ملفات سياسية، وأخرى حزبية، بظل أزمة هي الأطول في عراق ما بعد 2003 وعلى الرغم من الحديث عن تجاوزها بتكليف رئيس جديدا للحكومة، لكن حلها لا يبدو متعلقا سواء كان بحكومة جديدة، أو بأخرى، ولاسيما في وقت تدعو فيه الأطراف السياسية لإجراء انتخابات جديدة على أمل الخروج منها بشكل نهائي، بخاصة وأنه لم يمض سوى عام على آخر انتخابات كانت قد طالب بها الحراك الاحتجاجي الذي اجتاح البلاد عام 2019، وهو ما لم يضف جديدا سوى العودة مجددا إلى دائرة المحاصصة التي أنهكت البلاد بالفساد وسوء الإدارة.

 تلك كلها؛ قضايا ناقشها “الحل نت” في حوار خاص مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، أحد معاصري حقبة معارضي صدام حسين الذين نجحوا في إقناع المجتمع الدولي على الإطاحة به، وفشلوا في تقديم بديلا ناجحا حل مكانه، ليمضي العراق إلى هوة سحيقة، حيث لم تنجح الحكومات المتعاقبة خلال 19 عاما في إنقاذ المشهد المأساوي، وهو ما سنحاول معرفة أسبابه معه.

البداية من الأزمة السياسية التي عاشها العراق لأكثر من عام بسبب اختلاف القوى السياسية حول تشكيل الحكومة بعد انتخابات كان قد طالب بها محتجو ما بات يعرف بـ “ثورة تشرين”، وفيما إذا كان المشهد يمثل إرهاصات ما قبل عقد سياسي جديد ربما لن يكون للأحزاب التقليدية مكان فيه، وضمنهم الحزب الشيوعي.

حول ذلك يقول رائد فهمي إن، السؤال ينطلق من مقدمات سليمة في توصيف أوضاع البلد التي تؤكد ضرورة التغيير، وكانت انتفاضة تشرين الباسلة تعبيرا عن الرفض الشعبي المتصاعد لمنظومة حكم المحاصصة الحاضنة للفساد والمسؤولة عن الفشل المريع في تلبية الحاجات والخدمات الأساسية للمواطنين وفي مفاقمة الفقر والبطالة وتعمق هوة الفجوة في الدخل والثروة وإدخال العراق في دوامة أزمات متزايدة وفي إضعاف الدولة وهيبتها وفي قدرتها على حماية السيادة الوطنية

 لكن السؤال وباعتقاده، يستند ضمنيا إلى قراءة وتحليل غير دقيقين لطبيعة الأزمة وعناصر وملامح التغيير الكفيل بوضع البلد على طريق التعافي، وبالتالي في تشخيص القوى والجهات السياسية التي سينحسر أو تزاح من المشهد السياسي في حال وصول الحراك السياسي والمجتمعي المطالب بالتغيير الشامل إلى أهدافه.

يؤكد فهمي أن العملية السياسية ووليدها منظومة الحكم الماسكة بزمام الأمور طوال الدورات السابقة لمجلس النواب وللحكومات المتعاقبة، ومؤسسات الدولة والسلطة المنبثقة عنها تعاني من أزمة عميقة ذات طابع بنيوي، سببها الرئيس نهج المحاصصة الطائفية والأثنية، التي أثبتت تجربة السنوات الماضية بأن العملية السياسية القائمة على تقاسم وتوزيع السلطة وبناء الدولة وفق معايير وأُسس طائفية واثنية وما أفرزته عمليا من هيمنة أحزاب وقوى الطائفية السياسية على جميع السلطات، قد وصلت إلى طريق مسدود، وما الانسداد السياسي الذي يشل إلى حد بعيد عمل الدولة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية إلا انعكاسا لهذه الأزمة الأعمق.

لذلك، أن الهدف الأساسي والشرط الضروري للتغيير المنشود نحو إصلاح أوضاع البلد هو الخلاص من نهج المحاصصة، والانتقال بالعراق إلى دولة المواطنة القادرة على تحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، واستنادا إلى هذا التوصيف والتحليل نبّه الحزب الشيوعي مبكرا جدا إلى محاذير المضي في نهج المحاصصة وأشر مخاطره وجر العملية السياسية إلى طريق محفوف بالأزمات، وقد لعب الحزب دورا أساسيا في جميع حركات الاحتجاج التي انطلقت منذ عام 2011 وما بعدها حتى وقتنا الراهن، بالتالي لا خشية على دوره ومكانته في أي مشهد سياسي او “عقد سياسي أو اجتماعي” جديد ينبثق مستقبلا.   

الانتخابات من دون حصر السلاح المنفلت لن تصلح المشهد

أما فيما يخص إجراء انتخابات جديدة لتجاوز الأزمة، يوضح فهمي أن الانتخابات بحد ذاتها من دون أن تتوافر فيها شروط أساسية وتصاحبها إجراءات أخرى مهمة تضمن بمجموعها انتخابات حرة نزيهة، لن تكون حلا وتعيد انتاج الأوضاع المسببة للأزمة كما هو الحال للانتخابات المبكرة الأخيرة ونتاجها الانسدادات السياسية.

ويشير إلى أنه من الضروري أن تجرى الانتخابات وفق منظومة انتخابية سليمة تضمن عدالتها ونزاهتها وتحظى بثقة الناخبين، ويشمل ذلك قانون الانتخابات ونظام توزيع المقاعد ومفوضية مستقلة ودور إشرافي ورقابي للأمم المتحدة، وآليات انتخابية تمنع التزوير والتلاعب بالعملية الانتخابية، مع التأكيد على أهمية تطبيق قانون الأحزاب  الذي ينص على إبعاد الأحزاب ذات الأذرع المسلحة عن المشاركة، فضلا عن المشاركة الوطنية الواسعة في تلك التعديلات، وأن لا تنحصر بمجلس النواب، وإلا ستتم إعادة ذات التجارب السابقة التي خضعت لإرادات القوى المتنفذة في المجلس.

إضافة إلى وضع سقوف لمبالغ الإنفاق على الحملات الانتخابية من أجل التضييق على استخدام المال السياسي كما يجري في جميع الانتخابات السابقة، وضبط السلاح المنفلت، وهو ما لم يتحقق في الانتخابات السابقة حيث تم اغتيال عدد من الناشطين وملاحقتهم وارغامهم على مغادرة مناطقهم، على حد قوله.

بخصوص مشاركة الحزب الشيوعي العراقي في الانتخابات القادمة في حال اتفق عليها، لاسيما وأن الحزب كان قد امتنع عن المشاركة في الانتخابات السابقة، وما المتغيرات التي طرأت والتي قد تدفعه لتغيير موقفه، يوضح سكرتير الحزب بالقول، إن حزبنا قاطع الانتخابات السابقة بعد إجراء استفتاء داخلي شمل جميع أعضاء الحزب، وكانت المقاطعة تخص الانتخابات السابقة ولا تعكس موقفا مناهضا للانتخابات من قبل الحزب، فعلى العكس الحزب يشدد على الانتخابات باعتبارها إحدى ركائز الديمقراطية الأساسية، في وقت يعمل من أجل توفير مقومات وآليات وشروط الانتخابات الحرة النزيهة.

ويضيف أن المقاطعة جاءت انطلاقا من قراءة للظروف الممهدة للانتخابات المبكرة السابقة والتي كانت تؤشر بأن الانتخابات المبكرة سوف لن تحقق هدفها الرئيس لتكون رافعة للتغيير الذي يطالب به الشعب ولأجله استشهد منتفضو تشرين الابطال، واعتقد أن نتائجها والتطورات اللاحقة أكدت توقعاتنا، فالأوضاع زادت تعقيدا.

فهمي تابع أيضا حول ما يعتقده البعض بأن انسحاب الحزب من الانتخابات السابقة، ما هو إلا محاولة للتغطية على “فشل” تجربة الشيوعي طيلة السنوات الماضية بحجة عدم توفر الأجواء المناسبة، في حين أنها لم تختلف عن كل تلك التي شارك فيها سابقا، قائلا، إنه بالإضافة لما أشرته في جوابي حول المقاطعة، فأننا كحزب لم نضع مطلقا ضمان حصولنا على مقاعد شرطا لمشاركتنا، أو إن احراز المقاعد هدف أساسي للمشاركة. ويلفت إلى أن، الحملات الانتخابية توفر الفرصة لعرض أفكارنا ومشاريعنا السياسية ولتوثيق الصلة بجمهور الناخبين، والدليل على ذلك أن حزبنا شارك في جميع الانتخابات ما عدا الأخيرة، على الرغم من عدم حصوله على مقاعد في اثنين منها.

على جانب آخر، يعلق فهمي – مواليد بغداد ١٩٥٠، الذي شغل منصب وزير العلوم والتكنولوجيا في العام 2006- 2010، على دور رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية مصطفى الكاظمي في الأزمة السياسية، بأنه تولى رئاسة مجلس الوزراء كمرشح تسوية للأحزاب السياسية الممثلة “للمكون الشيعي” بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي، بتأثير الضغط الشعبي الكبير الذي عبرت عنه ومارسته انتفاضة تشرين. ووضعت لحكومة السيد الكاظمي مهام محددة تتمثل أساسا في التحضير وتنظيم الانتخابات المبكرة.

الكاظمي ودوره في تحجيم الميليشيات وتفكيك احتجاجات "تشرين"

سكرتير الحزب “الشيوعي” يرى أن الكاظمي قد تعرض لضغوط من قبل بعض القوى السياسية التي كانت قد قبلت على مضض ترشيحه للمنصب، وهو ما أعاق تنفيذ بعض خطواته وإجراءاته، ولذا فإن دور الكاظمي وحكومته، بحسب فهمي، محكوم لحد بعيد بالحدود التي وضعتها القوى السياسية النافذة التي رشحته، وبالمهام التي فرضتها ظروف ما بعد الانتفاضة والتوازنات السياسية الجديدة التي أفرزتها، يبين سكرتير الحزب الشيوعي، ويشير إلى أنه كان واضحا من مواقف وسلوك العديد من القوى السياسية التي وافقت على ترشيحه بأنها قبلت ذلك على مضض ولعبت دورا أساسيا في الضغط عليه وإعاقة تنفيذ بعض خطواته وإجراءاته.

بالتالي قد انعكس كل ذلك في التردد وعدم الحسم الذي اتسمت به بعض مواقفه وأعماله وردود أفعاله، وفي تنفيذ بعض الأهداف والتوجهات التي نادى بها، سواء في محاربة كبار الفاسدين والفساد أو في تفكيك والقضاء على منظوماته وتحريك الملفات الكبرى، وإن تحققت بعض الخطوات في هذا المجال، وفي الحد من دور الميليشيات والجماعات المسلحة، كما لعبت حكومته وأجهزتها دورا أساسيا في وضع نهاية للاعتصامات في ساحات الاحتجاج وفي تفكيكها وعدم تقديم الحماية الكافية لنشطائها.

دور الكاظمي في الأزمة، ومن وجهة نظر فهمي، يتمثل في التعامل مع التداعيات والآثار الناجمة عن الصراع السياسي وفي انعكاساتها على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي وعلى حياة الناس عموما، مؤكدا أن المسؤولين الأساسيين عن الأزمة التي عاشها العراق هي القوى السياسية المتنازعة والتي أدى صراعها إلى تعطيل وشل السلطة التشريعية وخلق أوضاعا محتقنه وشديدة التوتر في البلاد، ولا سيما من قبل القوى الأحزاب المتمسكة بإعادة إنتاج حكومة المحاصصة.

وبعد نحو أربعة أعوام من تجربة الشيوعي العراقي في التحالف مع “التيار الصدري” الشيعي الإسلامي، عاد سكرتير الحزب ليؤكد أن دخولهم في التحالف لم يتم من دون أسباب ومقومات ومقدمات مهدت له، وتم على أساس المشتركات التي تبلورت أثناء مشاركة التيار الصدري للقوى المدنية ومع الحزب الشيوعي في الحراك الاحتجاجي والمظاهرات التي خرجت أسبوعيا خلال في الأعوام 2015 و2016 و2017، مضيفا أن الحزب استنتج من تجربة تحالف سائرون الذي ضم الشيوعي، وحزب استقامة الذي مثل التيار الصدري، وأربعة أحزاب أخرى ذات طابع مدني، بأنها تجربة مهمة في تاريخ العراق السياسي، جديرة بالتوقف الموضوعي عند جميع جوانبها التي مثلت لقاء نوعيا بين أطراف مدنية وأخرى اسلامية التوجه.

وحول ذلك أضاف أيضا، أن أحد أهم دروس تجربة تحالف سائرون أن هناك قضايا معينة يمكن التنسيق والتعاون بشأنها مع قوى إسلامية وطنية، من دون دفع ذلك إلى أُطر تحالفية لأنها تحتاج إلى مقاربات أخرى لها علاقة بمنهج الأداء السياسي وطبيعة الأطراف ونمط إدارتها.

أما فيما يخص أن تحالف الشيوعي مع “التيار الصدري” قد أسس لطبقة مدنية مدجنة وضعيفة، طالما تحتاج إلى ركيزة تقليدية، يؤكد رائد فهمي أنه لا أساس ولا صحة مطلقا لمثل هذا الاستنتاج، ويكفي ما حدث خلال الأعوام الثلاثة الماضية من تطورات لدحض هذه الطروحات. فقد حظيت انتفاضة تشرين بدعم ومشاركة فاعلة للقوى والأحزاب المدنية، وبشكل خاص للحزب الشيوعي، وكانت استقالة نوابه ومشاركة الشيوعيين وأنصارهم في جميع اعتصامات سوح الاحتجاج في جميع المحافظات التي شهدت حراكا احتجاجيا واعتصامات.

رائد فهمي ونظرته للأحزاب الناشئة

وفي سياق منفصل، يرد فهمي على سؤال حول تجربة القوى الناشئة التي ولدت من رحم الاحتجاجات، بالقول، إننا نعتبر انتقال بعض قوى الاحتجاج إلى العمل السياسي وتشكيل أحزاب جديدة تطورا إيجابيا وطبيعيا يساهم في إغناء الحياة السياسية في البلاد، كما أن ظهور الأحزاب الناشئة يعكس نضجا متزايدا في وعي وفكر وتنظيم قوى وحركات الاحتجاج الشبابية ونشطائها، مشيرا إلى أن تجربة الانتخابات الأخيرة قد عكست سعة القاعدة الاجتماعية لبعض الأحزاب الناشئة والمرشحين المنبثقين من رحم الحراك الاحتجاجي وانتفاضة تشرين الباسلة.

غير أن سكرتير الحزب الشيوعي، يرى أنه بالنظر لحداثة هذه الأحزاب والطبيعة الشابة لقياداتها ولقصر تجربتهم السياسية، فإنها لا تزال في حالة نمو وصيرورة لعدم اكتمال بنائها الفكري والسياسي والتنظيمي، إذ ما يزال بعضها يتأرجح بين الخطاب والمواقف والسلوكيات الاحتجاجية وبين دورها وعملها كأحزاب سياسية، مؤكدا أنه في الوقت ذاته هناك استعداد ورغبة قوية لدى كوادرها في اكتساب الخبرة والمعرفة.

وبشأن نمو وتطور هذه الأحزاب، يعتقد فهمي أنه يعتمد إلى حد كبير على نجاحها في التخلص من بعض الظواهر والممارسات والسلوكيات السلبية التي قد تسلب أفقها، كضعف آليات إدارة صراعاتها الداخلية والفردانية وحب الزعامة، وبعض المواقف والممارسات الاقصائية إزاء المختلفين معهم.

فهمي، وبشأن عدم إعارة المجتمع الدولي الاهتمام المطلوب للقوى السياسية والاجتماعية الصاعدة، واستمراره في التعامل مع القوى التقليدية التي سبق وعبر العراقيون بمناسبة عدة عن رفضهم لها، يوضح أنه، لا ينبغي أن يغيب عنا وعن قراءتنا للوضع في العراق أن العملية السياسية القائمة على بناء الدولة وتوزيع سلطاتها وتقاسمها على أسس طائفية وقومية، ورغم ما كشفته تجربة حكومات المحاصصة من فشل وفساد وعدم استقرار، وإقرار الأمم المتحدة وتقارير المنظمات الدولية بذلك، فإنها لا تزال متمسكة بذات الأسس التي قامت عليها العملية السياسية؛ والتي أوصلتها إلى طريق مسدود وتأمل حث القوى التي تشكل منظومة الحكم على تجاوز وحل خلافاتها وصراعاتها وإصلاح أوضاعها عبر الحوار.

ويزيد بالقول إن نظام حكم المحاصصة يعاني من أزمة بنيوية تقتضي الخروج منها التغيير لا الإجراءات والإصلاحات الترقيعية، ولكن القوى الدولية تنطلق من مصالحها الآنية والاستراتيجية والتي يجدون تلبيتها في ظل الأوضاع الراهنة عراقيا وإقليميا الإبقاء على البناء الحالي للدولة والحكم مع محاولة ممارسة ضغوط من أجل إجراء إصلاحات وتغييرات محدودة.

إن القوى الدولية تحرص على الحفاظ على مصالحها وتنميتها من خلال علاقاتها مع القوى السياسية النافذة، وطالما موازين القوى على أرض الواقع وفي مواقع السلطة والقرار ما تزال لصالح المنظومة الحاكمة، وإن أصبحت أقل تماسكا بفعل عوامل عدة، إلاّ أنها ما تزال تقبض على مفاتيح السلطة والسيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية، إضافة إلى امتلاكها أذرعا عسكرية، في حين أن القوى “الصاعدة” أي القوى الداعية إلى التغيير لم تبلغ حد قلب موازين القوى بشكل حاسم لصالحها، كما أنها ذات بنية تعددية تواجه صعوبة في إدارة وضبط اختلافاتها وتوحيد عملها ومواقفها وهو ما يضعف من تأثيرها، بحسب قول فهمي.

في المطاف الأخير، لا يتوقع سكرتير الحزب الشيوعي، من القوى الخارجية، الدولية والإقليمية، أن تدعم قوى وجهات لا تضمن مصالحها، لذلك فإنها تبحث عن البديل “للطبقة الحاكمة” وفقا لمقاساتها ولها دالة وتأثير عليه، وليس بديلا يستمد قوته وشرعيته من الدعم الشعبي وله مشروع وطني وديمقراطي يهدف إلى بناء دولة قوية تقوم على مبدأ المواطنة التي تتمكن من الحفاظ على السيادة الوطنية واستقلالية القرار العراقي وتنمية الاقتصاد الوطني.

وتعليقا على أن ما تشهده الساحة السياسية في العراق من متغيرات وانقسامات ما بين القوى السياسية، ومحاولات فرض إرادات وسط استمرار معاناة العراقيين، إلى جانب المتغيرات الدولية والإقليمية، التي قد تدفع كلها باتجاه عراق كونفدرالي، يرى سكرتير الحزب الشيوعي أن العراق في صيغته الحالية الفدرالية الاتحادية هي الشكل الأفضل للدولة العراقية في المرحلة الراهنة.

فهمي واصل حديثه، بالإجابة عن ما يمكن أن تمثله الكلمة شديدة اللهجة من قبل البعثة الأممية بشأن العراق في مجلس الأمن الدولي منذ أيام قليلة، بالقول إنه بدءا نرى في المراهنة على العامل الخارجي بإحداث التغيير في العراق خطأ من الناحيتين المبدئية والواقعية، بخاصة وأن تجربة العراق وغيرها من بلدان المنطقة كليبيا وسوريا، تؤكد أن التدخلات الخارجية لا تأتي بالأمن والاستقرار والاستقلال والوحدة الوطنية والسيادة الفعلية كما لا تبني دولة ومؤسسات وديمقراطية حقة.

المجتمع الدولي ودوره في التغيير

إما من الناحية الواقعية، يشير إلى أنه من المستبعد جدا أن تقدم الدول الكبرى على إعادة فرض وصايتها على العراق لأكثر من سبب، أهمها إن مثل هذه الخطوة سوف لا تكون موضع إجماع دولي، كما أن العراق لم يعد يحتل موقعا متقدما في أولويات السياسة الأميركية، وبدرجة أقل للاتحاد الأوروبي، فضلا عن أن الوصاية تترتب عليها زيادة في التواجد العسكري والمدني في المنطقة وما يقتضيه من ارتفاع في الأنفاق، وهي توجهات تلقى معارضة شديدة من قبل الرأي العام في هذه البلدان.

وتقييما لما يجري في العملية السياسية العراقية في الوقت الحالي، مقارنة بما شهدته في العام 2010 وما قبلها، بين سكرتير الحزب الشيوعي أنه لقد شخّص حزبنا مبكرا، ومنذ بدايات انطلاق العملية السياسية، الخلل الرئيسي الكامن في اعتماد بنائها على أسس ومعايير التركيبة الطائفية والأثنية للشعب العراقي وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتوزيع سلطاتها على وفق الانتماءات والهويات الدينية والطائفية والاثنية، وانسجاما مع هذه الرؤية والمنهج جرى تبني مبدأ الديمقراطية التوافقية وتقاسم السلطات ما بين ممثلي المكونات الدينية والمذهبية والقومية، إذ احتكرت أحزاب الطائفية السياسية هذا التمثيل، وتشكلت الحكومات المتعاقبة وفق نهج المحاصصة والتي أثبتت مسيرة التسعة عشر عاما فشلها الذريع في الأداء وأصبحت منتجة للأزمات المتزايدة الحدة.

ويرى أن انتفاضة تشرين 2019 كانت إعلانا شعبيا عن رفض وقطيعة مع نهج المحاصصة ومنظومة حكمها ووصول العملية السياسية إلى طريق مسدود، ما يطرح ضرورة التغيير إلى الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على المواطنة والهوية الوطنية الجامعة التي تتشكل كمظلة للهويات الفرعية وليس كبديل عنها أو على حساب بعض منها، مؤكدا أن الحزب الشيوعي قد طرح قبل عام 2010 فكرة عقد مؤتمر وطني لمراجعة وتصويب مسار العملية السياسية، ولكن القوى المتنفذة لم تستجب.

ما بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، كان يفترض أن الحزب الشيوعي وقتها جبهة مستعدة لشغل موقعها، غير أن الحزب وبخلاف كل القوى المعارضة لم يظهر له أثر بحجم الآخرين.

يعود ذلك بحسب فهمي إلى جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية، فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي شهد العراق على الصعد السياسية والثقافية والبنية الاجتماعية والاقتصادية تغييرات وتحولات عميقة جرّاء السياسات القمعية والاستبدادية التي استهدفت الشيوعيين والديمقراطيين، ومجمل أحزاب وقوى المعارضة، وصادرت الحريات ولاسيما حرية التعبير والتنظيم وأفرغت المنظمات المدنية من نقابات وجمعيات وحتى الحزبية من غير التابعة لحزب البعث الحاكم، من مضامينها ومن ممارسة نشاطاتها باستقلالية وحولتها إلى أطر وتنظيمات مرتبطة بالأجهزة الأمنية ووسائل مراقبة وضبط للمجتمع بفئاته وشرائحه المختلفة وكأدوات لفرض وترسيخ النظام الشمولي، يقول سكرتير الحزب في معرض إجابته.

ويضيف: كان المتضرر الأكبر هو الأطر والمنابر والفضاءات الاجتماعية والثقافية لنشر وإشاعة الأفكار والثقافة المدنية بمختلف اتجاهاتها التي انعدمت عمليا، فيما ظلت المنابر والمؤسسات الدينية حاضرة، وإن خضعت للقيود والمراقبة والرقابة، ولكنها كانت تتمتع بالحرية في ممارسة نشاطها طالما كان بعيدا عن السياسة المباشرة، وأصبحت عمليا الفضاء الوحيد الذي يتمتع بحرية نسبية في التعبير، وكان لذلك تأثير كبير على الوعي والثقافة العامة في المجتمع نتيجة التغييب القسري لوسائل بنى وحوامل الفكر والثقافة المدنية والديمقراطية، ولا سيما التقدمية واليسارية.

فهمي زاد بالقول، إنه بعد ذلك جاءت الحملة الإيمانية أواسط تسعينيات القرن الماضي لتفرض مزيدا من التضييق على الفكر والوعي الاجتماعي المدني، وتسخير المؤسسات التعليمية والثقافية لفرض الانغلاق الثقافي وسد منافذ وفضاءات ومجالات تعبير الفكر الآخر المختلف وهذا من جهة، والحروب ونتائجها الكارثية على مستوى تفكك نسيج الدولة وانحسار الدور التنظيمي والاجتماعي وإلى ما ذلك من تبعات على مستوى نهايات التعليم والثقافة والأنشطة الانتاجية من جهة أخرى.

بالمحصلة، كانت حصيلة هذه التطورات التقلص الشديد للقاعدة الاجتماعية للتنظيمات المدنية الديمقراطية واليسارية، وللحزب الشيوعي، كما أدت سياسات الحكم الدكتاتوري الشمولي إلى رسم صورة مشوهة وملفقة عن الحزب الشيوعي ودوره في النضال الوطني والاجتماعي – الطبقي والثقافي وممارسة القمع الشديد لأي نشاط ذي صلة بالحزب ما أدى إلى نشوء جيلين من شعبنا لا يعرفون عن الحزب الشيوعي سوى السردية المزيفة والصورة السلبية التي تروجها وسائل إعلام السلطة ومناهجها التعليمية.

تجربة القوميين وانعكاسها على الحزب الشيوعي العراقي

من جانب آخر، يعتقد سكرتير الحزب “الشيوعي” أن فشل تجربة حكم الأحزاب القومية، ومنها حكم حزب البعث في العراق، والتي رفعت الشعارات التقدمية والاشتراكية لتحسين صورتها انعكس سلبيا على الحزب والفكر الاشتراكي، فضلا عن ما شهده العالم منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، من انحسار تأثير الأيديولوجيات والأحزاب الحاملة لها مقابل تنامي دور الحركات والتنظيمات القائمة على تسييس الهويات، ولاسيما الدينية والطائفية كأحزاب وحركات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي.

ويذهب فهمي إلى أبعد من ذلك في سرد الأسباب، مشيرا إلى أن انهيار تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية تداعيات وآثار سلبية على الأحزاب الشيوعية وفكرها ومشروعها في العالم أجمع بدرجات مختلفة، وخلق ذلك صعوبات جديدة امام الحزب الشيوعي العراقي، وقد أوجدت هذه العوامل مجتمعة ظروفا وتحديات كبيرة أمام الحزب بعد عام 2003 عندما شرع بإعادة بناء تنظيماته في وسط وجنوب العراق التي كان يعمل فيها بسرية شديدة وبأشكال تنظيمية تعتمد السرية الصارمة وبكوادر محدودة، لافتا إلى أنه وخلافا لجميع أحزاب المعارضة الأخرى، لم يكن للشيوعي أي دعم خارجي غير ما يوفره بالدرجة الأساسية أعضاؤه وأصدقاؤه وأنصاره.

أخيرا، يعلق سكرتير الحزب الشيوعي حول إذا ما كان الوقت قد حان لفسح المجال للعمل السياسي بالنسبة له وأبناء جيله، بالقول إنه من أبرز مظاهر الحزب الشيوعي ارتفاع نسبة الشباب الذي تتراوح أعمارهم ما بين 25 و45 سنة في هيئاته القيادية، والتي بلغت أكثر من 40 بالمئة من اللجنة المركزية و55 بالمئة من المكتب السياسي، أما فيما يخص موقع سكرتير الحزب، فينص النظام الداخلي للحزب بأنه لا يحق التمديد لمن يشغله لأكثر من دورتين؛ أي لمدة ثمان سنوات. “بالنسبة لي فإني انتخبت لموقع سكرتارية الحزب لدورة ثانية وأخيرة”، مؤكدا أن التجديد بات متضمنا في آليات عمل الحزب الداخلية وينعكس في الدور المتزايد الذي يلعبه الشباب في الهيئات القيادية للحزب.

*موقع الحل انت 20 تشرين الأول 2022

عرض مقالات: