عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يوم الجمعة 6/12/2019 اجتماعا اعتياديا، سبقه بيوم انعقاد المجلس الاستشاري للحزب.
في بداية اعماله وقف المجتمعون دقيقة صمت تكريماً لأرواح شهداء الشعب من المنتفضين وبينهم عدد من رفاق الحزب وأصدقائه، وعبّر الاجتماع عن التعازي ومشاعر التضامن مع عوائل الضحايا والمصابين والمعاقين، متمنياً للجرحى الشفاء العاجل.
وعند مناقشة الأوضاع السياسية وتطوراتها في البلاد، بيّنت اللجنة المركزية انه في مواجهة تردي الأوضاع العامة وتداعيات الأزمة البنيوية الشاملة الناجمة عن نهج المحاصصة الطائفية والاثنية، وتشويه الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية السليمة، وتقزيم الحريات، وتدهور الخدمات والأوضاع المعيشية وتزايد نسب البطالة والفقر، فضلا عن عوامل اخرى خارجية وتدخلات اقليمية، انتفض شعبنا وشبابه على وجه الخصوص، رافضين هذا الواقع وممارسين حقهم الدستوري السلمي. الا انه، بدلا من الاستجابة السريعة لمطالبهم المشروعة، أغرقت الانتفاضة الباسلة بالدم، وسقط مئات الشهداء وآلاف المصابين والمعاقين الدائميين في سابقة قل نظيرها، حيث اعتمد القتل العمد بمختلف الأشكال وسيلة للتشبث بالسلطة، حتى لو كان ذلك بثمن بحر من دماء المنتفضين السلميين.
ان ما حصل في الأول من تشرين الأول 2019، كان هبّة واسعة غدت انتفاضة شعبية تصل أعداد المساهمين فيها في المحافظات المنتفضة والداعمين والمتضامنين معها إلى الملايين. وجاءت الانتفاضة على خلفية فرز اجتماعي-طبقي، وصراع على أشُدّه بشأن شكل ومحتوى الدولة وآليات إدارتها ووجهتها اللاحقة، وعلى منهج الحكم الطائفي ونمط التفكير، وهو في نهاية المطاف صراع على السلطة والنفوذ والاستحواذ على القرار والمال.
وجاءت الانتفاضة انعكاسا لواقع متردٍ ولتناقضات احتدمت وتراكمت، ولهوّة سحيقة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، ولغياب العدالة الاجتماعية واحتكار السلطة مما ادى الى تقوية منظومة الفساد والأقلية الحاكمة.
وعليه ومهما اتخذ هذا الصراع من أشكال او جرت التغطية عليه بعناوين مختلفة فانه يبقى صراعا طبقيا تخوضه مختلف الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة من اجل مصالحها او دفاعا عنها. وقد سعى البعض الى التستر على الحقيقة بإعطاء صراع المصالح هذا بعدا طائفيا او دينيا او حتى قوميا، فيما كانت هناك محاولات لإسباغ الطابع المحلي والمناطقي عليه.
وقد انطلقت التظاهرات من دون ان تكون مقطوعة عن الحركة الاحتجاجية في 25 شباط 2011 ثم في 2015 وما بعدها، وما راكمته من تجربة وخبرة وما فرضته من حقائق. كما انها ليست بعيدة عن جهد حزبنا والقوى والشخصيات المدنية والديمقراطية والوطنية الأخرى، التي بينت في وقت مبكر المخاطر الناجمة عن مواصلة القوى المتنفذة التشبث بالمحاصصة، منتجة الأزمات وحامية منظومة الفساد المتشابكة مع المتنفذين الحاكمين.
ويجدر هنا تأشير سلامة موقف الأغلبية الساحقة من المنتفضين السلميين، التي راحت جهات داخلية وخارجية منذ انطلاق الانتفاضة، تشكك فيها وفي مراميها وتلصق بها تهما مختلفة باطلة، وتحاول دس عناصر داخلها لحرف مسارها بعيدا عن اهدافها الحقيقية.
وسجل مسار الانتفاضة اتساع دائرة القوى والشرائح الاجتماعية المشاركة فيها، ورُصدت إسهامات واسعة من جانب غالبية الاتحادات والنقابات المهنية والأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني في الانتفاضة، ومشاركتها المنتفضين مطالبهم السلمية المشروعة.
وتحققت في مجرى الانتفاضة اوسع مشاركة للطلبة منذ عقود في فعاليات الاحتجاج الجماهيري، وكان وقعها كبيرا حيث عززت صفوف الانتفاضة ورفعت معنويات المنتفضين، وعُدّت مساهمة متميزة ومأثرة جديدة اجترحتها الجماهير الطلابية العراقية. وشكل موقف نقابة المعلمين دعما كبيرا للطلبة، شجعهم على المضي في اسناد الانتفاضة رغم كل الضغوط التي مورست وما زالت، للتضييق عليهم والحد من مشاركتهم. وتجدر الاشارة ايضا الى دور نقابة المحامين. كما كانت مساهمة المرأة العراقية بارزة في مختلف أنشطة وفعاليات الانتفاضة.
واجتذبت مشروعية وعدالة مطالب الانتفاضة، بابعادها الاجتماعية والوطنية، وبسالة المنتفضين السلميين وشجاعتهم الفائقة في مواجهة القمع الدموي، اقساما واسعة ومتنامية من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية ومن ابناء العشائر، الذين وفروا لها الدعم وحتى الحماية كما حصل في بعض المحافظات، بل ان هناك الكثيرين في صفوف القوات المسلحة والأمنية ممن تعاطف ويتعاطف معها، وتجلى ذلك بصيغ مختلفة.
وغدت الانتفاضة، في نهاية المطاف، انتفاضة غالبية أبناء الشعب مقابل أقلية معزولة تريد ادامة هيمنتها وحكمها بالقمع والقتل.
وقد انحاز حزبنا الى الانتفاضة السلمية ومطالبها العادلة، وأعلن دعمه لها ومشاركته فيها. وتضامنا معها قدم نائباه في مجلس النواب استقالتهما، وفعل مثلهما الشيوعيون اعضاء مجالس المحافظات. كذلك سخر الحزب طاقاته واعلامه ونشاط منظماته ورفاقه واصدقائه، داخل الوطن وخارجه، لمساندتها وصولا الى تحقيق اهدافها. كما عبر عن ادانته الشديدة للقمع والقتل العمد والخطف والاغتيال والتضييق على بعض الفضائيات والاذاعات واغلاق عدد منها.
وكان خيار السلطة في التعامل مع الانتفاضة يسير في اتجاهين: الأول هو تصعيد العنف ضدها بأدوات القمع المختلفة وبزعم خدمتها اجندات خارجية، والعمل على تخريبها وتشويه صورتها ودفعها نحو مسارات وممارسات عنفية منفلتة تُسهّل قمعها، وذلك من خلال تسريب وزرع عناصر مندسة داخلها، ترتبط بأجهزة السلطة المختلفة مباشرة او بصورة غير مباشرة. والاتجاه الثاني يتجلى في السعي الى كسب الوقت من خلال تقديم حزم إصلاحية، وإطلاق وعود لا تحظى بصدقية، وعرض خرائط عمل بتوقيتات زمنية، والمراهنة على تعب وملل المنتفضين وعلى حلول الشتاء والبرد وانحسار الدعم الجماهيري للانتفاضة. غير ان نهج الحكومة وخياراتها الفاشلة لم تؤد سوى الى طريق مسدود، عمق أزمة البلاد ودفعها في اتجاهات خطرة مفتوحة على احتمالات شتى.
لقد فشل القمع ومراهنات الحكومة والقوى الداعمة لها، ولَم يؤدّ القمع بالذات الا الى زيادة إصرار المحتجين على نيل حقوقهم كاملة، والى تعاظم التعاطف والدعم الشعبيين لهم.
وقد استمر التعنت والمواقف غير المسؤولة من جانب الحكومة والداعمين لها، الا ان ذلك لم يحل دون فرض الانتفاضة على الحكومة ورئيسها في النهاية تقديم الاستقالة، وهو ما تحقق بدماء الشهداء وتضحيات المنتفضين وضغط الجماهير ودعم الغالبية الساحقة من أبناء شعبنا والمؤسسات والشخصيات المدنية والدينية والأكاديمية والمهنية والاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
لقد بيّنت الانتفاضة على نحو جلي ان المواطنين، بعد ١٦ من السنين العجاف، يرفضون العيش كما في السابق، وان الحكام لن يتمكنوا بعد الآن من الاستمرار في الحكم بالمنهج والأساليب ذاتها، وانه لذلك غدا من الملح تدشين عملية التغيير الجدي والشامل.
وقد اكدت الانتفاضة فشل المنهج المتبع في إدارة الدولة والحاضن للفساد والفاسدين، وحالة الاستقطاب الحاد في المجتمع ودرجة الاحتقان فيه، وعرّت هذا وذاك حتى النخاع. كما شددت على ان المطلوب ليس تطويق الأزمات واحتواؤها، بل إيجاد حلول جذرية لها، بما يؤمن التصدي لأسّ الأزمات، أي منهج المحاصصة، ومعالجة معضلته.
لقد بات ضروريا مباشرة مرحلة جديدة في مسار البلد، وفتح الطريق امام إقامة دولة المواطنة والديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية.
وارتباطا بما حصل حتى الآن، فان من الوهم الاعتقاد بإمكان ان تعود الأمور الى ما كانت عليه قبل الأول من تشرين الأول ٢٠١٩، وان من شأن أية مماطلة او تسويف او تأخير من جانب القوى المتنفذة في ولوج طريق التغيير الحقيقي، ان تلحق المزيد من الأذى والضرر بشعبنا ووطننا.
لقد كانت استقالة الحكومة تحت ضغط الحراك الشعبي المتصاعد، انتصارا ساطعا للانتفاضة الشعبية العظيمة. لكنها تبقى خطوة اولى لا بد منها للبدء بتنفيذ خارطة الطريق المفضية الى دحر منهج المحاصصة ومنظومة الفساد.
وبعد استقالة الحكومة بات مطلوبا المباشرة بتشكيل حكومة جديدة انتقالية، ذات مواصفات حددت خصائصها مطالب المنتفضين، لتتولى تنفيذ مهام محددة تمهد لانتخابات مبكرة. حكومة تتمتع بصلاحيات واسعة يمنحها مجلس النواب، بما يمكنها من إنجاز مستلزمات الانتقال في غضون فترة زمنية لا تزيد عن ستة أشهر.
وعليه يتوجب الآن تنفيذ ما يأتي:
أولا: قيام رئيس الجمهورية على الفور ووفقا للدستور، بالخطوات الواجبة لاختيار رئيس وزراء جديد مستقل سياسيا، على وفق معايير الوطنية والكفاءة والنزاهة والاستقلالية والقدرة على اتخاذ القرار، وممن لم يسبق لهم أن تولوا منصبا وزاريا أو تشريعيا، وبعيدا عن المحاصصات والنزعات المناطقية والطائفية السياسية والتحزب الضيق، وشرط ان يكون قادرا على صيانة القرار الوطني العراقي المستقل.
وعلى أن يلتزم هو ووزراء الحكومة بعدم الترشيح للانتخابات القادمة.
ثانيا: قيام رئيس الوزراء المكلف بتشكيل حكومته من عناصر وطنية كفؤة نزيهة وفعالة، ومستقلة عن الأحزاب والكتل السياسية الماسكة للحكم بعد 2003، وان يحرص على تمثيل المرأة والشباب فيها، ويقوم بتأليفها بعيداً عن المحاصصة ووفقا للدستور.
ثالثا: تكون المهام الاساسية للحكومة الجديدة الانتقالية كما يلي:
أ- إنجاز الخطوات الآنية الملحة لتأمين القوت للشعب وتطمين حاجاته الملحة، وتنفيذ مطالب المنتفضين الاقتصادية والاجتماعية.
ب- إنزال القصاص العادل بمن ارتكبوا جرائم قتل المتظاهرين ومن أصدروا لهم الاوامر، وإطلاق سراح المعتقلين والمغيبين والمختطفين كافة وكشف الجهات التي تقف وراء ذلك، وإيقاف حملات الملاحقة والمطاردة لغيرهم، وإماطة اللثام عن " الطرف الثالث"' وعن أية جهات داخلية أو خارجية يثبت تورطها في استهداف المتظاهرين السلميين، واتخاذ التدابير اللازمة في هذا الشأن. كذلك إيقاف الحملات المنظمة لمصادرة الحريات ولإغلاق الفضائيات والإذاعات.
ج- الاسراع في تحريك ملفات الفساد بدءاً بالكبرى، وتقديم المفسدين الى العدالة واستعادة الاموال المنهوبة.
د- التحضير لانتخابات مبكرة على ان يسبقها:
1. تشريع قانون انتخابات جديد ديمقراطي وعادل، يكرس مبدأ المواطنة ويوسع دائرة التمثيل، ويوفر قناعات لدى المواطنين بأهمية الانتخابات وضرورة المشاركة فيها. قانون لا يُفصّل – كما كان الحال حتى الآن -على مقاسات الكتل المتنفذة ويؤبد احتكارها وهيمنتها.
2. انتخاب مفوضية عليا جديدة للانتخابات، مستقلة حقاً، وقوامها كفاءات من خارج الاحزاب والكتل السياسية ويكون للقضاء دوره المؤثر في عملها.
3. تفعيل وتدقيق قانون الاحزاب السياسية بما يضمن قيام حياة سياسية ديمقراطية سليمة، والتطبيق الفعال لنصوصه المتعلقة بمنع امتلاك الاحزاب أذرع مسلحة، وبضمان الشفافية في مصادرها المالية.
4. تأمين اشراف دولي فعال.
أما التعديلات الدستورية المطلوب إجراؤها فتكون من أولى مهام مجلس النواب الجديد المنتخب.
هـ - اتخاذ اجراءات فعالة لحصر السلاح بيد الدولة، وتقوية وتعزيز دور القوات المسلحة والأمنية لتكون هي الوعاء الذي يحتضن التشكيلات المسلحة غير الخارجة عن القانون .
و- الحفاظ على سيادة الدولة العراقية ومنع التدخلات الخارجية في شؤونها، وتأمين استقلالية القرار الوطني.
ويدرك حزبنا ان تحقيق التغيير الشامل الذي يتطلع اليه شعبنا والمنتفضون، سوف يجابه بمقاومة شديدة من طرف قوى المحاصصة والفساد ومن تتضرر مصالحهم بالتغيير المنشود. وفي هذا الصراع تواجه الانتفاضة تحديات تأمين جميع عناصر ومقومات احراز النصر، وفي المقدمة الحفاظ على وحدتها وتلاحمها وسلميتها، وعلى الالتفاف الجماهيري حولها، والعمل على تطوير صيغ فاعلة لتوحيد مواقفها وبلورة تصوراتها البديلة لشكل ومضمون عملية التغيير، بما يدفع الانتقال الى دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية ويعزز الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والثقافية.
ان حزبنا، ورغم كل الصعوبات والتعقيدات المحيطة، وفِي ظل المعطيات الجديدة التي أفرزتها انتفاضة تشرين الأول ٢٠١٩، يرى ان هناك إمكانات واقعية للخروج من نهاية النفق وولوج طريق الإصلاح والتغيير، وان من الواجب استمرار الضغط الشعبي السلمي متعدد الاشكال.
وفِي هذا السياق يظل مهما وملحا تشكيل الكتلة البشرية والسياسية الكبيرة والواسعة، الضاغطة في اتجاه تغيير موازين القوى ودحر نهج المحاصصة ودفن الطائفية وإلحاق الهزيمة بمنظومة الفساد والمليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، وفرض إرادة شعبنا في التغيير الجذري، والانتقال ببلدنا الى وضع جديد يفتح أمامه آفاق التطور والتقدم، ويوفر لابنائه الحياة الحرة الكريمة الآمنة والمستقرة.