تأتي مبادرة الحوكمة العالمية التي أطلقها الرئيس شي جينبينغ في اجتماع مجلس رؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون في ظروف يواجه فيها النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية أزمة حقيقية، تلازمت مع تحديات ومخاطر جديدة تتهدد عالمنا اليوم. وكان الرئيس شي جينبينغ مصيبًا ودقيقًا في تشخيصه بأن الحوكمة العالمية باتت أمام مفترق، وأن إصلاحها بات ضرورة لحماية السلم العالمي وبناء عالم أكثر عدلًا يضمن احترام سيادة جميع الدول وحقوق شعوبها في التحرر والاستقلال والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
فخلال العقود الأخيرة أصبح النظام الدولي يمر بأزمة شرعية نتيجة لانتهاك العديد من المبادئ والقواعد التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، كحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية واحترام وحدة الأراضي وسيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وعدم الالتزام بمبدأ تعاون الدول في مواجهة التحديات العالمية مثل التغير المناخي، وفي مجال الصحة وعدم الانتشار النووي. كما اقترن كل ذلك بتراجع التعاون الدولي والعمل المتعدد الأطراف، مما كان له تداعيات خطيرة على الأمن والسلام والاستقرار في العالم، وإضعاف دور الأمم المتحدة وهيبتها وسلطتها وتهميش وكالاتها.
ومن العوامل الأساسية الأخرى في زعزعة نظام الحوكمة العالمية والقناعة بشرعيته تمركز التحكم في هيئاته بيد الدول الكبرى وممثليها، على حساب تمثيل الدول النامية ومشاركتها في صناعة القرار الدولي. فأصبح النظام في حالة افتراق وعدم تناغم وانسجام مع واقع عالم اليوم الجيوسياسي والاقتصادي والتحولات التي شهدها نحو القطبية المتعددة، مع التنامي المتسارع لقوة الصين والهند والبرازيل الاقتصادية والتكنولوجية وتأثيرها في الشؤون الدولية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ومع تنامي تأثير الأحزاب والتيارات اليمينية والقومية المتطرفة وصعود العديد منها إلى السلطة في عدد من البلدان الأوروبية وفي بلدان أمريكا الجنوبية، وتولي دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة، ازداد نظام الحوكمة العالمية هشاشة وضعفًا، ما انعكس في ازدياد بؤر الحروب والنزاعات والتوتر.
ونجد في بنود مبادرة الحوكمة العالمية تأكيدًا للقواعد والمبادئ التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة، والتي جرى التجاوز عليها أو التخلي عنها، كالمساواة والسيادة بين الدول والالتزام بالقانون الدولي ونبذ الازدواجية في المعايير والتطبيق الانتقائي لقواعد النظام الدولي ومواد القانون الدولي. كما جاءت بنود المبادرة منسجمة ومعززة لأهداف «ميثاق المستقبل» الذي تم إقراره في قمة المستقبل التي انعقدت في أيلول عام 2024.
وإذ تشدد فلسفة المبادرة على ضرورة المحافظة على مكانة الأمم المتحدة وتعزيز هيبتها وسلطتها وضمان دورها غير القابل للتعويض في الحوكمة الدولية، فإن المبادرة تدعو إلى العمل من أجل تعزيز الديمقراطية في الحوكمة العالمية بتوسيع مشاركة الدول النامية في هيئات وأطر المنظمات العالمية، كعضوية مجلس الأمن على سبيل المثال، وعدم السماح بأن تفرض بعض الدول رؤيتها وقواعد عملها على الآخرين وعلى عمل مؤسسات نظام الحوكمة العالمية كما هو الحال حاليًا.
ولا تكتفي جمهورية الصين الشعبية، من خلال الرئيس شي جينبينغ، بإعلان التزامها بالمبادئ والقواعد والآليات التي تضمنتها المبادرة، وإنما تعمل على تجسيدها عمليًا وتطبيقها في علاقاتها مع شركائها الدول في منظمة شنغهاي للتعاون، وقدمت عدة مشاريع مشتركة تنسجم مع أهداف المبادرة، وحثّت الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون على تقديم المثل في تطبيق المبادرة.
إن اشتداد حدة الصراعات في عالمنا اليوم وتعمّق الاستقطاب السياسي، والتي تعكس في جوهرها تناقضات النظام الرأسمالي على الصعيد العالمي وفي مراكزه المختلفة، والتنافس المحموم على السيطرة والاستحواذ على الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة وعلى التكنولوجيا المتقدمة والأسواق، والتي وصلت حد شنّ الحرب التجارية وإطلاق العنان للتسلح المفرط، لا يشجع على التوقع بأن تلقى هذه المبادرة الاستجابة المرجوة من هذه الدول، خلافًا لمعظم دول العالم الأخرى. لذا تكتسب أهمية خاصة الدعوة لأن تلعب دول منظمة شنغهاي للتعاون دورًا نشيطًا ورياديًا في تطبيق المبادرة وتقديم أنموذج جاذب لدول العالم.
رائد فهمي : قراءة في مبادرة الرئيس الصيني للحوكمة العالمية
- التفاصيل
- رائد فهمي
- من الحزب
- 545