللقارئ تخيل عدد جيش الخريجين العاطلين اذا اضفنا اعداد السنين السابقة ممن لم يجدوا عملاً، وتمثل الارقام السابقة مفارقة حقيقية بين ما يجب ان يكون عليه الحال وبين الواقع المعاش.
ان الخطر الحقيقي للبطالة يتجاوز الأثر الاقتصادي، ليشمل الاثار الامنية والاجتماعية والتي تضرب المجتمعات الواقعة تحت وطأتها، فقد اثبتت العديد من الدراسات العلاقة بين البطالة والانحرافات المجتمعية للشباب ودوره في انتشار الجريمة والادمان وغيرها من الافات الاجتماعية، حيث تشير الدراسات النفسية والاجتماعية ، ان ندرة العمل تدفع بالعاطلين الى رؤيا سوداوية قد تزج بهم الى أحضان الإرهاب او الجريمة او التطرف، حيث استثمرت الكثير من التنظيمات الإرهابية هذا الجانب في العديد من الدول التي وقعت تحت وطأة الارهاب ومن ضمنها العراق، الذي استغلت فيه القوى الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وداعش عوز الشباب ووانحسار العمل وضعف الثقافة والوعي، لتجنيد العديد من هؤلاء الشباب وزجهم في اعمالهم الإرهابية، كما حصل في العديد من المحافظات العراقية مثل الانبار وصلاح الدين والموصل وغيرها.
ان الاثار الاجتماعية للبطالة يمكن ان تأخذ اشكالا متعددة تختلف باختلاف الطبيعة الجيوسياسية للدول والمناطق التي تنتشر بها، ففي المحافظات الجنوبية حيث ضربت البطالة جذورها عميقا بسبب الاهمال والتهميش واللامبالاة من قبل الأنظمة التي حكمت البلاد، سواءً النظام السابق اوالنظام الحالي على حد سواء، والتي شهدت موجة تظاهرات احتجاجا على تراجع مستويات العمل ومطالبة بالتعيين وتوفير فرص العمل لمئات الالاف من ابناء هذه المحافظات، ابتداء من محافظة البصرة وهي قلب العراق الاقتصادي والتي تحملت من اهوال الحروب ما لم تتحملها غيرها من المدن.
ان الحديث عن البطالة في العراق يقودنا الى البحث عن اسباب هذه البطالة، وتجدر الإشارة الى تداخل هذه الاسباب وتشابكها لاربع عقود تبدلت خلالها النظام السياسي وتعاقبت الحكومات، ولكن بقيت المشكله تتفاقم وبدون حلول موضوعية، ويمكن تلخيص هذه الاسباب بما يلي .
1. الحروب المتتالية التي خاضها العراق منذ عام 1980 وما تبعها من حصاراقتصادي، اضعف البنى التحتية وقيد العمل في الكثير من الوزارات والدوائر الإنتاجية، بما انعكس سلبا على واقع العمل في العراق.
2. الاداء الاقتصادي المتراجع، وضعف القدرة على تحقيق النمو الاقتصادي الحقيقي القادر على استغلال وتشغيل الايدي العاملة العراقية.
3. الاعمال الإرهابية والتخريبية التي عطلت الكثير من المشاريع، وانعكست سلباً على المناخ الاستثماري حيث لم تعد البيئة مشجعة للمستثمر الداخلي والخارجي على حد سواء في ظل غياب متطلبات الامن والاستقرار.
4. ضعف السياسة التشغيلية في العراق، وفشلها في توجيه العمل لاعادة اعمار العراق، لخلق فرص عمل جديدة للأيدي العاملة الداخلة في السوق والتي تقدر بـ 250000 يد عاملة سنويا.
5. النمو السكاني المتزايد، ففي عام ١٩٧٧ قدر عدد سكان العراق بقرابة ١٢ مليون بينما في عام ٢٠١٧ قدر سكان العراق 37 مليون دون ان يكون هناك خطة موضوعيه لاستيعاب هذه الزيادات، وبما يخدم واقع العمل في العراق.
6. تفشي الفساد المالي والإداري، والذي نخر بنية الدولة العراقية وتسبب في ضياع مئات المليارات بدون اي انجاز حقيقي، حيث قدرت الموازنات منذ عام 2003 حتى الان تريليون دولار ،انفق معظمها على مشاريع وهمية لها اسم وليس لها اثر.
7. السبب الرئيس والذي آثرت ان اجعله في آخر القائمة، وان لم يكن آخر الأسباب، وهو الطبيعية الريعية للاقتصاد العراقي، حيث تعتمد البنيه الاقتصادية العراق على استخراج وبيع النفط الخام، معتمدة عليه بشكل كلي في تمويل الموازنة العامة للدولة، دون الالتفات الى باقي القطاعات حيث يساهم القطاع النفطي في الناتج المحلي الاجمالي بقرابة 70 في المائة من الناتج الكلي، في حين يشكل القطاع الزراعي 6,5 ويشكل القطاع الصناعي قرابة 1,5‏ وتشكل باقي القطاعات ٢٢ في المائة من الناتج الكلي، اي بمجموع ٣٠في المائة من الناتج المحلي الاجمالي في مقابل الانتاج النفطي والذي يشكل بمفرده ٧٠في المائة من الناتج المحلي، مع ملاحظة ان القطاع النفطي يوصف بانه قطاع كثيف رأس المال، ولا يوظف سوى 2 في المائة‏ من المجموع الكلي للعمال العراقية، واما باقي الـ 98 في المائة‏ من باقي العمالة فهي نصيب باقي القطاعات، والتي تعتبر كسولة وليس لها اثر حقيقي في الواقع الاقتصادي.
ان النقاط على تمثل خلاصة الاسباب الرئيسة للبطالة، والتي تداخلت مع الحياه اليومية للمواطن حتى اصبحت جزءا من واقعه المعاش، فالعامل والكاسب وارباب العمل الحر وحتى الموظفين الحكوميين اعتادوا على دوي الموازنات الانفجارية ولكن دون طائل، ودون ان يكون هناك واقع ملموس لهذه الموازنات، في الوقت الذي اثقلت جدران بيوتنا الشهادات المعلقة لشباب عاطلين بلا عمل.
ان الاصوات المتعالية للمتظاهرين ايقظت الحكومة على واقع مرير، قد ينقلب الى خطر يهدد وجود النظام القائم ذاته اذا لم تلب مطالب ابناء المحافظات التي ملت البطالة وتعاني الجوع والفقر.
ان الحلول الحكومية لهذه المطالبات المتعلقة بالبطالة يمكن وصفها بأنها حلول آنية ومرحلية، ولا يمكن اعتبارها حلولا جذرية، حيث اصدرت الحكومة العراقية تعليمات بفتح ابواب التعيين على حركة الملاك المصادق عليها لغاية نهاية عام 2016 والتي قد تصل الى عشرات الالاف من الفرص، كما وأصدرت الحكومة المركزية قرارا يلزم الشركات العاملة في العراق بتشغيل 50 في المائة من العمالة العراقية ضمن مشاريعها العاملة عليها، وغيرها من الحلول التي قد تمكن الحكومة من تجاوز الازمة الحالية بشكل آني، ولكنها لن تكون حلولا حقيقية لمشكلة البطالة في العراق، حيث ان عدد العاطلين المسجلين يقدر بـ 650 الف ولا يشمل هذا الرقم غير المسجلين وهم اضعاف الرقم السابق، وان الاعتماد على تعيين الشباب العاطلين ضمن الملاك الحكومي لايمكن ان يغطي سوى نسبة ضئيلة من العدد الكلي، وحتى لو تمكنت الحكومة من توفير التمويل المالي لهذه الاعداد فماذا عن السنوات المقبلة والزيادات المستمرة للايدي الداخلة الى سوق العمل، لذا يجب وضع حلول حقيقية تتسم بالعمق والجدية، ضمن خطط متوسطة وطويلة الأمد تعمل على تغيير واقع العمالة في العراق، وان هذه الحلول متنوعة بتنوع أسبابها ولكن يمكن اختصارها بمايلي.
• توجيه نسبة كبيرة من الموازنة العمومية لدعم قطاعات الزراعة والصناعة ومشاريع البنى التحتية لتوفير فرص عمل للعاطلين.
• تشجيع وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية ووفق ضوابط تلائم ظروف الاقتصاد العراقي لهدف استيعاب اكبر عدد من الشباب العاطلين.
• دعم القطاع الخاص لخلق المنافسة بينه وبين القطاع الحكومي لجذب المزيد من الايدي العاملة وتخفيف الضغط عن التعيين الحكومي.
• المحاربة الجادة والحقيقية للفساد المالي والإداري والذي استنزف الثروات الوطنية واثرى افراد وعوائل محددة على حساب الملايين من الكادحين والعاطلين.
• كبح لجام الاستيراد المفتوح والذي انهى أي وجود للصناعة والزراعة المحلية ووضع اليات وشروط صارمة لعملية الاستيراد وبما تخدم الواقع الزراعي والصناعي المحلي.
• تهيئة الدعم النقدي والتنفيذي وتطوير برامج الاستصلاح الزراعي وبما يؤهلها لاستيعاب اعداد كبيرة من العاطلين.
• توزيع العمل بشكل عادل يستند الى أسس علمية وواقعية بين القطاعات الإنتاجية المختلفة بحيث يتم سحب فائض العمالة من القطاعات التي تعاني من فائض وإعادة استخدامها في القطاعات التي تعاني من نقص في الايدي العاملة.
• التنسيق بين وزارات التعليم العالي والتربية والتخطيط والعمل والشؤون الاجتماعية والمالية بخصوص خلق حالة من التوازن بين مخرجات التعليم ومتطلبات السوق.

باحث اقتصادي*

عرض مقالات: