سيكون عام 2024 هو العام الانتخابي الضخم في النمسا. ويمكن للحزب الشيوعي النمساوي أن يتولى منصب عمدة مدينة سالزبورغ، في حين أن بقية البلاد مُعرضة لخطر الغرق في مستنقع اليمين المتطرف.
لقد مرت خمس سنوات تقريباً بعد حل حكومة سيباستيان كورتس (مستشار النمسا السابق) وهاينز كريستيان شتراخه (نائب المستشار) في أعقاب "قضية إيبيزا"، هي فضيحة سياسية هزّت النمسا وتوّرطَ فيها عدد من الساسة النمساويين، بما في ذلكَ هاينز كريستيان شتراخه نائب المستشار وزعيم حزب الحرية، وكذلك يوهان غودنوس نائب زعيم حزب الحرية. حصلت الفضيحة في 17 أيار 2019 بعد تسريبِ شريط فيديو تم تسجيله بشكل سري خلال إجتماع عُقد في تموز 2017 في جزيرة إيبيزا بإسبانيا ويظهر فيه السياسيان المعارضان آنذاك، شتراخه وغودنوس، وهما بصدد مناقشة ممارسات حزبهم ونواياهم الخفية.
في إنتخابات المجلس الوطني اللاحقة عام 2019، خسر حزب الحرية النمساوي ما يقرب من 10 في المئة، وكان الكثيرون في البلاد يأملون أن يستغرق حزب الحرية سنوات حتى يتعافى من هذه النكسة. ولم يكن الأمل بلا أساس. لكنه وفي نهاية المطاف، تم الكشف مرة أخرى عن حزب الحرية النمساوي باعتباره حزباً فاسداً، فقد قوته الدافعة، وعانى من هزائم انتخابية مختلفة على مستوى الولايات بعد طرده من الحكومة وأضطر إلى الصراع مع النزاعات الداخلية.
ومع ظهور جائحة كورونا وموجة التضخم الهائلة في وقت لاحق، لم يتبق سوى القليل من هذا الأمل. ولهذا سيتم في عام 2024 إنتخاب مجلس محلي جديد في كل من سالزبورغ وإنسبروك، وبرلمان ولاية جديد في شتايرمارك وفورارلبيرغ، وبرلمان جديد للاتحاد الأوروبي، وأخيرا المجلس الوطني.
بالنسبة الى اليمين، فإن التوقعات، وخاصة فيما يتعلق بالحكومة الفيدرالية، لا يمكن أن تكون أفضل. كان رئيس حزب الحرية النمساوي، هربرت كيكل، لأشهر عدة يتصدر جميع إستطلاعات الرأي لانتخابات المجلس الوطني بهامش أكبر أو أقل. وتبلغ نسبة التأييد لحزبه حوالي 30 في المئة، ويمكن أن يعيّن كمستشار في الخريف.
وظل الأمل اليساري للحزب الديمقراطي الاجتماعي، المتمثل بأندرياس بابلر، في حالة ركود منذ توليه منصبه. كما فقد حزب الخضر قدراً كبيراً من الأصالة في إئتلافهم المتململ مع حزب الشعب. ولكن للمرة الأولى منذ عقود من الزمن، أصبح الحزب الشيوعي النمساوي بديلا قابلا للانتخاب. والمتوقع في ولاية شتايرمارك تحقيق مكاسب. فبعد فوز إيلكه كار في الانتخابات قبل عامين في مدينة غراتس، أصبح الآن لدى رفيقها في الحزب، كاي ميشيل دانكل، فرصة جيدة ليصبح عمدة سالزبورغ. وهناك إمكانية لدخول الشيوعي النمساوي المجلس الوطني في الخريف.
فالرياح الجيدة قادمة من شيوعيي النمسا عام 2024، ومن كونه سيستفيد من حقيقة أن الانتخابات ستجرى في الولايات الفيدرالية، التي نجح فيها في السنوات السابقة. وسيشمل ذلك قبل كل شئ شتايرمارك، حيث يُمثّل الحزب الشيوعي في برلمان الولاية منذ عام 2005. ويتوقع إستطلاع جديد أن يحصل الشيوعيون على 14 بالمئة بالمقارنة مع عام 2019، حيث ستكون الزيادة أكثر من الضعف. وحتى لو لم تحل استطلاعات الرأي محل نتائج الانتخابات، فهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الحزب سوف يحقق مكاسب كبيرة.
كان عهد عمدة غراتس، إيلكه كار، خالياً من خيبات الأمل. على العكس، تم تكريمها كأفضل عمدة في العالم لعام 2023. وقال البيان إنه قد "تم تكريمها لالتزامها المتفاني تجاه مدينتها ومواطنيها".
كما أن محاولات المعارضين السياسيين لإلحاق الضرر بالحزب الشيوعي ولمواقفهم في السياسة الخارجية لم تسفر في الغالب عن شىء.
لقد أثبت الحزب في معاقله من أنه بديل فعال لخيبة الأمل والتبرم السياسي في الولايات الفيدرالية. وتُظهر تحليلات اصوات الناخبين، أن الحزب حقق مكاسب بالمقارنة مع جميع الأحزاب في انتخابات رئاسة بلدية غراتس لعام 2021، وأن إيلكا كار كانت قادرةً وبشكل خاص على تسجيل نقاط لحزبها بين غير الناخبين.
ويصل تحليل إنتخابات ولاية سالزبورغ أيضاً إلى نتائج مماثلة. وأصبح كاي ميشيل دانكل أكثر شعبية منذ فوزه في إنتخابات العام الماضي بنسبة 11.7 في المئة. وفي كانون الأول الماضي، حصل على أفضل معدلات الثقة في برلمان الولاية. وسوف يُرشح في الربيع لمنصب عمدة مدينة سالزبورغ. وهي فرصة جيدة.
وكما هو الحال في الحملة الانتخابية للولاية، فإنه يركز بشكل خاص على قضية الإسكان - بالضرب على وتر حساس في ثاني أغلى مدينة في البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يتخلى أعضاء البرلمان الشيوعيون في سالزبورغ، كما هو الحال في شتايرمارك، عن جزءٍ من رواتبهم. ويحتفظ عضو البرلمان في سالزبورغ بحوالي 2400 يورو لنفسه، ويذهب الباقي إلى الأشخاص لحالات الطوارئ. ففي عام 2023، تم جمع مبلغ قدره 45,626.60 يورو. وقام الشيوعيون في شتايرمارك بجمع وإعادة توزيع 3.2 مليون يورو من خلال مساهمات الرواتب ومنذ عام 1998. وهذه الوصفة تجعل الحزب الشيوعي وبرنامجه الاجتماعي يتمتعان بمصداقية كبيرة إلى الحد الذي يجعل من الممكن أيضاً، بعد مدينة غراتس، ثاني أكبر مدينة في النمسا، أن يحكم الشيوعيون رابع أكبر مدينة، سالزبورغ، إعتباراً من الربيع القادم.
مثل هذا النجاح في سالزبورغ يمكن أن يعطي دفعة أيضاً لبيا توميدي، المرشحة الأولى للحزب الشيوعي في إنسبروك.
وفي تيرول، لا يزال الحزب في مراحله الأولى، ويجري حالياً جمع التواقيع حتى يتمكن من خوض إنتخابات المجالس المحلية في نيسان. وليس من المستبعد أن تنجح الوصفة القادمة من غراتس وسالزبورغ في تيرول أيضاً. إنسبروك هي أغلى مدينة في النمسا، والديمقراطية الاجتماعية ضعيفة تقليدياً في هذه الدولة السوداء العميقة. ويركز شيوعيون مثل دانكل ،كار، وتوميدي بشكل خاص على موضوع الإسكان. وفي كلتا الولايتين الفيدراليتين، بدأ نجاح الحزب الشيوعي بدخوله إلى المجلس المحلي هناك.
ومن الممكن أن تمنح هذه الانتخابات الحزب الشيوعي النمساوي الفرصة اللازمة لدخول المجلس الوطني في الخريف. سيكون ذلك بمثابة ضجة كبيرة، فالحزب لم يكن ممثلاً هناك منذ عام 1959. ولكن من المؤسف أن هذا ليس سبباً كافياً للاحتفال. لأنه على نطاق أوسع، فإن نجاح حزب الشيوعيين قد طغت عليه التوقعات الكبيرة لحزب الحرية النمساوي القومي.
وتتوقع النمسا على الأرجح أن يشارك حزب الحرية في الحكومة مرة أخرى - بدعم من حزب الشعب المحافظ. ورغم أنهم يؤكدون، إبتداء من المستشار كارل نيهامر، أنهم لن يشكلوا إئتلافاً مع حزب الحرية النمساوي تحت قيادة هربرت كيكل، فلا يوجد سبب يجعلنا نصدق هذا الوعد المُتراخي. وبصرف النظر عن ذلك، فإن حزب الحرية هو الحزب اليميني المتطرف نفسه مع كيكل وبدونه. بل إن الكثيرين يثقون في أن حزب الحرية لن يجعل حزب الشعب الشريك الصغير فحسب، بل أيضاً حزب المستشار.
في النمسا، على عكس ألمانيا، لم يعد العمل مع المتطرفين اليمينيين من المحرمات. ويشكل ما يسمى بالمعسكر الثالث، إلى جانب حزب الشعب والحزب الديمقراطي الأجتماعي، جزءاً لا يتجزأ من نظام ما بعد الحرب. عام 1949 تأسست رابطة المستقلين، والتي أصبحت فيما بعد بإسم حزب الحرية. وبعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية، أتيحت للنازيين القدامى والقوميين الألمان الفرصة لإعادة تنظيم أنفسهم في حزبهم الخاص. ومنذ الثمانينيات، قام يورغ هايدر (توفى في حادث سيارة) بتحويل حزب الحرية النمساوي إلى نموذج أولي لما يشار إليه الآن في معظم وسائل الإعلام باسم "الحزب الشعبوي اليميني". وقبل عشرين عاماً من تأسيس حزب البديل من أجل ألمانيا، حقق حزب الحرية النمساوي بالفعل 22 في المئة من الأصوات في إنتخابات المجلس الوطني.
لسنوات عديدة، كان التعامل مع حزب الحرية في النمسا بنفس الطريقة التي يُعامل بها (حزب البديل من أجل ألمانيا) في ألمانيا اليوم. فقد نأى المحافظون والديمقراطيون الاجتماعيون بأنفسهم عنه وأكدوا قبل الانتخابات أنه لن يكون هناك تحالف مع حزب الحرية.
في عام 1999، أعلن فولفغانغ شوسيل من حزب الشعب عن اختراق حاسم للسد، فتحالف مع حزب الحرية على المستوى الفيدرالي. لقد تم هدم "جدار الحماية" ضد المتطرفين اليمينيين، والذي لا يزال العديد من الألمان يتشبثون به حتى اليوم، والذي بدأ في النمسا في التسعينيات.
وفي عهد سيباستيان كورتس، الذي لم يختلف كثيراً في خطابه عن حزب الحرية، تم تعزيز التضامن مع المتطرفين اليمينيين بالكامل. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الائتلافات بين السود والزرق هي الوضع الطبيعي الجديد، وخاصة في الولايات الفيدرالية. وفي سالزبورغ والنمسا السفلى، يحكم حزب الحرية النمساوي مع حزب الشعب النمساوي منذ عام 2023 بعد إنتصارات انتخابية كبيرة.
في النمسا العليا، كانت الأمور متناغمة بين الحزبين منذ عام 2015 - وربما تكون الدولة هنا وسوء طالعها، حيث مكان ولادة كل من أدولف هتلر ويورغ هايدر.
ومنذ التحول إلى اليمين، خاصة تحت قيادة سيباستيان كورتس، أصبح حزب الشعب أقرب من الناحية الأيديولوجية إلى حزب الحرية، منه إلى حزب الخضر والديمقراطي الإجتماعي، وفي الحكومة الحالية المؤتلفة مع حزب الخضر. ويتعين على حزب الشعب أن يتعامل مع الأسئلة المزعجة التي تطرح عليه مراراً وتكراراً. وهذا يشمل مطالبات حزب الخضر بقانون جديد لحماية المناخ طويل الأمد. من ناحية أخرى، يمكن لحزب الشعب أن يتفق بسرعة كبيرة مع حزب الحرية على نقاط رئيسية: حماية أقل للمناخ، وقوانين هجرة أكثر عنصرية، و"دولة أصغر حجما".
فالبرنامج الأقتصادي لحزب الحرية عام 2017 يدعو إلى إعانة الأثرياء والشركات وتوفير الإعانات الاجتماعية. وليس من قبيل الصدفة أن يتطابق ذلك مع حزب الحرية في نهاية المطاف، فكلاهما يخدمان في المقام الأول سياسة ومصالح الطبقة العليا.
وخلافاً للاعتقاد السائد، فإن مشاركة حزب الحرية في الحكومة الفيدرالية لم تُلحق الضرر به حتى الآن إلا لفترة قصيرة. ولم "يشعر الحزب بالإحباط" قط، ولم يشعر الشعب النمساوي بالرعب فجأة بسبب تطرفه اليميني. كما لم تجد الأحزاب الأخرى وصفة فعالة ضد حزب الحرية. وكانت مكائد حزب الحرية الفاسدة أو نزاعاته الداخلية هي التي أدت دائماً إلى سقوط الحزب. لكنها اليوم، و بعد خمس سنوات من أكبر فضيحة فساد لها، أصبحت أقوى من أي وقت مضى.
دولة يمينية؟
وبدلاً من مواجهة حزب الحرية برواياته الخاصة وموقفه السياسي الثابت، اعتمدت الأحزاب النمساوية دائماً وبخطوات تدريجية على تبني مواقف حزب الحرية.
ما يحاوله إيمانويل ماكرون ضد حزب التجمع الوطني في فرنسا، أو فريدريش ميرز (رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني) ضد حزب البديل من أجل ألمانيا، كان ممارسة شائعة في النمسا لسنوات عديدة، إن لم يكن لعقود من الزمن. ولهذا السبب أصبحت مطالب حزب الحرية النمساوي السابقة سائدة الآن، خاصة في مجالات اللجوء والهجرة. ولم يستفد أحد من ذلك على المدى الطويل باستثناء حزب الحرية نفسه.
لفترة طويلة، لم يجرؤ الحزب الديمقراطي الأجتماعي وحزب الشعب على تطوير مواقفهما الخاصة بشأن هذه الأسئلة. حيث إستندا إلى رواية وجود "أغلبية يمينية" لا يمكن دحضها في البلاد، ومضمونها أن النمساويين هم ببساطة يمينيون إجتماعياً، وليس هناك ما يمكن كسبه من مواضيع اليسار.
صحيح أن الأحزاب اليمينية في النمسا كانت تحظى دائماً بالأغلبية في السنوات الأخيرة، لكن قبول ذلك كواقع لا رجعة فيه كان خطأً كبيراً، وخاصة بالنسبة للحزب الديمقراطي الاجتماعي. لا أحد يولد يمينياً أو فاشياً، ولا حتى في النمسا. يجب النضال من أجل الأغلبية. أعلن اليساريون مراراً وتكراراً، وكأنهم يرددون تعويذة، أن هناك حاجة إلى عروض سياسية ذات مصداقية ــ عروض تعمل على تحسين شىء ما بشكل ملحوظ في حياة الناس اليومية.
ويحاول أندرياس بابلر، زعيم الحزب الديمقراطي الأجتماعي ولمدة ستة أشهر تقريباً، تنفيذ هذه العقيدة داخل حزبه. وقد نجح في ذلك، من خلال الخلاف حول إتجاه الحملة الانتخابية الداخلية لحزبه، والذي دار بينه وبين هانز بيتر دوسكوزيل، الذي كان يعتبر يمينياً في الربيع الماضي.
وعلى مدى أسابيع، لم تتحدث وسائل الإعلام النمساوية عن المواضيع التي حددها حزب الحرية النمساوي - اللجوء والهجرة - ولكن عن تخفيض ساعات العمل، والضرائب على أصحاب الثروات، والمساواة في الأجر للنساء.
لكن بابلر أصبح في موقف أكثر صعوبة، إذ يتعين عليه الآن أن يوحّد خلفه مُعجبيه ومُعارضيه على حد سواء. وأنتشرت المخاوف بين اليساريين من إحتمال فشله بسبب الهياكل المحافظة لحزبه وأفكار رفاقه اليمينيين ــ تماماً كما فعل جيريمي كوربن في حزب العمال قبل بضع سنوات.
وفي مقابلة مع صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، شرح بابلر مؤخراً ظهوره العلني الأكثر تحفظاً على النحو التالي: "لقد رأينا وفي موقف صعب أنه كان علينا أولاً أن نوجه طاقاتنا إلى الداخل من أجل توحيد الحزب". وفي المرحلة التالية، تم تشكيل "موضوع واسع النطاق"، يعمل على المستوى الخارجي. ومن الضروري بشدة أن ينجح بابلر في هذا التغيير.
وهو حالياً يحتل المركز الثاني في معظم استطلاعات انتخابات المجلس الوطني. ومن أجل التغلب على كيكل، عليه أن يعيد روحية حملة الديمقراطي الإجتماعي السابقة للانتخابات الفيدرالية. وعليه أن يقف بشكل حاسم من أجل مطالبه - بغض النظر عما إذا كان ذلك يجلب له انتقادات داخلية من خصومه في الولايات الفيدرالية. عليه أن يُثبت أن حزبه تحت السيطرة ويجب ألاّ يسمح لنفسه بالانزعاج بسبب "مداخلات" من اليمينيين في صفوفه، ومنهم هانز بيتر دوسكوزيل من بورغنلاند أو تعليقات جورج دورناور المزعجة من تيرول.
إن النجاح الذي يحققه الحزب الديمقراطي الأجتماعي، والانتعاش الإقليمي للحزب الشيوعي النمساوي، كما هو واضح حالياً، لا يكفي لمنع السيناريو الأسوأ المتمثل في تولي حزب الحرية النمساوي منصب المستشار هذا العام. لكن ما يحدث في شتايرمارك وسالزبورغ يعطي الأمل بأوقات أفضل. لأنه في "جزر المقاومة" اليسارية، كما أسمتها إيلكا كار ذات يوم، ثبت أن سياسة تجاوز البرود الاجتماعي والتحريض العنصري أمر ممكن.
سيكون عام 2024 هو العام الانتخابي الضخم في النمسا. ويمكن للحزب الشيوعي النمساوي أن يتولى منصب عمدة مدينة سالزبورغ، في حين أن بقية البلاد مُعرضة لخطر الغرق في مستنقع اليمين المتطرف.
لقد مرت خمس سنوات تقريباً بعد حل حكومة سيباستيان كورتس (مستشار النمسا السابق) وهاينز كريستيان شتراخه (نائب المستشار) في أعقاب "قضية إيبيزا"، هي فضيحة سياسية هزّت النمسا وتوّرطَ فيها عدد من الساسة النمساويين، بما في ذلكَ هاينز كريستيان شتراخه نائب المستشار وزعيم حزب الحرية، وكذلك يوهان غودنوس نائب زعيم حزب الحرية. حصلت الفضيحة في 17 أيار 2019 بعد تسريبِ شريط فيديو تم تسجيله بشكل سري خلال إجتماع عُقد في تموز 2017 في جزيرة إيبيزا بإسبانيا ويظهر فيه السياسيان المعارضان آنذاك، شتراخه وغودنوس، وهما بصدد مناقشة ممارسات حزبهم ونواياهم الخفية.
في إنتخابات المجلس الوطني اللاحقة عام 2019، خسر حزب الحرية النمساوي ما يقرب من 10 في المئة، وكان الكثيرون في البلاد يأملون أن يستغرق حزب الحرية سنوات حتى يتعافى من هذه النكسة. ولم يكن الأمل بلا أساس. لكنه وفي نهاية المطاف، تم الكشف مرة أخرى عن حزب الحرية النمساوي باعتباره حزباً فاسداً، فقد قوته الدافعة، وعانى من هزائم انتخابية مختلفة على مستوى الولايات بعد طرده من الحكومة وأضطر إلى الصراع مع النزاعات الداخلية.
ومع ظهور جائحة كورونا وموجة التضخم الهائلة في وقت لاحق، لم يتبق سوى القليل من هذا الأمل. ولهذا سيتم في عام 2024 إنتخاب مجلس محلي جديد في كل من سالزبورغ وإنسبروك، وبرلمان ولاية جديد في شتايرمارك وفورارلبيرغ، وبرلمان جديد للاتحاد الأوروبي، وأخيرا المجلس الوطني.
بالنسبة الى اليمين، فإن التوقعات، وخاصة فيما يتعلق بالحكومة الفيدرالية، لا يمكن أن تكون أفضل. كان رئيس حزب الحرية النمساوي، هربرت كيكل، لأشهر عدة يتصدر جميع إستطلاعات الرأي لانتخابات المجلس الوطني بهامش أكبر أو أقل. وتبلغ نسبة التأييد لحزبه حوالي 30 في المئة، ويمكن أن يعيّن كمستشار في الخريف.
وظل الأمل اليساري للحزب الديمقراطي الاجتماعي، المتمثل بأندرياس بابلر، في حالة ركود منذ توليه منصبه. كما فقد حزب الخضر قدراً كبيراً من الأصالة في إئتلافهم المتململ مع حزب الشعب. ولكن للمرة الأولى منذ عقود من الزمن، أصبح الحزب الشيوعي النمساوي بديلا قابلا للانتخاب. والمتوقع في ولاية شتايرمارك تحقيق مكاسب. فبعد فوز إيلكه كار في الانتخابات قبل عامين في مدينة غراتس، أصبح الآن لدى رفيقها في الحزب، كاي ميشيل دانكل، فرصة جيدة ليصبح عمدة سالزبورغ. وهناك إمكانية لدخول الشيوعي النمساوي المجلس الوطني في الخريف.
فالرياح الجيدة قادمة من شيوعيي النمسا عام 2024، ومن كونه سيستفيد من حقيقة أن الانتخابات ستجرى في الولايات الفيدرالية، التي نجح فيها في السنوات السابقة. وسيشمل ذلك قبل كل شئ شتايرمارك، حيث يُمثّل الحزب الشيوعي في برلمان الولاية منذ عام 2005. ويتوقع إستطلاع جديد أن يحصل الشيوعيون على 14 بالمئة بالمقارنة مع عام 2019، حيث ستكون الزيادة أكثر من الضعف. وحتى لو لم تحل استطلاعات الرأي محل نتائج الانتخابات، فهناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الحزب سوف يحقق مكاسب كبيرة.
كان عهد عمدة غراتس، إيلكه كار، خالياً من خيبات الأمل. على العكس، تم تكريمها كأفضل عمدة في العالم لعام 2023. وقال البيان إنه قد "تم تكريمها لالتزامها المتفاني تجاه مدينتها ومواطنيها".
كما أن محاولات المعارضين السياسيين لإلحاق الضرر بالحزب الشيوعي ولمواقفهم في السياسة الخارجية لم تسفر في الغالب عن شىء.
لقد أثبت الحزب في معاقله من أنه بديل فعال لخيبة الأمل والتبرم السياسي في الولايات الفيدرالية. وتُظهر تحليلات اصوات الناخبين، أن الحزب حقق مكاسب بالمقارنة مع جميع الأحزاب في انتخابات رئاسة بلدية غراتس لعام 2021، وأن إيلكا كار كانت قادرةً وبشكل خاص على تسجيل نقاط لحزبها بين غير الناخبين.
ويصل تحليل إنتخابات ولاية سالزبورغ أيضاً إلى نتائج مماثلة. وأصبح كاي ميشيل دانكل أكثر شعبية منذ فوزه في إنتخابات العام الماضي بنسبة 11.7 في المئة. وفي كانون الأول الماضي، حصل على أفضل معدلات الثقة في برلمان الولاية. وسوف يُرشح في الربيع لمنصب عمدة مدينة سالزبورغ. وهي فرصة جيدة.
وكما هو الحال في الحملة الانتخابية للولاية، فإنه يركز بشكل خاص على قضية الإسكان - بالضرب على وتر حساس في ثاني أغلى مدينة في البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، يتخلى أعضاء البرلمان الشيوعيون في سالزبورغ، كما هو الحال في شتايرمارك، عن جزءٍ من رواتبهم. ويحتفظ عضو البرلمان في سالزبورغ بحوالي 2400 يورو لنفسه، ويذهب الباقي إلى الأشخاص لحالات الطوارئ. ففي عام 2023، تم جمع مبلغ قدره 45,626.60 يورو. وقام الشيوعيون في شتايرمارك بجمع وإعادة توزيع 3.2 مليون يورو من خلال مساهمات الرواتب ومنذ عام 1998. وهذه الوصفة تجعل الحزب الشيوعي وبرنامجه الاجتماعي يتمتعان بمصداقية كبيرة إلى الحد الذي يجعل من الممكن أيضاً، بعد مدينة غراتس، ثاني أكبر مدينة في النمسا، أن يحكم الشيوعيون رابع أكبر مدينة، سالزبورغ، إعتباراً من الربيع القادم.
مثل هذا النجاح في سالزبورغ يمكن أن يعطي دفعة أيضاً لبيا توميدي، المرشحة الأولى للحزب الشيوعي في إنسبروك.
وفي تيرول، لا يزال الحزب في مراحله الأولى، ويجري حالياً جمع التواقيع حتى يتمكن من خوض إنتخابات المجالس المحلية في نيسان. وليس من المستبعد أن تنجح الوصفة القادمة من غراتس وسالزبورغ في تيرول أيضاً. إنسبروك هي أغلى مدينة في النمسا، والديمقراطية الاجتماعية ضعيفة تقليدياً في هذه الدولة السوداء العميقة. ويركز شيوعيون مثل دانكل ،كار، وتوميدي بشكل خاص على موضوع الإسكان. وفي كلتا الولايتين الفيدراليتين، بدأ نجاح الحزب الشيوعي بدخوله إلى المجلس المحلي هناك.
ومن الممكن أن تمنح هذه الانتخابات الحزب الشيوعي النمساوي الفرصة اللازمة لدخول المجلس الوطني في الخريف. سيكون ذلك بمثابة ضجة كبيرة، فالحزب لم يكن ممثلاً هناك منذ عام 1959. ولكن من المؤسف أن هذا ليس سبباً كافياً للاحتفال. لأنه على نطاق أوسع، فإن نجاح حزب الشيوعيين قد طغت عليه التوقعات الكبيرة لحزب الحرية النمساوي القومي.
وتتوقع النمسا على الأرجح أن يشارك حزب الحرية في الحكومة مرة أخرى - بدعم من حزب الشعب المحافظ. ورغم أنهم يؤكدون، إبتداء من المستشار كارل نيهامر، أنهم لن يشكلوا إئتلافاً مع حزب الحرية النمساوي تحت قيادة هربرت كيكل، فلا يوجد سبب يجعلنا نصدق هذا الوعد المُتراخي. وبصرف النظر عن ذلك، فإن حزب الحرية هو الحزب اليميني المتطرف نفسه مع كيكل وبدونه. بل إن الكثيرين يثقون في أن حزب الحرية لن يجعل حزب الشعب الشريك الصغير فحسب، بل أيضاً حزب المستشار.
في النمسا، على عكس ألمانيا، لم يعد العمل مع المتطرفين اليمينيين من المحرمات. ويشكل ما يسمى بالمعسكر الثالث، إلى جانب حزب الشعب والحزب الديمقراطي الأجتماعي، جزءاً لا يتجزأ من نظام ما بعد الحرب. عام 1949 تأسست رابطة المستقلين، والتي أصبحت فيما بعد بإسم حزب الحرية. وبعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية، أتيحت للنازيين القدامى والقوميين الألمان الفرصة لإعادة تنظيم أنفسهم في حزبهم الخاص. ومنذ الثمانينيات، قام يورغ هايدر (توفى في حادث سيارة) بتحويل حزب الحرية النمساوي إلى نموذج أولي لما يشار إليه الآن في معظم وسائل الإعلام باسم "الحزب الشعبوي اليميني". وقبل عشرين عاماً من تأسيس حزب البديل من أجل ألمانيا، حقق حزب الحرية النمساوي بالفعل 22 في المئة من الأصوات في إنتخابات المجلس الوطني.
لسنوات عديدة، كان التعامل مع حزب الحرية في النمسا بنفس الطريقة التي يُعامل بها (حزب البديل من أجل ألمانيا) في ألمانيا اليوم. فقد نأى المحافظون والديمقراطيون الاجتماعيون بأنفسهم عنه وأكدوا قبل الانتخابات أنه لن يكون هناك تحالف مع حزب الحرية.
في عام 1999، أعلن فولفغانغ شوسيل من حزب الشعب عن اختراق حاسم للسد، فتحالف مع حزب الحرية على المستوى الفيدرالي. لقد تم هدم "جدار الحماية" ضد المتطرفين اليمينيين، والذي لا يزال العديد من الألمان يتشبثون به حتى اليوم، والذي بدأ في النمسا في التسعينيات.
وفي عهد سيباستيان كورتس، الذي لم يختلف كثيراً في خطابه عن حزب الحرية، تم تعزيز التضامن مع المتطرفين اليمينيين بالكامل. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الائتلافات بين السود والزرق هي الوضع الطبيعي الجديد، وخاصة في الولايات الفيدرالية. وفي سالزبورغ والنمسا السفلى، يحكم حزب الحرية النمساوي مع حزب الشعب النمساوي منذ عام 2023 بعد إنتصارات انتخابية كبيرة.
في النمسا العليا، كانت الأمور متناغمة بين الحزبين منذ عام 2015 - وربما تكون الدولة هنا وسوء طالعها، حيث مكان ولادة كل من أدولف هتلر ويورغ هايدر.
ومنذ التحول إلى اليمين، خاصة تحت قيادة سيباستيان كورتس، أصبح حزب الشعب أقرب من الناحية الأيديولوجية إلى حزب الحرية، منه إلى حزب الخضر والديمقراطي الإجتماعي، وفي الحكومة الحالية المؤتلفة مع حزب الخضر. ويتعين على حزب الشعب أن يتعامل مع الأسئلة المزعجة التي تطرح عليه مراراً وتكراراً. وهذا يشمل مطالبات حزب الخضر بقانون جديد لحماية المناخ طويل الأمد. من ناحية أخرى، يمكن لحزب الشعب أن يتفق بسرعة كبيرة مع حزب الحرية على نقاط رئيسية: حماية أقل للمناخ، وقوانين هجرة أكثر عنصرية، و"دولة أصغر حجما".
فالبرنامج الأقتصادي لحزب الحرية عام 2017 يدعو إلى إعانة الأثرياء والشركات وتوفير الإعانات الاجتماعية. وليس من قبيل الصدفة أن يتطابق ذلك مع حزب الحرية في نهاية المطاف، فكلاهما يخدمان في المقام الأول سياسة ومصالح الطبقة العليا.
وخلافاً للاعتقاد السائد، فإن مشاركة حزب الحرية في الحكومة الفيدرالية لم تُلحق الضرر به حتى الآن إلا لفترة قصيرة. ولم "يشعر الحزب بالإحباط" قط، ولم يشعر الشعب النمساوي بالرعب فجأة بسبب تطرفه اليميني. كما لم تجد الأحزاب الأخرى وصفة فعالة ضد حزب الحرية. وكانت مكائد حزب الحرية الفاسدة أو نزاعاته الداخلية هي التي أدت دائماً إلى سقوط الحزب. لكنها اليوم، و بعد خمس سنوات من أكبر فضيحة فساد لها، أصبحت أقوى من أي وقت مضى.
دولة يمينية؟
وبدلاً من مواجهة حزب الحرية برواياته الخاصة وموقفه السياسي الثابت، اعتمدت الأحزاب النمساوية دائماً وبخطوات تدريجية على تبني مواقف حزب الحرية.
ما يحاوله إيمانويل ماكرون ضد حزب التجمع الوطني في فرنسا، أو فريدريش ميرز (رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني) ضد حزب البديل من أجل ألمانيا، كان ممارسة شائعة في النمسا لسنوات عديدة، إن لم يكن لعقود من الزمن. ولهذا السبب أصبحت مطالب حزب الحرية النمساوي السابقة سائدة الآن، خاصة في مجالات اللجوء والهجرة. ولم يستفد أحد من ذلك على المدى الطويل باستثناء حزب الحرية نفسه.
لفترة طويلة، لم يجرؤ الحزب الديمقراطي الأجتماعي وحزب الشعب على تطوير مواقفهما الخاصة بشأن هذه الأسئلة. حيث إستندا إلى رواية وجود "أغلبية يمينية" لا يمكن دحضها في البلاد، ومضمونها أن النمساويين هم ببساطة يمينيون إجتماعياً، وليس هناك ما يمكن كسبه من مواضيع اليسار.
صحيح أن الأحزاب اليمينية في النمسا كانت تحظى دائماً بالأغلبية في السنوات الأخيرة، لكن قبول ذلك كواقع لا رجعة فيه كان خطأً كبيراً، وخاصة بالنسبة للحزب الديمقراطي الاجتماعي. لا أحد يولد يمينياً أو فاشياً، ولا حتى في النمسا. يجب النضال من أجل الأغلبية. أعلن اليساريون مراراً وتكراراً، وكأنهم يرددون تعويذة، أن هناك حاجة إلى عروض سياسية ذات مصداقية ــ عروض تعمل على تحسين شىء ما بشكل ملحوظ في حياة الناس اليومية.
ويحاول أندرياس بابلر، زعيم الحزب الديمقراطي الأجتماعي ولمدة ستة أشهر تقريباً، تنفيذ هذه العقيدة داخل حزبه. وقد نجح في ذلك، من خلال الخلاف حول إتجاه الحملة الانتخابية الداخلية لحزبه، والذي دار بينه وبين هانز بيتر دوسكوزيل، الذي كان يعتبر يمينياً في الربيع الماضي.
وعلى مدى أسابيع، لم تتحدث وسائل الإعلام النمساوية عن المواضيع التي حددها حزب الحرية النمساوي - اللجوء والهجرة - ولكن عن تخفيض ساعات العمل، والضرائب على أصحاب الثروات، والمساواة في الأجر للنساء.
لكن بابلر أصبح في موقف أكثر صعوبة، إذ يتعين عليه الآن أن يوحّد خلفه مُعجبيه ومُعارضيه على حد سواء. وأنتشرت المخاوف بين اليساريين من إحتمال فشله بسبب الهياكل المحافظة لحزبه وأفكار رفاقه اليمينيين ــ تماماً كما فعل جيريمي كوربن في حزب العمال قبل بضع سنوات.
وفي مقابلة مع صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، شرح بابلر مؤخراً ظهوره العلني الأكثر تحفظاً على النحو التالي: "لقد رأينا وفي موقف صعب أنه كان علينا أولاً أن نوجه طاقاتنا إلى الداخل من أجل توحيد الحزب". وفي المرحلة التالية، تم تشكيل "موضوع واسع النطاق"، يعمل على المستوى الخارجي. ومن الضروري بشدة أن ينجح بابلر في هذا التغيير.
وهو حالياً يحتل المركز الثاني في معظم استطلاعات انتخابات المجلس الوطني. ومن أجل التغلب على كيكل، عليه أن يعيد روحية حملة الديمقراطي الإجتماعي السابقة للانتخابات الفيدرالية. وعليه أن يقف بشكل حاسم من أجل مطالبه - بغض النظر عما إذا كان ذلك يجلب له انتقادات داخلية من خصومه في الولايات الفيدرالية. عليه أن يُثبت أن حزبه تحت السيطرة ويجب ألاّ يسمح لنفسه بالانزعاج بسبب "مداخلات" من اليمينيين في صفوفه، ومنهم هانز بيتر دوسكوزيل من بورغنلاند أو تعليقات جورج دورناور المزعجة من تيرول.
إن النجاح الذي يحققه الحزب الديمقراطي الأجتماعي، والانتعاش الإقليمي للحزب الشيوعي النمساوي، كما هو واضح حالياً، لا يكفي لمنع السيناريو الأسوأ المتمثل في تولي حزب الحرية النمساوي منصب المستشار هذا العام. لكن ما يحدث في شتايرمارك وسالزبورغ يعطي الأمل بأوقات أفضل. لأنه في "جزر المقاومة" اليسارية، كما أسمتها إيلكا كار ذات يوم، ثبت أن سياسة تجاوز البرود الاجتماعي والتحريض العنصري أمر ممكن.