شهدت بلادنا منذ الإطاحة بالنظام الدكتاتوري في التاسع من نيسان ٢٠٠٣، احداثا وتطورات مهمة تركت بصماتها على المشهد الداخلي بمختلف جوانبه: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها. 

والى جانب الفرح العارم برحيل أعتى دكتاتورية، اذاقت شعبنا الامرّين وورطته في حروب داخلية خارجية لا ناقة له فيها ولا جمل، ومارست قمعا دمويا سافرا وارتكبت الجرائم بحق مختلف أطياف أبناء شعبنا، لا ينسى احد الفشل في تحقيق ما تطلع اليه العراقيون بعد التغيير في 2003، من اقامة بديل مدني ديمقراطي حقيقي للنظام المقبور، يقطع الطريق على اي مسعى لاعادة بناء أي نظام شمولي استبدادي قمعي تحت اية ذريعة او واجهة.

ورغم مرور ١٨ عاما على ذلك الحدث الكبير في تاريخ العراق المعاصر، فان بلادنا تطحنها ازمة بنيوية شاملة ومفتوحة على شتى الاحتمالات. وان الازمة الراهنة ليست بمعزل عن طريقة التغيير التي تمت آنذاك عبر طريق الحرب والاحتلال، ولا هي بعيدة عن تركة النظام المباد الثقيلة والتي ما زالت آثارها قائمة الى يومنا هذا. كما لا يمكن عزل الازمة عن طبيعة المنظومة التي تولت الحكم والقرار بعد ٢٠٠٥، ومنهجها المعتمد على المحاصصة الطائفية والاثنية في إدارة شؤون البلاد، وفِي بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وتغليب الهويات الفرعية والمناطقية والعشائرية على المواطنة العراقية الجامعة، ولا عن مساعي مجاميع متنفذة لتسييس الدين وتوظيفه لخدمة مصالحها الخاصة والانانية. كذلك التدخلات الفظة الخارجية في شؤونه الداخلية، وما تعرض اليه وطننا من عنف وتخريب وموجات ارهابية دامية، في ظل تعمق الطابع الريعي والاستهلاكي للاقتصاد الوطني واعتماد السوق المفتوحة، وغياب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة لتحقيق تنمية متوازنة مستدامة، بجانب تفشي الفساد في الدولة والمجتمع وانفلات السلاح، وتفاقم أحوال المواطنين الاقتصادية والمعيشية، وتزايد نسب ومعدلات الفقر والجوع والمرض والبطالة . 

 وما زال الصراع محتدما بين مختلف الأطراف والجهات والكتل السياسية على خيارات المستقبل، وعلى شكل الدولة وماهيتها وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي- الاجتماعي المراد بناؤه. ومن جانب آخر يتسم اداء الدولة ومؤسساتها بالشلل والعجز عن تلبية حاجات الناس، فيما تتفاقم الازمة المالية الاقتصادية ويشتد التوتر الاجتماعي وتتغول المليشيات المسلحة، ويبرز جليا الفشل في توفير الخدمات، والتدهور على المستوى المعيشي لفئات وشرائح اجتماعية واسعة، خاصة من العمال والفلاحين وعامة الكادحين وذوي الدخل المحدود، بل حتى من الفئات الوسطى. ونشهد بجانب ذلك فرزا اجتماعيا وطبقيا متواترا، وتنامي فئات وشرائح طفيلية وبيروقراطية وكمبرودارية معرقلة لاية عملية اصلاح جدي، فضلا عن اي تغيير شامل، كونه يهدد مصالحها وامتيازاتها.

وقد ولدت اوضاع البلد المأزومة سخطا وتذمرا وحراكا واسعا، تجسد بمجموعها رفض جماهير وفئات اجتماعية متنوعة للحالة الراهنة الثقيلة، وسعيهخا الى كسر احتكار السلطة، والضغط في اتجاه تحقيق التغيير الذي غدا مطلبا جماهيريا ملحا، بعد فشل القوى المتنفذة في إيجاد حلول ومخارج، وبعد اخفاق منهجها ونمط تفكيرها.

 ان التغيير المنشود لابد ان يفضي الى فتح فضاءات جديدة، وان تحقيقه يتطلب تغيير موازين القوى لصالح اصطفاف مدني ديمقراطي واسع، ونشوء كتلة وطنية مؤثرة وفاعلة، تقود البلد الى شاطىء الامان والاستقرار، وتتجه به صوب اقامة الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية على قاعدة العدالة الاجتماعية، دولة المواطنة والمؤسسات والقانون كاملة السيادة، التي تمتلك قرارها الوطني المستقل وتصفي تركة النظام المقبور والاحتلال، وتهيء مستلزمات انهاء الوجود العسكري الأجنبي في بلادنا، وبناء القوات المسلحة على أسس المواطنة والعقيدة الوطنية والكفاءة بعيدا عن الولاءات الفرعية والمحاصصة والمحسوبية والمنسوبية.

ان ظروف بلدنا المتسمة بالمزيد من التعقيد والتشابك والتدهور، تتطلب المزيد من التلاقي والتفاعل والتلاحم بين قوى التغيير، القوى المدنية والديمقراطية وقوى انتفاضة تشرين، لاحداث اختراق في الوضع الراهن واسقاط منظومة المحاصصة والفساد، ووضع البلد على طريق يرى المواطن أخيرا ضوءا في نهايته، بما يحقق تطلعاته الى وطن يعمه الأمان والسلام ويرفل شعبه بالحياة الكريمة المرفهة.