عندما تفشل المحاولات السلمية للشعوب في اصلاح انظمتها السياسية المناهضة لها ولتطلعاتها المشروعة، تصبح الثورة حاجة موضوعية، تتصدر المشهد السياسي كتعبير عن اكتناز التجارب السابقة، وتراكمها المفضي ـ لا محالة ـ الى التغيير النوعي في طبيعتها واساليبها، وطريقة معالجتها للأزمات القائمة. وهذا ما فعلته ثورة 14 تموز 1958، على خلفية أوضاع سياسية واقتصادية – اجتماعية غاية في التخلف والرجعية والولاء للأجنبي، على حساب المصلحة الوطنية للشعب العراقي.
كانت ثروات البلاد تنهب جهاراً نهاراً من قبل المستعمرين الإنكليز وحكام العراق الاوفياء لأسيادهم، بحيث باتت رايات الثالوث الكارثي (الجوع والجهل والمرض)، ترفرف في سماء العراق من أقصاه الى أقصاه، فلا صناعة ولا زراعة ولا خدمات تليق ببني البشر. التعليم كان متاحاً لنخبة محدودة، فيما الغالبية محرومه منه، وعدد المدارس محدود جداً، والامية كانت لصيقة بهم. الطبقة العاملة الوليدة تعاني الأمرّين، سواء على صعيد الأجور ام الحقوق النقابية، وظروف العمل ونسبة البطالة اكثر من عالية.
اما في الريف فقد حوّل المستعمرون شيوخ العشائر الى اقطاعيين، ومنحوهم الاراضي التي كانت سكناً جماعياً للعشيرة، الامر الذي أدى الى هضم مصالح الفلاحين، وحرمانهم من ابسط حقوقهم. وبلغ التفاوت الطبقي، لا سيما في الريف، حداً لا مثيل له. كما كانت الغالبية العظمى من أبناء الشعب العراقي ترسف في غياهب الجهل والخرافة والأفكار المتخلفة.
وفي الوقت ذاته كانت شركات النفط الاحتكارية، وخاصة البريطانية، تهيمن بصورة كاملة على اقتصاد البلد، ولا تترك للعراقيين سوى الفتات.
وعلى الصعيد السياسي تعامل ممثلو الائتلاف الطبقي الرجعي الحاكم مع الاحتجاجات الجماهيرية على هذا الواقع المزري بقوة الحديد والنار، خصوصاً في زمن الطاغية، نوري السعيد.. وسقط العشرات من الشهداء، وسجن وعذب وشرد الآلاف من خيرة بنات وأبناء الشعب العراقي، وتحولت الانتخابات النيابية الى مسرحية كوميدية، كما أعلنت حالة الطوارئ لمرات كثيرة، لتمعن السلطات الحاكمة بمصادرة الحريات الشخصية والعامة، وبتوجيهات مباشرة من المستشارين الإنكليز، الذين لم تكن تخلو وزارة او مؤسسة عراقية منهم، وبموازاة جيوشهم الجرارة في معسكر الشعيبة والحبانية.
وكانت السياسة الخارجية للحكومة العراقية آنذاك، معادية للدول العربية، وغارقة في الاحلاف العسكرية المعادية لشعوب المنطقة، وخصوصاً حلف بغداد الاستعماري.
إنّ السياسات القمعية للنظام الملكي، ووحشيته التي تمثلت، من بين ممارسات بشعه أخرى، بتعليق أجساد المناضلين في الساحات، سدت منافذ أي تطور سلمي، وان التوجهات السياسية والاقتصادية – الاجتماعية، والتي لا يجمعها جامع بمصلحة الشعب العراقي وجماهيره الكادحة، تنفي أية إمكانية مهما كانت ضئيلة لعملية التغيير السلمي، كما كان يرغب العراقيون، وتنفي ايضاً اية إمكانية في تحول النظام الى الديمقراطية، كما يدعي بعض المتحذلقين، والمدافعين عن العهد المباد انطلاقاً من ردة فعلية على سياسات الأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على حكم العراق.
لقد اندلعت ثورة 14 تموز المجيدة، رداً على هذا الواقع المأساوي، وفي سبيل استعادة حقوق العراقيين في الحرية والكرامة والعيش الرغيد. وحققت الثورة إنجازات هائلة خلال عمرها القصير، الذي لم يتجاوز أربع سنوات ونصف السنة، ولذلك اغتيلت في 8 شباط 1963 على يد البعثيين وحلفائهم، بعد ان حجزوا مقاعدهم مبكراً في القطار الأمريكي، كما اعترف في حينها أمين سرهم، علي صالح السعدي.
واستمر مسلسل الانقلابات العسكرية، والأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، وكان مثالها الأكثر سوءاً نظام صدام حسين، ليحل محله نظام المحاصصة الطائفية – الاثنية وما جلبه للشعب العراقي من خراب ودمار شاملين، لأنه نظام ولاّد للأزمات بطبيعته، وهو خارج التاريخ من الناحيتين السياسية والفلسفية.
ان الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع والسلاح المنفلت ميليشياوياً وعشائرياً، ولدى عصابات الجريمة المنظمة، والنهب المنظم للمال العام وتزوير الانتخابات وتدني المستوى المعيشي لغالبية العراقيين، مقروناً بالانحدار السريع تحت خط الفقر، والبطالة، وغياب الخدمات، خاصة الكهرباء والماء والسكن والصحة والتعليم، وقتل المتظاهرين السلميين المطالبين باستعادة وطنهم من هيمنة الفاسدين والفاشلين، وغيرها الكثير، هي العناوين التي يركز عليها المنتفضون البواسل، الذين قدموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى، ليخطوا بدمائهم الزكية طريق النضال المفضي الى النصر طال الزمن أم قصر.
ولا شك في ان دروس ثورة تموز الوطنية تحفز هؤلاء الابطال على استعادة الوحدة الوطنية لجماهير الشعب العراقي، وعبور الطائفية والهويات الفرعية، باعتبار ذلك الشرط الذي لا غنى عنه لإحراز النصر، وإقامة النظام الديمقراطي الحقيقي والعدالة الاجتماعية، وسيكون الشيوعيون، كما هو ديدنهم دائماً وابداً، في الصفوف الأولى لإنجاز هذا الهدف النبيل.
عاشت الذكرى الثالثة والستون لثورة 14 تموز المجيدة.
عاش الشعب العراقي صانع الانتصارات.