تطورات إقليمية ودولية السلم العالمي في خطر
تمرّ منطقة الشرق الأوسط بتحولات عميقة وأوضاع متأزمة، تتصدرها حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني بدعم أمريكي فاضح، إلى جانب التغيرات الجذرية في سوريا منذ انهيار النظام السابق، وما تبعها من اختلال كبير في موازين القوى الإقليمية، وتكثف سياسات إدارة ترامب الهادفة إلى فرض الهيمنة الأمريكية ضمن “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، لمواجهة تنامي نفوذ الصين. ويُضاف إلى ذلك خطر اندلاع حرب شاملة في حال انهيار المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران.
في فلسطين، بلغت الهجمة الإسرائيلية ذروتها الأخطر منذ نكبة 1948، مع استمرار المجازر، والتجويع، والتهجير القسري، والتوسع الاستيطاني في الضفة وغزة، بدعم امريكي سافر لحكومة نتنياهو الفاشية. وقد طرحت إدارة ترامب مبادرة تهدف إلى “توطين” نحو مليون فلسطيني في دول عربية، ضمن خطة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية. إن إحباط هذا المشروع الإجرامي يستدعي تصعيد التضامن الشعبي العربي والدولي، والضغط على الحكومات للتحرك الفوري من أجل وقف المجازر وإنقاذ مئات الآلاف من المدنيين المهددين بالجوع والموت.
ويتطلب تعزيز صمود الفلسطينيين وتحقيق حريتهم إنهاء الانقسام الداخلي وتحقيق الوحدة الوطنية، لمواصلة النضال المشروع، وتوحيد الصوت الفلسطيني في الساحات الدولية واستثمار مواقف الدول التي أعلنت اعترافها بدولة فلسطين، والداعية الى معاقبة إسرائيل لارتكابها جرائم حرب.
وفي القمة العربية الأخيرة، أكد “إعلان بغداد” أن القضية الفلسطينية هي “قضية الأمة الجوهرية”، داعياً إلى وقف الحرب، ورفض التهجير، ودعم الحقوق الفلسطينية. لكن هذه المواقف، كما في القمم السابقة، تبقى دون أثر إن لم تُترجم إلى إجراءات فعلية تقوم بها الدول، عبر تحرك مستقل وفعّال في المحافل الدولية، ولا سيما من العراق، باعتباره مستضيف القمة.
وفي سوريا، واصلت إسرائيل عدوانها لتقويض القدرات الدفاعية السورية، متوسعة في احتلال الجولان وإلغاء اتفاقية وقف إطلاق النار لعام 1974، مستفيدة من الفوضى التي أعقبت انهيار النظام أواخر العام الماضي. وأعلن ترامب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا استجابة لمطالب خليجية، رغم ان تلك العقوبات فُرضت بذريعة معاقبة النظام، لكنها تحولت الى عقاب جماعي أدى الى وقوع نحو 90% من السكان تحت خط الفقر.
وأعرب حزبنا عن تضامنه مع الشعب السوري وقواه الديمقراطية، مجدداً إدانته لقرار السلطة الجديدة حل تنظيمات الشيوعيين السوريين، داعياً إلى الغائه، واحترام الحريات الديمقراطية، وحق التنظيم السياسي، وبناء سوريا موحدة ومستقلة وفق إرادة شعبها الحرة.
كما سلّطت جولة ترامب الخليجية – التي شملت السعودية وقطر والإمارات – الضوء على الموقع الحيوي للمنطقة في معادلات الطاقة والاستثمار والصراع الدولي. وأسفرت الزيارة عن صفقات هائلة تجاوزت تريليوني دولار. وتندرج ضمن جهود أميركية لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، واستكمال مسار التطبيع مع إسرائيل الذي بدأ مع الإمارات والبحرين، وكاد يشمل السعودية قبيل أحداث 7 أكتوبر 2023. ويُعد قرار رفع العقوبات عن سوريا جزءاً من هذا التوجه الأميركي في سياق الصراع مع الصين، والذي يتجلى أيضاً في مشروع “الممر الاقتصادي من الهند إلى الشرق الأوسط وأوروبا”، المطروح بديلاً عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
أما على صعيد الملف النووي الإيراني، فما يزال احتمال انهيار المفاوضات بين ايران وأمريكا يثير مخاوف من ضربة إسرائيلية على منشآت إيران النووية، ما سيكون له تداعيات خطرة على الأمن والسلام الإقليميين.
وفي تطور لافت، أعلن حزب العمال الكردستاني تفكيك هياكله التنظيمية استجابة لنداء زعيمه المعتقل عبدالله أوجلان، الذي دعا في شباط الماضي إلى نزع السلاح. هذه الخطوة تفتح المجال أمام حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، وتؤثر إيجاباً على المسألة الكردية في سوريا. ويتوقف نجاح ذلك على مواقف حكومة أردوغان، وحجم التدخلات الخارجية، خصوصاً الأمريكية. كما يدعم هذا التطور مطالبة العراق بإنهاء الوجود العسكري التركي على أراضيه، المستند إلى ذريعة ملاحقة مقاتلي الحزب المذكور.
أما السودان، فيرزح تحت وطأة حرب كارثية مستمرة منذ عامين، اتسعت رقعتها وفاقمت معاناة الملايين، حيث نزح نحو 15 مليون شخص داخلياً أو إلى دول الجوار، ويواجه السكان المجاعة والأمراض والعنف، في ظل انسداد الأفق السياسي وتآكل السيادة. وتؤكد القوى الوطنية أولوية وقف الحرب، وحماية المدنيين، والتصدي لانتهاكات الأطراف المتنازعة التي تتصارع على السلطة والثروة. ويقترح الحزب الشيوعي السوداني تشكيل جبهة شعبية واسعة مناهضة للحرب، لانتزاع السلطة من المليشيات والعسكر، واستكمال مسار التغيير الجذري نحو دولة مدنية ديمقراطية مستقلة وموحدة.
وعلى الصعيد الدولي، يشهد العالم تسارعًا دراماتيكيًا في الأحداث منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتنصيبه رئيسًا في كانون الثاني الماضي، عقب فوز انتخابي منح الجمهوريين السيطرة على السلطات الثلاث في الحكومة الفيدرالية. وقد شكلت إدارته اليمينية المتطرفة، التي تُعد من بين الأكثر تطرفا في تاريخ الولايات المتحدة، نقطة انطلاق لتحولات جذرية في السياسة الخارجية، تمثلت بإطلاق "حرب باردة جديدة" ضد الصين، وتقديم دعم مطلق للعدوان الإسرائيلي على غزة.
تترافق هذه السياسات مع اشتداد الأزمة البنيوية للدول الرأسمالية المتطورة، جراء فشل السياسات الليبرالية الجديدة، وفي ظل تأجيج هستيريا الحرب وسباق التسلح. كما يتجلى في إدامة الحرب بين روسيا وأوكرانيا المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، وسط إصرار على رفض الحلول السياسية.
وفي أوروبا حققت الأحزاب الفاشية واليمينية المتطرفة صعودًا مقلقًا، ويترافق ذلك مع تبني سياسات عنصرية وهجمات على مكتسبات دولة الرفاه وحقوق الشعوب والشغيلة.
كما تراجعت مكانة الأمم المتحدة وأجهزتها، وفقدت فعاليتها في تسوية النزاعات الدولية، كما ظهر في أزمة الهند وباكستان، حيث اضطرت القوتان النوويتان للامتثال لجهود وساطة أميركية بدلاً من اللجوء الى المؤسسات الدولية.
وفي الداخل الأميركي، اتبعت إدارة ترامب سلسلة “أوامر تنفيذية” لمعالجة الأزمة الاقتصادية، منها فرض رسوم جمركية لحماية الصناعة الأميركية، لكنها أحدثت اضطرابًا في التجارة الدولية وأثارت تساؤلات حول مستقبل قواعدها، وأضعفت منظمة التجارة العالمية. وبالرغم من استخدامها كورقة تفاوضية في الحرب التجارية، فإن هذه السياسات أثبتت محدوديتها في استعادة القدرة التنافسية للولايات المتحدة، بسبب الإطار النيوليبرالي الحاكم لاقتصادها.
وتُعد مواجهة الصين محورًا استراتيجيًا في سياسة ترامب العالمية، حيث تعتبرها واشنطن التحدي الأكبر. فوفقًا لصندوق النقد الدولي، تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي بنسبة 23 في المائة من حيث تعادل القوة الشرائية، كما أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا، الشرق الأوسط، أمريكا اللاتينية، واليابان، والثالث لأوروبا. وتتماشى هذه السياسة مع “استراتيجية الأمن القومي الأميركي” لعام 2017، والتي تؤكد على “حفظ السلام عبر القوة”، وإعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية مع الصين.
في هذا السياق، يأتي التحول في موقف ترامب من روسيا والحرب في أوكرانيا، وقبوله ببعض شروط موسكو، كجزء من استراتيجية تهدف إلى عزل الصين وتفكيك تحالفاتها المحتملة. إلاّ أن الصراع مع الصين يختلف نوعيًا عن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، نظرًا للتشابك العميق بين الاقتصادين في مجالات التجارة، والديون، والتكنولوجيا، وسلاسل التوريد، ما يجعل هذه "الحرب الباردة الجديدة" أكثر تعقيدًا وتهديدًا للاستقرار العالمي.
من جانب آخر، تواجه السياسات الأميركية رفضًا متزايدًا في أمريكا اللاتينية وأوروبا، إلى جانب اتساع رقعة الاحتجاجات داخل الولايات المتحدة، ضد قرارات تمس الهجرة، وتقليص الوظائف الفيدرالية، والانحراف نحو الاستبداد، وكذلك بسبب الدعم الأميركي لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة.
ان السلام العالمي يواجه مستقبلا محفوفا بمخاطر جسيمة غير مسبوقة جراء سياسات القوى الإمبريالية وحلفائها. وإزاء هذه التحديات تواجه أحزابنا الشيوعية وقوى اليسار، في العالم وفي كل بلد، مهمات ملحة تستدعي تعزيز وحدتها والتنسيق بينها، وبناء جبهات واسعة من أجل السلام والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، وطرح بدائل ورؤى من أجل تحقيق تغيير جذري. انها مهمة ملحة لإنقاذ شعوبها والإنسانية من كوارث وشيكة، ولتحقيق تطلعاتها نحو نظام اجتماعي جديد يقوم على قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة والتعاون، وهي القيم الأساسية للاشتراكية.