يعد صدور قانون اعادة تأسيس شركة النفط الوطنية حدثاً ايجابياً بذاته، وخطوة في الاتجاه الصحيح، اذا ما استوعب المبررات الحقيقية لتشكيلها وضرورة ارساء بنائها على اسس اقتصادية متينة وسياسية سليمة، واذا ما جرى تخليصها من الثغرات والنواقص. وقد سبق للحزب الشيوعي العراقي ان أكد اكثر من مرة، ضرورة إحياء الشركة بعد ان دفنها النظام السابق من دون مبرر ملموس ومقنع، باعتبار انها تهدف الى تحقيق الاستثمار الوطني المباشر للثروة الهيدروكاربونية (النفط والغاز)، بما ينسجم مع مصالح الشعب العليا ويضمن انتفاع البلد بالكامل من ثرواته الطبيعية، وفقا لمعطيات سوق النفط العالمية المتقلبة وبما ينسجم مع احدث منجزات العلم والتكنولوجيا.

هذا ما كان مطلوبا تحقيقه. فهل جاء القانون الجديد منسجما مع هذه الرغبة؟ وهل سيحقق تلك الاهداف؟

كان حزبنا وما زال، وذلك ما يتضمنه برنامجه ووثائقه الاخرى، يؤكد دائما على رسم ستراتيجية وسياسة نفطيتين وطنيتين واضحتي المعالم في اطار اقتصاد حديث، ينشد الاستثمار الامثل لثروات البلد ووضعها في خدمة تطوير اقتصاده وتخليصه من طابعه الريعي، وضمان توزيعٍ يحقق قدراً معقولاً من العدالة الاجتماعية.

وتركزت طروحاتنا في السنوات الاخيرة، على ضرورة تأطير هذه الاستراتيجية في قانون متماسك عام للنفط والغاز. فهل للقانون الجديد علاقة وصلة بما كان يفترض ان يصدر من قانون للنفط والغاز؟ وكيف سيجري التوفيق بين هذا وذاك؟

يضاف الى ذلك ان قانون شركة النفط الوطنية ظهر وهو ينص على احكام تتداخل بل وتتقاطع مع قوانين مؤسسات قائمة كوزارة النفط. فما هي حدود صلاحيات الشركة بالارتباط مع قانون وزارة النفط النافذ؟ وكيف سيجري التنسيق ومنع التضارب مع ما توسعت به الشركة، حسب قانونها الجديد، ليشمل ليس فقط الاستخراج وانما ايضا تصنيع البتروكيماويات؟ وكيف سيتعامل قانون الشركة مع الشركات العاملة فعلا في الحقل النفطي، سواء تلك التي لها علاقة بالاستكشاف والاستخراج، او تلك التي تتعامل بالغاز او بالنقل او التسويق؟ وتلك ثغرات في بناء القانون لا تساعد على تطبيقه على نحو جاد وبحكمة، بل يمكن ان تثير من المشاكل والتعقيدات ما يصادر جوهر المبررات والاهداف التي اسست من اجلها الشركة، خصوصا اذا اضفنا الى ذلك بعض الثغرات والنواقص والتعارضات ذات الطابع الدستوري. فالشركة وفق قانونها الجديد طابعها عراقي مركزي عام، والدستور نص على البناء الفيدرالي للدولة العراقية، واقر تشكيل الاقاليم واعطاها والمحافظات حقوقاً حتى في مجال المساهمة في مجال النفط والغاز والثروات الطبيعية عموماً.

فكيف سيجري التعامل مع هذا كله، وقد حُولت عمليات الاستكشاف والاستخراج لشركة النفط الوطنية حصرا؟ وما علاقة الشركة بالوضع القائم في اقليم كردستان، حيث ابرمت السلطات  الكثير من التعاقدات في ميادين الاستخراج والتصدير؟ وكيف سيجري تطبيق ما نصت عليه المادة 112- ثانياً من القانون، التي تقول ان التعاقدات الجديدة ستكون معاً، مع الاقاليم والمحافظات؟

ولا بد لنا ان نأخذ في الاعتبار ما اثير ويُثار حول اعتبار كل موارد النفط ايراداتٍ للشركة وملكا لها. أفلا يثير هذا اشكالا قانونيا حول طبيعة الواردات وسياديتها، من اجل حمايتها من المساءلات والمطالبات الخارجية، التي لا يمكن ان تطولها اذا كانت باسم الدولة العراقية، بينما تنفتح ثغرة اذا كانت باسم شركة، حتى وان كانت شركة مملوكة الدولة.

ولقد منح القانون الشركة صلاحيات وحقوقا تفوق ما تحتمله طبيعتها. فاذا كان مفهوما ان تختص الشركة بميدان النفط والغاز، فان القانون اعطاها ومجلس ادارتها صلاحيات تمكنها من التحكم باقتصاد البلد كله، وبكيفية ادارة موارد النفط التي تشكل المصدر الاساس للدخل الوطني ولموارد الموازنة بشقيها التشغيلي والاستثماري. فهل يعقل مثلا ان تتمتع الشركة بصلاحيات  تمكنها من التدخل في شؤون الزراعة والصناعة والقطاعات الاخرى؟ أليس هذا من مهام مؤسسات اخرى في الدولة؟ ثم الا يعني ادخال الشركة في قضايا وتعقيدات تعيق انجازها مهامها الاساسية؟

اما ما نص عليه القانون في مادته 13 من توجهات لتوزيع الايرادات والارباح، فانه ينطوي على اشكالات مفاهيمية وثغرات عملية، ستزيد من صعوبات ادارة الاقتصاد العراقي وتخليصه من طابعه الريعي الفوضوي. فهل تكون الشركة حقا، الجهة المقررة لنسب توزيع الايرادات، ام ان هذا من اختصاص الحكومة والبرلمان؟ وهل ان تخصيص نسبة 10 في المائة لتوزع على الاستثمار والاحتياطي وكمداخيل مباشرة للمواطنين، هو الطريق السليم لمساعدة البلد على تخليص اقتصاده من الطابع الريعي؟ ام انه يعزز النزعة الاستهلاكية، وبالتالي يعمق ويديم الطابع الريعي؟

 ان الخلاص من الطابع الريعي يتحقق عبر تعزيز الصفة الانتاجية وتنويع مصادر الدخل ، ويتأتى من توفير المزيد من الموارد الوطنية لتطوير الصناعة والزراعة والخدمات الانتاجية، وليس من بعثرتها على مداخيل استهلاكية تعزز ارباح كبار التجار، وتفتح السوق الوطنية على مصراعيها للاستيراد وللتضييق على الانتاج الوطني.

ومن الضروري فضلا عن هذا اعادة صياغة بعض فقرات القانون المفتوحة وغير الواضحة والقابلة للتأويلات غير السليمة،  بما يجعلها اكثر انسجاماً مع بعضها ومع القوانين، وبعيدة عن الطروحات حمالة الاوجه والتي يمكن ان تنأى بها عن مصلحة الشعب والوطن.

من المؤكد ان الحاجة ستبقى قائمة الى سياسة نفطية متكاملة، تضع في الاعتبار حقيقة ان النفط ثروة ناضبة، وسلعة عالمية لا نستطيع التحكم  بمآلات اسعارها صعودا او هبوطاً، خصوصاً وان الاقتصاد العالمي يسير بخطى حثيثة بحثا عن مصادر اخرى للطاقة، نظيفة وصديقة للبيئة. كما ان التكنولوجيا تتطور نحو اكتشاف احتياطات ومواقع مهمة وكبيرة لانتاج النفط والغاز من الرمال والحجر الصخري ،وفي المناطق النائية والمياه العميقة. وكل هذا يضع على عاتق الادارة الاقتصادية والنفطية مشروع الانتفاع الامثل من مصادر النفط، لتجمع ثروة جديدة والا فستحمل الاجيال القادمة في العقود القريبة المقبلة ما لا طاقة لها به.

وعليه نؤكد من جديد، ضرورة وضع ستراتيجية اقتصادية – نفطية متكاملة، تهدف للاستثمار الوطني المباشر للنفط والغاز، بما يعنى ان: لا للامتيازات، لا لعقود المشاركة، نعم للاستعانة بعقود خدمة لا تخل بملكية الشعب لثرواته الوطنية. وهذا يتطلب فيما يتطلب التحرك لاعادة النظر في بعض جوانب عقود التراخيص، او في العقود غير المتوازنة المبنية على المشاركة، التي عقدتها حكومة اقليم كردستان.

ويتطلب الامر، ايضاً، الاستمرار في سياسة انتاج وتصدير النفط وفقاً  لسياسة حكيمة ومتوازنة، ومنسجمة مع نشاط "اوبك"، وبما يضمن احترام حقوق العراق الخاصة. كما نؤكد اهمية استثمار الغاز والكف عن احراقه، وتصنيع النفط  والغاز داخلياً بما يضمن الانتفاع من القيمة المضافة الناجمة عن التصنيع. كذلك مواصلة بناء المزيد من المصافي لتسد حاجاتنا الداخلية ولاغراض التصدير، والتوسع في بناء الصناعة البتروكيماوية لتقليص استعمال الثروة الهيدروكاربونية كمحروقات، وتطوير الكفاءات العراقية في كل ميادين الصناعة النفطية، والاعتماد على القدرات الوطنية العراقية، والبحث الجاد عن معالجات فعالة وفورية للتجاوزات والخروقات التي تعاني منها الصناعة النفطية، عبر تطوير الادارة ومحاربة الفساد وايقاف الهدر ..الخ.

ونشدد هنا ايضا على استثمار كل الزيادات المتأتية من الفرق بين السعر الرسمي للنفط (في موازنة 2018 حيث اعتمد سعر 46 للبرميل الواحد) ولاحقا للغاز، وبين السعر الفعلي الذي يتجاوز حاليا 63 دولارا لبرميل الخام المصدر، استثمار هذه الزيادات  في تطوير مصادر   الطاقة ، وفي الميادين الانتاجية المتنوعة، لقطع شوط او اشواط اولى على طريق ايقاف الهدر والتصرف العبثي بموارد النفط والغاز، باعتبارها مصادر مالية ناضبة، وفقا لخطة مقرة رسميا .

وهنا، وبغية وضع الامور في اطار شرعي ومبرر قانونياً وفنياً، تفرض الضرورة تأسيس صناديق سيادية تشرف على هذه الموارد وتتابع استثمارها على النحو السليم.

وان من ضمن هذه التوجهات اعادة النظر في القانون الجديد لشركة النفط الوطنية، واجراء التعديلات المؤشرة اعلاه، ليكون اكثر مشروعية وتواؤما وانسجاماً مع الدستور والسياسة الاقتصادية المطلوبة، واعتبار قطاع استخراج النفط والغاز قطاعا استراتيجيا لا بد ان يظل ملكية عامة. وهذا يعني ايضا الغاء المادة 13 لتشرع في قانون خاص بعد طرح مسودته للنقاش الجاد والواسع. كما ان الضرورة تلح على اصدار قانون موضوعي وعادل للنفط والغاز، ينسق بين السياسة النفطية المشار اليها اعلاه، وبين دور المؤسسات المختلفة العاملة في الصناعة النفطية - في الاستخراج وفي عموم قطاعاتها الاخرى، وتحديد ملامح العلاقة بين السلطة الاتحادية وسلطات الاقليم والمحافظات، ودور كل منها في هذه الميادين، بما ينسجم مع الدستور ويحفظ للشعب العراقي حقوقه، وللصناعة الهيدروكاربونية دورها في الاقتصاد الوطني وفي التنافس العالمي المحتدم .