ما زال استكمال تشكيل الحكومة الجديدة يتعثر ويواجه صعوبات جدية، وسط صراع محتدم بين منهجين متقاطعين ومتناقضين.
الاول يتبنى مشروعا اصلاحيا ويريد الخلاص من المحاصصة كونها اسّ البلايا وولّادة الازمات وحامية الفساد والمفسدين، ويسعى الى عبور الطائفية السياسية وجعل ذلك مدخلا الى عملية اصلاح واسعة، باتت مطلوبة وحاجة ماسة وليس خيارا. وتنشد هذه القوى بناء دولة المواطنة، التي تُسند فيها الوظيفة العامة على اساس الكفاءة والنزاهة والاخلاص للوطن، من دون تمييز بين المواطنين.
وفي المقابل يصر المنهج الثاني، تحت عناوين مختلفة، على النهج التحاصصي الفاشل ذاته، ويتشبث به رغم ما يوجه اليه من نقد، ذلك انه هو ما يوفر له السلطة والنفوذ والهيمنة والحماية.
ان الامر اليوم لا يتعلق بمجرد سد الشواغر الثمانية في الكابينة الوزارية، بل يمس بعض الوزراء الذين صادق مجلس النواب يوم 24 تشرين الاول على استيزراهم في "عملية قيصرية". حيث اثارت وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، قبل عملية الاستيزار وبعدها، طائفة من الامورالمتصلة بقضايا المساءلة والعدالة وشبهات فساد، فضلا عن الموقف من الارهاب وتنظيماته.
ولم يكن التدافع والصراع وما يجري الحديث عنه من دفوعات مالية كبيرة لشراء هذه الوزارة او تلك، بعيدا عن التدخلات الخارجية ايضا، الدولية والاقليمية، التي استمرأتها قوى وكتل سياسية عراقية وجدت في ذلك سبيلا سهلا لنيل المكاسب الضيقة على حساب المصلحة العامة.
ان استكمال التشكيلة الوزارية مطلب ملح في ظروف البلاد الراهنة، خاصة بالنسبة الى وازرتي الداخلية والدفاع. فقوى الارهاب الداعشي لا تزال تتحين الفرص وتستغل الثغرات لاستئناف عملياتها وانشطتها الاجرامية والحاق المزيد من الاذى بالمواطنين، والحؤول دون تحقيق الاستقرار والامان الضروريين، اللذين لا يمكن من دونما الحديث عن عملية تنمية حقيقية. وان القوى المذكورة هي وحدها من يتحمل مسؤولية تحويل العامل الخارجي الى لاعب مؤثر في الشأن الداخلي العراقي.
ومن المؤكد ان استكمال التشكيلية الوزارية ليس مطلوبا باي ثمن، ولمجرد سد نقص وفراغ حاصل. فمن الواجب ان تكون المعايير حاضرة في الاختيار، لان الاساس هو ان تكون الحكومة قوية فاعلة نشطة، يتمتع اعضاؤها بالكفاءة والقدرة على تنفيذ البرنامج الحكومي، بل وممن يعملون صدقا لتحقيقه وتنفيذه في اوقات زمنية معلومة ومحددة. وان يكون الجميع على قدر عال من المسؤولية ارتباطا بما يعانيه البلد من صعوبات واشكالات، مدركين ضرورة العمل الجدي لاطلاق خطوات واعدة على طريق الاصلاح الحقيقي، تطمئن المواطنين الى ان تغييرا في الطريق لملاقاة طموحاتهم وتلبية مطالبهم، وبضمنها تلك التي رفعتها وترفعها الحركة الاحتجاجية والمطلبية.
ومن المهم في ما يدور الان بشان استكمال تشكيل الحكومة، خاصة وان البدايات جاءت دون مستوى الطموح والتطلع وحتى التوقع، ان يتم الاسراع في خطوات التشكيل، وان لا يضيع البرنامج الاصلاحي الذي صوتت له الملايين من المواطنين، الباقية على دعمها له ورغبتها في تحقيقه.
والمطلوب من قوى الاصلاح والتغيير، وفي مقدمتها سائرون، ان تعمل على المزيد من التنسيق والتعاون المتبادل، والحرص على تنفيذ برامجها الانتخابية، والاقتراب من نبض الشارع ومطالب المواطن، بما يرفع من المعنويات والهمم ولا يغذي حالات الاحباط والياس، عبر تأكيد العزم على المواصلة وعدم النكوص عن البرنامج الاصلاحي.
وفي اللحظات الاختبارية للحكومة الجديدة يتوجب عليها ان تقدم على مجموعة اجراءات ملموسة، وان ترتب الاولويات بما يستجيب لحاجة المواطنين من ذوي الدخل المحدود والفقراء والمهمشين والكادحين خاصة. ومن ذلك الاقدام على خطوات ترى بالعين المجردة في مجالات التعليم والصحة والنقل والسكن والكهرباء والماء وتوفير فرص العمل والعناية بالبطاقة التموينية وتحسين نوعيتها وزيادة مفرداتها، ومكافحة الفساد على كافة المستويات، والحرص على المال العام. ومن المهم والضروري في ذلك كله مراعاة عامل الزمن الذي هو غير مفتوح.
كما ان مجلس النواب مطالب هو الاخر بتحسين أدائه تشريعيا ورقابيا، وتنظيم آليات عمله الداخلي على نحو افضل لجهة المزيد من الشفافية، والارتقاء بادارة مناقشات، واعتماد وسائل حديثة في التصويت. وان يقدم النواب على ما يغير صورتهم النمطية في نظر المواطنين، فيكونون قريبين منهم ومن همومهم، ويستعيدون الثقة المفقودة جراء الخلل الذي صاحب عمل المجالس السابقة والتلكؤ الذي رافقه. فالمطلوب هو دعم التوجهات الاصلاحية، وتشريع القوانين التي تضع مصالح الناس في المقدمة. كذلك القيام بما يساعد على استكمال بناء مؤسسات الدولة واجراء الاصلاح المطلوب في النظام السياسي، والسير على طريق تعزيز الديمقراطية والتمتع بالحريات الدستورية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ان اوضاع البلد العامة والظروف الخارجية المحيطة به، لا تسمح بالتراجع عن عملية الاصلاح الشامل، وان اي نكوص سيصطدم برفض الناس التي تتطلع الى عراق آخر، مختلف عن الذي عرفناه طيلة الـ 15 عاما الماضية. ولا ريب ان هناك امكانية واقعية لتحقيق ذلك، شرط القناعة به وتوفر الارادة السياسية لانجازه. وبعكسه لن يبقى للمواطن سوى الدفاع عن حقوقه ومصالحه المشروعة بكل الطرق والسبل الدستورية والديمقراطية السلمية.