ليس هناك من تشكيلة اجتماعية في الشرق الأوسط عانت من ضياع الأمن السياسي والاجتماعي مثل التشكيلة العراقية . ويعود ذلك الى كثرة من العوامل والأسباب منها موقع العراق الجغرافي وثرواته الوطنية والتداخلات الخارجية والنزاعات الداخلية والروح السجالية للمواطن العراقي وتجذرها في حياته الفكرية، إضافة الى العنف السلطوي المتواصل في منظومة العراق السياسية.
وفي محاولة للتعرف على التشكيلة الاجتماعية في العراق بعيد إنتصار 14 تموز، لابد من التعرف على تطور التشكيلة العراقية غداة ظهور الدولة الوطنية في عام 1921. فقد بات معروفاً أن العراق لم يكن مجتمعا موحداً في أواخر الدولة العثمانية بل كان عبارة عن ولايات تابعة للباب العالي تحكم من قبل الولاة العثمانيين. وبهذا فان كل ولاية لها تشكيلها الاجتماعي الخاص المرتبط بكثرة من المحددات والتقاليد الاجتماعية والطائفية. وقد أنتجت أشكال الملكية في العراق كثرة من المراتب والشرائح الاجتماعية منها على سبيل المثال الفئة الحاكمة التي تتمتع بسلطة القرار العسكري والإداري والحائزة على قسم من الأراضي بهدف استثمارها، ومنها فئة التجار في ولايات العراق الثلاث (الموصل وبغداد والبصرة) المترابطة مصالحها مع المؤسسة الإدارية للوالي العثماني، ومنها فئة الوجهاء الذين يستمدون مكانتهم من المؤسسة الدينية والتجارية ناهيك عن وجهاء العشائر والقوى الفلاحية المنتجة. وقد إستمرت سمات التشكيلات العراقية ـ إن صح التعبير ـ في التبلور حتى ظهور الدولة العراقية نتيجة لاقتسام العالم بين المراكز الرأسمالية الأوربية.
سمات التشكيلة العراقية في المرحلة المَلكية
اعتماداً على البنية البيروقراطية الإدارية الموروثة من العهد العثماني جرى بناء الدولة العراقية بعد استبدالها ببنية إدارية / عسكرية إنكليزية ـ هندية تتلازم والمصالح الاقتصادية الاجتماعية للوافد البريطاني. وأفضى هذا الاعتماد الى تكريس الطابع الطائفي للسلطة الناشئة استناداً الى طبيعة الفكر السياسي المتحكم بنهج الطائفتين الشيعية والسنية. ففي الوقت الذي استندت انتفاضة عام 1920 العراقية الى رؤية شيعية تمثلت بالوحدة الإسلامية، تمسكت القوى الجديدة الماسكة بالسلطة بالتوحد القومي. وقد أثر توزع مكونات العراق الطائفية على مسارين فكريين متعارضين ــ الوحدة القومية والجامعة الإسلامية ـــ على تطور العراق اللاحق مكرساً انقساما كبيرا في تشكيلة العراق الاجتماعية تمثل في قيادة أبناء الطائفة السنية لقيادة البنية البيروقراطية / العسكرية للدولة الجديدة بينما انشغلت الأغلبية الشيعية في الحياة الاقتصادية والتجارية.
وكرست الإدارة البريطانية هذا الانقسام التاريخي من خلال السعي الى إحداث طبقات اجتماعية جديدة ساندة لتوجهاتها السياسية / الاقتصادية. وتمثل ذلك في ظهور الطبقة الإقطاعية بعد تملك رؤساء العشائر والقوى البيروقراطية المتنفذة للأراضي الأميرية، هذا التملك الذي أحدث تغيرا اجتماعيا في بنية العشيرة، ومهد التربة لنزاعات تستند على المصالح الاجتماعية المتعارضة، الامر الذي حول الأعراف العشائرية الى قوانين محمية من السلطة الجديدة. وقد تلازم ظهور الطبقة الإقطاعية في الريف العراقي مع ظهور الطبقة العاملة، التي تركزت في قطاع الخدمات، والتي ناهضت الوافد الأجنبي وحملت هموماً وطنية أسماه الفكر اليساري بتداخل المهام الوطنية والطبقية، رغم بطء تبلور وعيها الطبقي بسبب أصولها الفلاحية.
كما تطورت الشريحة التجارية، التي يمكن إعتبارها فئة من أهم الفئات الاجتماعية في الفترة الملكية لأنها ضمت أغلب الطوائف والأديان بالأخص منها طائفتي الإسلام الأساسيتين فضلا عن الطائفة اليهودية، ولأنها توزعت في مختلف المدن الكبرى والمدن المقدسة. وتطورت الطبقة الوسطى بشكل كبير بعد ظهور الدولة العراقية وذلك بسبب انتشار التعليم وظهور المدارس والكليات فضلاً عن تطور المؤسسات الطبية. ولكن تسارع نمو الطبقة الوسطى ارتبط بالمؤسسة العسكرية التي شكلت المؤسسة الأبرز في حياة العراق السياسية وذلك لحزمة من الأسباب يتصدرها اعتبار الجيش الفصيل المنظم والمسلح القادر على إحداث التغيرات الاجتماعية وبهذا المعنى فان روحها الانقلابية شكلت ملاذا لطموح القوى السياسية العراقية.
التشكيلة العراقية غداة 14 تموز 1958
أفضى انقلاب 14 تموز الثوري الى حزمة من التبدلات السياسية / الاجتماعية / الاقتصادية فضلا عن تغيرات سلطة الدولة وتشكيلتها الاجتماعية. وبهدف رصد تلك التغيرات نحاول تأطيرها في الموضوعات التالية:ـ
- أحدث الانقلاب الثوري تغيرات جوهرية في طبيعة المُلكية في العراق وما نتج عن ذلك من تبدل في مواقع الطبقات الاجتماعية حيث جرى تفتيت المُلكية الإقطاعية للأرض وإعادة توزيعها على الشرائح الفلاحية الفقيرة وبهذا فقد انهارت طبقة الإقطاع الساندة للنظام السياسي السابق ودفعت طبقة الفلاحين الى النشاط الاقتصادي السياسي.
- تنامي وتطور مُلكية الدولة الخدمية / الإنتاجية بعد تنظيم علاقات متكافئة مع شركات النفط الأجنبية بهدف الحفاظ على الثروات الوطنية.
- مساعدة البرجوازية الوطنية في النهوض والتطور على اساس تشجيع الاستثمار والإعفاءات الكمركية على الاستيراد فضلا عن إقراض المشاريع الوطنية.
- إن التطورات الاقتصادية التي أحدثها انقلاب تموز الثوري خلقت قوى اجتماعية جديدة خاصة بعد تحول شرائح من القوى الإقطاعية بسبب تعويض ملكيتها للأرض الى شرائح / تجارية / صناعية ساهمت في التطور الاقتصادي الاجتماعي اللاحق.
- تلازمت التغيرات الاقتصادية / السياسية / الاجتماعية ومساعي جدية لبناء شرعية وطنية للسلطة تتخطى الحدود السابقة بهدف إشراك مكونات العراق الطائفية / القومية في الممارسة السياسية.
إن الإجراءات والتغيرات المشار إليه تستمد أهميتها التاريخية بعد وضعها في إطارها العام لغرض استكمال لوحتها السياسية الاجتماعية المتمثلة بـــالنقاط التالية:
- عدم تمكن الجمهورية الأولى من نقل سلطة الدولة من الأقلية الحاكمة الى الشرعية الوطنية بسبب النزعة العسكرية للطاقم القيادي الحاكم.
- لم تستطع التغيرات الطبقية التي أحدثتها السلطة الانقلابية من خلق كتلة اجتماعية / اقتصادية تشكل مرجعية وطنية وبهذا فان الطبقة البرجوازية الناهضة وفئاتها الصناعية لم تستطع التحول الى طبقة اجتماعية قائدة.
- أطلقت السلطة الجديدة نزاعا عراقيا كامنا بين التيارات السياسية على قاعدة أيديولوجية تمحورت حول مشروعي الدولة الوطنية الديمقراطية ومشروع دولة الوحدة العربية، الامر الذي فتح الأبواب أمام تنامي ظاهرة العنف في الحياة السياسية.
الفكر السياسي الناظم لجمهورية 14 تموز
شكل انهيار النظام الملكي والتحرر من الكولونيالية البريطانية نقلة تاريخية في بناء الدولة العراقية وفكر حياتها السياسية، حيث أنتجت الإطاحة بالطبقات الاجتماعية القديمة وتبوؤ الطبقة الوسطى المشهد السياسي دفعا لنشاط الحياة السياسية وأغنت ر كائز الفكر السياسي في العراق، الأمر الذي يشترط إبداء بعض الملاحظات الضرورية والتي يمكن تحديدها في الأتي:ـ
- اشر انقلاب تموز الثوري عام 1958 الى عدم اكتمال القدرة التنظيمية والقوة الشعبية للأحزاب الناشطة في الحياة السياسية، الامر الذي دفع المؤسسة العسكرية الى استلام سلطة الدولة السياسية باعتبارها القوى الوحيدة المنضبطة والمسلحة في التشكيلة العراقية.
- اعتمد الفكر السياسي لحركة الضباط الأحرار على بناء الدولة العراقية على قاعدة الاستقلال والسيادة الوطنية والحفاظ على الثروات الوطنية.
- انطلق الفكر السياسي لقادة الثورة من إعادة بناء التوازن الاجتماعي في تشكيلة العراق الاجتماعية بهدف خلق هوية وطنية وصولا الى اكتمال مستلزمات بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها.
- حاولت الثورة القيام بإجراءات اقتصادية اجتماعية هادفة الى خلق التوازن بين طبقات التشكيلة العراقية، وبهذا المسار أعارت الثورة اهتماماً خاصاً الى البرجوازية الوطنية بهدف تقوية فصيلتها الصناعية فضلا عن اهتمامها بباقي الطبقات الاجتماعية الكادحة منها والفقيرة .
- أفضت فكرة المساواة الوطنية والتوازن الاجتماعي التي شجعتها القيادة الجديدة الى إشراك قوى سياسية متنوعة في السلطة السياسية بهدف منع احتكارها فضلا عن محاولة بناء جهازها البيروقراطي على قاعدة المواطنة وذلك بهدف منع اختلال التوازنات الاجتماعية والسياسية .
- شكلت مركزية الدولة العراقية وصيانة وحدتها الجغرافية عاملا أساسيا في فكر الجمهورية الأولى وما نتج عن ذلك من مطالبة الشعوب العراقية الأخرى بحقوقها القومية الأمر الذي أدى الى نزاعات عسكرية بين الجمهورية الأولى ومكوناتها القومية . أفضى انتصار الثورة وإجراءاتها السياسية والاجتماعية الى اندلاع نزاعات سياسية وطنية بين الاحزاب العراقية انطلاقاً من أسس أيديولوجية ذات شعارات استراتيجية. ففيما انطلق التيار القومي من شعار تحقيق الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، تبنى التيار الاشتراكي شعارات فدرالية مشروطة بصداقة الكتلة السوفيتية.
- أدى صراع الكتل السياسية الى انحياز قادة المؤسسة العسكرية الى هذا التكتل الاجتماعي السياسي أو ذاك، الأمر الذي أنتج كثرة من التأثيرات السلبية على منظومة البلاد السياسية تمثلت بتفكك وحدة القيادة العسكرية وتمرد بعض أطرافها و انهيار الديمقراطية السياسية واشتداد النزاعات العنفية بين الكتل السياسية و تبلور النزعة الاستبدادية الفردية لضبط النزاعات الوطنية.
ان الاجراءات الاجتماعية والسياسية التي أنتجتها جمهورية 14 تموز أطلقت روح الكفاح السياسي لدى الكتل الاجتماعية المتنازعة في التشكيلة العراقية، الامر الذي أدى الى وأد الجمهورية الأولى وظهور الجمهورية الثانية عبر سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة توجت باستلام الحركة القومية لسلطة الدولة في محاولة لتطبيق شعاراتها القومية.