قليلة هي الشعارات السياسية التي انتشرت عندنا في الفترة الأخيرة وشاعت على نطاق واسع، مثل شعار "التغيير والإصلاح".. فليس هناك ما يضاهيه في ذلك سوى شعارات مثل توفير الخدمات، ورفض المحاصصة الطائفية والاثنية، ومحاربة الفساد، وما اليها.
والفضل في ذلك لا يعود بالطبع الى مجرد تزايد التفهم الشعبي لاهمية عملية التغيير والاصلاح في اخراج بلادنا من "عنق الزجاجة" الذي حُشرت فيه منذ سنوات ولا تزال. وانما يعود ايضا الى تعمق ادراك القوى المتنفذة، التي اوصلت البلاد هي نفسها الى هذا العنق الضيق وحشرتها فيه، ان شعبية الشعار في تعاظم وان من الصعب عليها تجاهله، خصوصا مع احتدام الصراع على تشكيل الحكومة الجديدة. لذلك عجلت في الالتحاق بركب دعاته، وانبرت ترفعه معهم عاليا، وحتى تزاحمهم به في المشهد السياسي.
وليس سرا ان شعار التغيير والاصلاح ولد اصلا في المؤتمر الوطني العاشر للحزب الشيوعي العراقي، الذي انعقد مطلع كانون الاول 2016 في بغداد، وان مفردة "التغيير" جاءت في صدارة الصيغة التي اعتمدها المؤتمر واقرّها شعاراً للحزب في المرحلة الراهنة: "التغيير .. دولة مدنية ديمقراطية اتحادية وعدالة اجتماعية".
فاذا كانت مهمة بناء الدولة الجديدة، دولة المواطنة الديمقراطية المدنية، على انقاض الدولة الدكتاتورية المنهارة سنة 2003، قد بقيت طيلة السنوات الفائتة على الرف، فيما اقيم على الارض وعلى قاعدة المحاصصة الطائفية والاثنية بديل مشوّه، ضاعف المشكلات التي تثقل كاهل الشعب وفاقمها، وأدخل البلاد في دوامة معضلات وازمات جديدة شاملة، واطلق غول الفساد وتعهده ورعاه، فقد غدا جليا ان لا سبيل لتجاوز حال الاستعصاء وانسداد الآفاق سوى التغيير، التغيير الحقيقي واسع النطاق، الذي يمكن ان يفضي الى اصلاح عام شامل.
وقد توصل المؤتمر بعد بحث ونقاش عميقين الى ان التغيير اصبح ضرورة موضوعية ملحة، وانه اذا كان مطلوبا ان يؤدي الى اختيار من هم "اكثر اهلية وقدرة على الانجاز، والى خلق اصطفافات وتكتلات جديدة عابرة للطوائف والعناوين الفرعية والثانوية، وتبني مشروع وطني ديمقراطي يستجيب لحاجات الوطن والمواطن، ويتصدى للتحديات التي تواجه بلدنا والمنطقة، كما يفتح الآفاق نحو المصالحة الوطنية الحقة، ونحو حفظ وحدة البلاد وتجنيبها مخاطر التقسيم والاحتراب الداخلي"، فلابد ان يكون تغييرا عميقا: في نمط التفكير، وفي المنهج واساليب الاداء، وفي الشخوص كذلك.
واكتسب الشعار شعبية اوسع في ما بعد، حين تبناه تحالف "سائرون" وخاض به انتخابات أيار الماضي، التي خرج منها متصدرا الفائزين.
وتجلى جوهر الدعوة الى التغيير والاصلاح ومحاربة الفساد، منذ البداية، في التشديد على مغادرة سياسة دولة المكونات الطائفية والقومية ووليدها: نهج المحاصصة في ادارة الدولة. فهذا النهج هو الاساس في ما نشأ من ازمات، وفي تناسل هذه الازمات، وادخال البلاد في دوامة من الصراعات التي لا يجهل احد تداعياتها في الحياة اليومية للمواطن أمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
ان الغاية من التغيير والاصلاح هي الارتقاء بمستوى حياة المواطنين، وتأمين متطلبات الحياة الاساسية والخدمات الضرورية لهم، والتصدي لكل مظاهر الفساد وسوء استخدام المال العام وتبديده. ومن هنا هذه النزعة المتسعة نحو التغيير الحقيقي، والعزوف عن الدعوات الخطابية الفارغة، التي لم تعد مراميها تخفى على احد.
وحين يتحدث الناس عن التغيير الحقيقي، فانهم يريدون له ان يمتد الى الشخوص والى الكتل ايضا. يريدون وجوها جديدة لا رابط يربطها بالفساد وسوء الادارة، ولا تتحمل شيئا من مسؤولية حالات الفشل السابقة. شخصيات مخلصة صادقة تقرن القول بالفعل، وقادرة بما تحمل من مواصفات على كسب ثقة المواطنين والاسهام في بناء الجسور معهم.
ومعلوم ان للتغيير المطلوب مفاصل عدة، اولها التغيير في البنية السياسية، في النظام السياسي القائم. فذلك هو المدخل والمنطلق. والتغيير المقصود هنا هو بالطبع ما يتم بالآليات الدستورية السلمية والديمقراطية حصرا. ووفقا للدستور يكمن المدخل الى التغيير في صندوق الانتخاب. فعبره يجري تغيير تركيبة مجلس النواب، ومن ثم تشكيل الحكومة الجديدة.
ومع انتهاء الخطوة الاولى المتمثلة في انتخابات أيار الماضي واعلان نتائجها، تنهض اليوم المهمة الثانية والاهم من زاوية مشروع التغيير والاصلاح: مهمة تشكيل الحكومة التي يفترض ان تنهض بتنفيذ المشروع وتعمل على تحويله الى واقع.
ولا شك في انها لن تفلح في الوصول الى شيء من ذلك، ما لم يتم تشكيلها هي نفسها وفقا لروح مشروع التغيير ونصه، وعلى اساس برنامج ملموس وملزم ينطلق منه ويقوم على قاعدته.