هذه محاولة لفهم مساهمة) فهد) وتناوله لإشكالية بالغة التعقيد وهي كيفية الجمع بين مختلف الأساليب النضالية والاستفادة من العلنية، حتى في ظروف القمع التي كان يتعرض لها الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، من طرف السلطات الملكية.

     وكما هو معروف، ينافح العديد من المشتغلين في الشأن السياسي اليوم للدفاع عن الملكية وتقديمها وكأن سلطتها كانت تدير الحكم وهي تلبس قفازات حريرية! وتبدو الغرابة حين يقوم هؤلاء المنافحون بمقاربة خاطئة إذ يقارنون النظام الذي كان سائدا حينذاك والأنظمة السياسية التي تلته، ويستخلصون استنتاجا ملتبسا قوامه أن النظام الملكي كان ديمقراطيا، مقارنة بتلك الانظمة. والحال أن مقاربة كهذه غير صحيحة إذ لا يجوز مقارنة ما لا يقارن كما يقول المناطقة، بسبب اختلاف مراحل التطور التي مرت بها البلاد، وعوامل أخرى لا تتسع المساهمة هذه الدخول في تفاصيلها.  ومن الطبيعي التأكيد على ضرورة فهم هذه الملاحظة في سياقها الصحيح، فهي لا تعني أن الانظمة التي تلت النظام الملكي كانت شديدة الوداعة في تعاملها مع العراقيين والعراقيات، فقمع اغلبها وإرهابها معروف ولا يحتاج إلى برهان أو دليل.

     ولأن) فهد) ثوري شديد القناعة بالأطروحات اللينينية، لذا لابد إذن من العودة السريعة إلى ملاحظات) لينين) بصدد التوليف الصحيح بين مختلف أشكال النضال، وإيلاء الأهمية المطلوبة لدراسة الوضع الملموس، واختيار الشكل النضالي المناسب له في اللحظة المحددة. ومن هنا أطروحة لينين المشهورة: " التحليل الملموس للوضع الملموس ".

     لقد بيّن) لينين) بوضوح، في العديد من أعماله النظرية، بأنه لا ينبغي أن ينصرف الثوريون الماركسيون إلى تكتيك واحد، إلى أسلوب واحد، إلى طريق واحد في النضال.

     وفي مقال بعنوان: الأهداف الفورية لحركتنا، الذي كتبه في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) 1900 قال )لينين) " وأخيرا، ففي ما يتعلق بالتاكتيك سنكتفي بما يلي: إن الاشتراكية ........ لا تقف مكتوفة الأيدي ولا تقتصر نشاطها على خطة جاهزة أو طريقة معدة سلفا للنضال السياسي، بل تقبل كل وسائل النضال، بشرط أن تتفق مع القوى المتوفرة للحزب وأن تتيح إحراز أقصى النتائج في الظروف المعينة" [1].  

     وفي مجال آخر يشير لينين إلى ما يلي: " قبل كل شئ تختلف الماركسية عن كل الأشكال البدائية للاشتراكية في أنها لا تربط الحركة بأي شكل وحيد ومحدد للكفاح. فهي تسلّم بأساليب النضال الأكثر تنوعاً، وهي لا تخترعها، بل تكتفي بتصميمها وتنظيمها.... إن الماركسية لا ترفض بصورة مطلقة أي شكل نضالي... إن الماركسية تطالب بصورة مطلقة بحث مسألة الأشكال النضالية من جانبها التاريخي " [2].

  وباختصار شديد، تريد الأطروحات اللينينية هذه التأكيد على جملة من القضايا، من بينها ما يلي:

 ليس هناك من شكل وحيد للنضال يحدد سلفا، بل ينبغي أن يضع الحزب في حسابه جميع الأشكال الممكنة، وإن خطيئة الحزب الثوري تكمن في رهانه أما على أسلوب وحيد، أو اعتماد أسلوب معين يتعارض مع الوضع الملموس؛

  • أن تكون لدى الحزب الثوري القدرة على المناورة السريعة والانتقال من شكل نضالي إلى آخر، والمناورة بالقوى المتوفرة لديه وعدم إقحامها في معارك مباشرة غير متكافئة، أو لم يحن موعدها بعد؛
  • أن يرتبط استخدام مختلف الأشكال النضالية بتحقيق أهداف محددة تشكل مدخلا لتحقيق أهداف لاحقة ضمن إستراتيجية محددة. ويعني ذلك أن اختيار هذا الشكل النضالي أو ذاك لا يكون ناجما عن موقف دفاعي، أو يأتي كرد فعل على ممارسات يفرضها الخصم الطبقي، بل يخدم الإستراتيجية النضالية وأهدافها المحددة؛
  • يتحدث لينين عن إحراز أقصى النتائج، في الظروف الملموسة. وتعني هذه الملاحظة أن هناك حاجة لديناميكية محددة في النشاط، والابتعاد عن الركود والمراوحة. وبعبارة أكثر تبسيطا أن المراوحة والركود والنزعة الانتظارية تعد مقتل الحزب الثوري ونقطة ضعفه.

 في ضوء هذه الملاحظات يمكن فهم المبادرة الفهدوية (بحسب التعبير الأثير للراحل الكبير هادي العلوي) والعريضة الاحتجاجية التي هي موضوع مقالنا هذا.    

 سنتحدث، في هذه المساهمة ومن خلال عرض هذه المذكرة، عن فهم (فهد) للعلنية والنزعة المطلبية المباشرة بصفتها أحد أشكال النشاط السياسي بوجه عام، واقتناص أية فرصة ممكنة لعرض وجهات نظر الحزب بصدد معضلات الوضع السياسي. فلسنا بحاجة للتدليل على أن الشيوعيين ليسوا عشاقا للعمل السري بحد ذاته، إذ أنهم لم يختاروا هذا الشكل العسير بل فرض عليهم فرضا وذلك حفاظا على الحزب وحماية لمناضليه ومناضلاته من عسف وقمع السُلط المتعاقبة، التي لم تدخر أية وسيلة لتفتيته وتحطيم كادره وقادته ومناضليه ومناضلاته وخلق فجوة واسعة بينه وبين الجماهير. وبالضد من ذلك لابد من الإشارة إلى أن الشيوعيين مكافحون من أجل الجماهير وتحقيق أهدافها في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية. وهم لا يدّعون الكفاح هذا، بل أنهم جسدوه، ويجسدونه، بعمل مضني وعمدوه، ولا يزالون، بالتضحيات الكبيرة وبالدم، إذ اقتضت ذلك ضرورات النضال، ومثال القائد (فهد) ورفاقه الأبطال وشهداء وشهيدات الحزب الكُثر، خير شاهد على ذلك. وهذا يفترض من بين أمور عديدة العلنية والنشاط الجماهيري والحزبي العلني وشفافية نشاط الحزب في علاقته بجماهيره بشكل خاص والجماهير الشعبية بشكل عام. ولهذا نرى أن الرفيق (فهد) كان مدافعا بحماس عن هذه الفكرة، وسعى لاقتناص أية فرصة علنية للتعبير عن مواقف الحزب وسياسته. وفي هذا السياق فقط ينبغي فهم جوهر مبادرة الحزب والرفيق (فهد) بتقديم المذكرة الاحتجاجية هذه، بوصفها شكلا نضاليا ملموسا للتعبير عن سياسة الحزب واستخدامها كوسيلة للوصول إلى الجماهير.

 كان (فهد) بوصفة سياسيا لماحا وعارفا لمزاج الجماهير وتطلعاتها لا يقبل القصور الذاتي والتطور العفوي للأحداث، كما كان يتميز بالسعي الدائم للتغلب على سطوتها في الوعي السياسي والنشاط السياسي النشيط. 

     وتؤكد ممارسة (فهد) المعكوسة في عريضة الحزب، المقدمة باسمه إلى السلطات الملكية، على ضرورة أن يكون الشيوعيون قادرين على القرن بين الإخلاص لأفكار ولأهداف الاشتراكية البعيدة المدى وبين الاستعداد الواعي، إذا تطلب الأمر ذلك للقيام بـ " المناورة والحلول الوسط " كما أكد على ذلك (لينين) [3].

     كان (لينين) قد أشار إلى أنه من الضروري إبراز الفارق المبدئي العميق جدا " بين الحل الوسط الذي تفرضه الظروف الموضوعية......الحل .....الذي لا ينقص قط من الولاء الثوري والاستعداد لمواصلة النضال وبين حل وسط الخونة الذين يلقون على الأسباب الموضوعية كل خياناتهم ورغبتهم خدمة الرأسماليين واستسلامهم للمخاوف وأحيانا للتهديدات وأحيانا للرشاوى  وأحيانا للزيف من جانب الرأسماليين" .[4] وقد أوضح (لينين) عدم وجود " وصفات عامة " أو " قواعد عامة " للحل الوسط وليس لها أن تكون، ومع ذلك فهو يكرر مرارا ضرورة مراعاة السياق التاريخي المحدد في هذه المسألة.

     كان للحدس السياسي الباهر لدى (فهد) مغزاه الكبير، ذلك الحدس القائم على الجمع بين الحساب العلمي الدقيق الذي لا يعرف الخداع الذاتي العاطفي والنظر إلى السياسة على أنها فن. وقد اقتنص فرصة ملموسة للتعبير العلني عن سياسة الحزب، من دون أن يتخلى عن المواقف المبدئية والحزم في نقد نهج الحكومة ونقد سياساتها وممارساتها الملموسة على كل الصعد.

 نعود إذن إلى مبررات العريضة والظروف التاريخية التي كتبت فيها.

     في 21/11/1945 قدم الرفيق (فهد) مذكرة باسم الحزب الشيوعي العراقي موجهة إلى " رئيس الدولة العراقية ومجلس الأمة " وتم توجيه نسخ من هذه المذكرة إلى " رؤساء الدول الكبرى بريطانيا، الولايات المتحدة، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، بواسطة سفرائها ووزرائها المفوضين في بغداد ". هذا إضافة إلى " رؤساء الدول العربية، مصر، سوريا، لبنان، بواسطة ممثليها في بغداد ". وسنضع بين قويسات وبخط مائل جميع الاقتباسات المأخوذة من تلك المذكرة.

     المذكرة الاحتجاجية التي قدمها الحزب كتبت، إذن، بعد أكثر من ستة شهور على انتهاء الحرب العالمية الثانية (في 9/05/1945) بهزيمة منكرة للعسكرية الألمانية وحلفائها، وللنازية والفاشية كإيديولوجيا وسياسة، وبانتصار كبير لقوى الحرية والسلام. وكان الحزب الشيوعي العراقي يتطلع، مثله مثل بقية القوى المحبة للعدالة والسلام والمساواة، إلى أن تنعكس تلك الانتصارات إيجابيا على بلادنا وشعبنا ليمارس حقوقه الأساسية. ولكن مآل الأحداث، خلال عدة شهور، شهد وضعا آخر وممارسات أخرى بعيدة كل البعد عن القواعد والمبادئ الديمقراطية، التي كان يتبجح الحاكمون حينذاك أنهم من أنصارها ومروجيها!!

    تكشف المذكرة وبروح ناقدة زيف ادعاءات الحكومة العراقية في ذلك الوقت، التي كانت تحاول أن تظهر نفسها أمام البلدان العربية، والعالم الخارجي، كحكومة ديمقراطية دستورية، ولكن ممارساتها الفعلية كانت عكس ذلك.

 المضامين الأساسية للمذكرة الاحتجاجية

   تنطلق المذكرة من استنتاج قوامه " أن الحكومة العراقية قامت وتقوم بأعمال لا تقوم بها حكومة ديمقراطية..... إنها تتصرف كما كانت تتصرف الدويلات التي كانت تخضع للنازية ".

غير أن المذكرة لا تتكئ على هذا الاستنتاج العام، ولا تلقيه على عواهنه، بل تعززه بعرض الوضع، في قطاعات محددة، في المجتمع والاقتصاد والسياسة في بلادنا. وسنتناول هذه القطاعات بحسب الترتيب الوارد في هذه المذكرة وهي كالتالي:

 سلوك الحكومة تجاه العمال. كان من أول " بركات " الحكومة، بعد الانتصار العالمي على الفاشية، أن دشنت هجومها على الطبقة العاملة العراقية، ممثلا في شخص نقابة عمال السكك " فأغلقت هذه النقابة ولاحقت قادة العمال واضطهدتهم". وطبيعي أن الحكومة كانت جاهزة لتقديم مبرراتها لمثل هذا السلوك المنافي لأبسط قواعد النظام الديمقراطي الذي كانت تتبجح بأنها ممثلة له. وكانت حجتها الجاهزة والتقليدية هي أن هؤلاء العمال " يدينون بمبادئ مضرة أي عمال شيوعيين أو متهمين بالشيوعية".

  • وتعري المذكرة زيف الحكومة ورجعية رجالها، حين تشير إلى أن هؤلاء يتهمون العمال بأنهم يدينون بمبادئ مضرة لكونهم شيوعيين، في حين أن هؤلاء السادة " لا يشترطون إبعاد من يحمل أفكارا فاشية في قيادة النقابات، بل يلتمسون اجتذابهم إليها ..... وتنصيبهم على رأسها". وتستخلص المذكرة من هذه الممارسات استنتاجا بليغ الدلالة قوامه " أن تصرف الحكومة العراقية هذا تجاه عمال العراق لبرهان قاطع على أن هذه الحكومة المفروض فيها أن تكون ديمقراطية، لا زالت حتى بعد النصر على قوى المحور، تسلك نفس السبيل التي كانت تسلكها دول المحور الفاشية تجاه عمالها وأنها تنقاد لمشيئة الموظفين الإنكليز الذين حاربوا ولا يزالون يحاربون حركة العمال في العراق".
  • سلوك الحكومة تجاه الشباب الوطني. لا شك أن الشباب العراقي مثله مثل بقية فئات مجتمعنا كان شديد التطلع إلى أن يتكلل الانتصار على الفاشية والنازية بأن يفسح له المجال للتمتع بحقوقه الأساسية، ومن بينها حقه في تنظيم نفسه واختيار أشكال النشاط المناسبة. ولهذه الأسباب، وغيرها، قام فريق من الشباب بالدعوة إلى عقد مؤتمر للطلبة لمعالجة مشكلاتهم والاشتراك في مؤتمرات الشباب التي كان من المنوي عقدها في البلدان العربية، أو في بلدان أخرى. ماذا كان رد الحكومة على هذا التحرك السلمي؟ جاء ردها سريعا وحاسما حيث " شنت حملة إرهابية ضدهم فطردت بعضهم من مدارسهم وأوقفتهم في بادئ الأمر........ ومن ثم وقفت تتحين الفرص للتنكيل بهم حتى انتهت ...... إلى اتهامهم (بالشيوعية)". وتستنتج المذكرة بأن كل هذه الممارسات " تكشف عن مبلغ كراهية الحكومة ..... لحركة الشباب العراقي ومحاولتها القضاء على حركتهم المشروعة بالعنف والإرهاب ". هكذا إذن تثبت حكومتنا الملكية آنذاك أنها كانت ديمقراطية حتى النخاع!!.
  • موقف الحكومة من الشعب الكردي. من المؤكد أن أي حكومة لا تؤمن بتطلعات شعبنا من أجل الحرية والديمقراطية سيكون موقفها من قضية الشعب الكردي وحقوقه العادلة معاديا، وكان هذا بالفعل موقف حكومتنا " الديمقراطية " حينذاك. لقد شجع هذا الموقف تنامي النزعات الشوفينية التي اقترنت بشن " حملات تأديبية " ضد بعض القبائل الكردية تحولت إلى " حملات تأديبية ضد الشعب الكردي بأسره وبصورة خاصة ضد طالبي الإصلاح الديمقراطي ". وتنتقد المذكرة الاحتجاجية سلوك الحكومة العراقية وحليفتها الحكومة البريطانية مؤكدة على أن هذا السلوك لا يتفق " وأبسط مبادئ الحق والعدالة "، كما أنه منافي من جهة أخرى " لحقوق الأكراد الذين يؤلفون ربع سكان العراق ولهم الحق في التمتع بالحريات الدستورية والديمقراطية وبحرياتهم الشخصية وبحرمة قراهم وبيوتهم ".
  • موقف الحكومة من الجماعات الوطنية. على الضد من تصريحاتها الرنانة في المؤتمرات الدولية حول الديمقراطية، فإن ممارسة الحكومة في حينه كانت تستكثر على المواطنين العراقيين حقهم في تأليف الأحزاب وحقهم في أن يكون لهم صحافة حرة وحقهم في النشر وإقامة الاجتماعات وغيرها من الحقوق الأساسية. تنتقد المذكرة الاحتجاجية مواقف الحكومة بهذا الشأن، مؤكدة على أن هذه المواقف " لا تتفق مع ألف باء الديمقراطية ونحن لا ندري كيف تستطيع هذه الحكومة تسمية نفسها بالديمقراطية وتسمية النظام بالديمقراطي في حين أنها تنكر على الشعب العراقي حقه في التنظيم السياسي وحقه في الاجتماع والنشر وغيره ". إن حرية الرأي والتعبير تعد واحدة من أساسيات النظام الديمقراطي، وتشمل حق الأفراد والجماعات في التعبير عن آرائها على مقتضى الحرية المكفولة بضمانات قانونية. وبدون هذه الحريات، التي تكفل الحق في التعبير عن الرأي في الشؤون العامة، والحق في معارضة السلطة، لا سبيل إلى تصور النظام الديمقراطي. وبرغم تبجحها بالديمقراطية، فإن موقف الحكومة العراقية آنذاك كان يتعارض بالملموس مع واحدة من أسس النظام الديمقراطي.
  • موقف الحكومة من الشيوعية والشيوعيين. بالرغم من الانتصارات الكبيرة التي أحرزتها قوى الحرية والسلام، وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي وجيشه الأحمر، على النازية، ظل هاجس معاداة الشيوعية كامنا في الوعي الجمعي للأجهزة الحكومية وأدواتها القمعية. وواصلت الحكومة العراقية في ذلك الوقت نهجها السابق في التعامل مع الأفكار الشيوعية ونشاطات الحزب الشيوعي العراقي معتبرة إياه "حركة هدامة" وذلك استنادا إلى "قانون منع الدعايات المضرة" السيئ الصيت حينذاك. وتشير المذكرة الاحتجاجية إلى " أن هذا القانون لا يشرّف الحكومة العراقية لأن وجوده دليل على عدم ديمقراطيتها ولأنه ساعد، كما ساعد في السابق، على تهيئة البيئة التي تلد وتربي الأفكار والعناصر الفاشية المعروفة بالرتل الخامس مع الفارق الوحيد هو أن الرتل الخامس القديم خدم دول المحور والرتل الجديد يخدم الدول الاستعمارية الأخرى ". هكذا إذن وبرغم تبجح الحكومة العتيدة بأنها حكومة ديمقراطية نجد أن ممارساتها كانت تتجه لوأد أي تحول ديمقراطي حقيقي، وتعيد إنتاج القوى المعادية للديمقراطية، ولكن بطبعة جديدة. تتغير الأشكال إذن، أما الجوهر فيظل واحدا. وتجري المذكرة مقارنة شديدة الدلالة بين إسبانيا والبرتغال اللتين كانتا حينها فاشيتان ولهذا فإنهما كانتا تعتبران الشيوعية جريمة، وبين المملكة العراقية " الدستورية " و " الديمقراطية " التي كانت تعتبر الشيوعية جريمة أيضا يعاقب عليها القانون! هكذا يتبين أن حاملي رايات معاداة الشيوعية فاشيون بوضوح و " ديمقراطيون " بوضوح أكثر. إن منع الحزب الشيوعي والقوى المعارضة الأخرى، تحت ذرائع مختلفة، من النشاط العلني يعد في الواقع خرقا لقاعدة مهمة من قواعد النظام الديمقراطي، والذي يقر مبدأ التعددية السياسية بحسبانه التعبير المادي المباشر عن حرية التعبير، وعن حق تأسيس الجمعيات، من ضمن سواها من الحقوق المدنية والسياسية، ثم بحسبانه تعبيرا عن إرادة كسر احتكار المجال السياسي من قبل فريق دون آخر، وتحويل السياسة والعمل السياسي إلى شأن عام وحق عمومي. ومن الطبيعي الإشارة إلى أن هناك بون شاسع بين تعددية سياسية شكلية تذهب إلى حد "تفريخ" الأحزاب، وبين تعددية حقيقية تحترم فيها السلطة حرمة هذا الحق، فلا تقوم بهندسة مخلوقاتها الحزبية على مقتضى منطق الاستنساخ لتكون "رديفا أو عضيدا" للنظام الحاكم.

     تكرس المذكرة الاحتجاجية المقدمة من طرف الحزب والمذيلة بتوقيع الرفيق (فهد) حيزا مهما لشرح ممارسات الحكومة وأجهزتها الخاصة التي كانت تقوم بملاحقة الشيوعيين واضطهادهم، لا لعمل يقومون به، " بل، لمجرد كونهم شيوعيين ينشرون الأفكار الشيوعية التي تدخل في قائمة الجرائم السياسية ......... التي اعتاد الحكام الطغاة في كل زمان ومكان أن يلصقوها بمعارضيهم السياسيين ذوي الأفكار الجديدة ".

    وفي مذكرته الاحتجاجية يتحدى الحزب " رجال الحكم في العراق، ......، ويطلب إليهم أن يذكروا ولو تهمة واحدة قام أو يقوم بها الشيوعيون يمكن أن تعتبر في العالم الحر جريمة يؤاخذ عليها. إن الشيوعيين لعلى استعداد أن يجيبوا، حتى أمام القضاء، عن كل تهمة وجيهة توجه إليهم من التهم التي يحلوا للحكومة القائمة إلصاقها بالشيوعية وبالشيوعيين ".

     يستخلص الرفيق (فهد)، في المذكرة، العديد من الدروس، من تجربة الحرب العالمية الثانية، من بينها أثنين جديرين بالإبراز.

 الأول هو أن هذه الحرب أثبتت " أن أكثر الناس خيانة لأوطانهم هم الحكام الذين حبسوا الحريات الديمقراطية عن شعوبهم ". ورغم مرور 78 عاما على تاريخ صدور هذه المذكرة فإن هذا الدرس البليغ مازال يتمتع براهنيته. وحسبنا أن لا نذهب بعيدا إلى قارات أخرى، فتاريخ بلادنا الراهن خير شاهد على صحة هذا الدرس.

 الثاني هو أن التجربة أثبتت أن الشيوعيين " إن لم يكونوا أشد وطنية من غيرهم فهم لا يقلون وطنية عن أي مواطن آخر، وقد برهنت الحرب المنتهية الآن على حب الشيوعيين لأوطانهم ودفاعهم وتضحياتهم عنها وعن القيم الإنسانية ". ومثال الرفيق (فهد) ذاته يبرهن على صدق هذه الأطروحة عندما صرخ بوجه رئيس المحكمة قائلا: " لقد انغمرت في النضال الوطني قبل أن أكون شيوعيا، وبعد أن أصبحت شيوعيا صرت أشعر بمسؤولية أكبر تجاه وطني ".

 موقف الحكومة تجاه الصهيونية. تفند المذكرة دعاوى الحكومة العراقية بأنها تناصر كفاح الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية، وتشير المذكرة كذلك إلى أن الممارسات الفعلية للحكومة المذكورة والتي كان الشعب العراقي يتلمسها يوميا، كانت " تمنع الشعب العراقي من مناصرة عرب فلسطين، وتمنعه من مكافحة الصهيونية وبهذا تسهل على الصهاينة والقوى الرجعية..... من السير بخططهم ". وتشير المذكرة إلى العديد من الممارسات الفعلية التي قامت بها الحكومة حنذاك ومن بينها: منع إقامة الاجتماعات والمظاهرات الهادفة إلى نصرة الشعب الفلسطيني، منع عصبة مكافحة الصهيونية في إقامة اجتماع في يوم بلفور الأسود، احتلال قوات الشرطة لمقر نقابات العمال لكي لا يجتمع العمال فيه للاحتجاج على ممارسات الحكومة هذه ولنصرة الشعب الفلسطيني.

 واستنادا إلى هذه الممارسات الملموسة للحكومة العراقية آنذاك، تستخلص المذكرة وبصواب الاستنتاجات التالية:

 - ان الحكومة العراقية " تحاول أن تخفي المسؤولين الحقيقيين عن نكبة شعبنا العربي في فلسطين".

 - أن هذه الحكومة تسعى جاهدة لأن تخفي حقيقة أن الاستعمار البريطاني هو المسؤول الأول عن هذه النكبة.

 - تسعى هذه الحكومة لخلط الأوراق من خلال إخفاء حقيقة أن الصهيونية، باعتبارها حركة عنصرية، تمثل مصالح الشركات اليهودية الكبرى في بريطانيا وأمريكا، الوثيقة الارتباط بالرأسمال الدولي والمعبرة عن مصالحة الأساسية.

 مؤسسات الدولة العراقية. انطلاقا من الحقائق السابقة التي كشفت زيف ادعاءات الدولة العراقية، والتي بينت حقيقتها كدولة غير ديمقراطية، فإنه يمكن الاستنتاج بأن مؤسسات هذه الدولة ستكون متطابقة ومضمون الدولة ذاتها. ولهذا يمكن الاستنتاج بأن هذه المؤسسات ستكون لاديمقراطية بالتأكيد. وهو ما توصلت اليه المذكرة الاحتجاجية في فقرتها الأخيرة حيث اشارت إلى " أن الجهاز الحكومي عندنا جهاز غير ديمقراطي، جهاز فاسد لا يخدم مصالح شعبنا، وقد ساعد في إيصال هذا الجهاز إلى نهايته القصوى من التفسخ والانحلال التدخل الاستعماري في شؤون دولتنا وتغلغل الموظفين الإنكليز في مؤسسات دولتنا ...... وسيطرتهم على مرافق البلاد الاقتصادية وغيرها ".

     واستنادا إلى كل ما تقدم تتوصل المذكرة إلى الخلاصة التالية: " إن حزبنا لا يسعه السكوت على بقاء السيطرة الأجنبية – سيطرة بريطانيا العظمى – العسكرية والسياسية والاقتصادية في بلادنا، ولا يسعه السكوت عن التدخل الأجنبي....... هذا التدخل الذي مسّ ويمس يوميا بسيادتنا الوطنية وينفي استقلالنا المعترف به دوليا ".

     هكذا إذن لم تؤد الحرب إلى تقليص النفوذ الاستعماري في العراق بل استغل الإنكليز الكثير من عوامل الضعف الداخلية لتعزيز هيمنتهم على البلاد سياسيا واقتصاديا وأدبيا. وهكذا أسقط التاريخ الفعلي للسياسة البريطانية المنتهجة في بلادنا عشية الفترة التي كان يتحدث عنها الرفيق (فهد)، أسقط كل التصريحات والدعاوى الإيديولوجية التي كانت يروجها البعض من أن بريطانيا العظمى هي إحدى دعائم جبهة الأمم المتحدة، ضد الفاشية والطغيان. إذ أن ممارساتها الفعلية بينت أنها لا تتقن غير اعتماد الأساليب الاستعمارية لإجبار شعبنا على الخضوع لمشيئتها.

     وتختتم المذكرة الاحتجاجية بالتأكيد على " أن حزبنا يطالب: (1) بإلغاء القوانين الاستثنائية والرجعية، والمحاكم العرفية والإدارية، التي تقيد حريات المواطنين (2) إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، عسكريين ومدنيين، أولئك الذين اتهموا بالشيوعية أو الوطنية بمفهومها الصحيح والذين اعتقلوا بحوادث حركة بارزان وغيرها (3) نظام حكم ديمقراطي.

     هكذا إذن يدمج الرفيق (فهد) بين النضال المطلبي المباشر متمثلا بإلغاء القوانين الاستثنائية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وبين النضال السياسي الأشمل الهادف لتحقيق نظام حكم ديمقراطي. ولا شك أن القارئ الكريم على وعي بالتدرج المطلبي وكذلك الوحدة العضوية التي تربط المطالب في فقراتها الثلاث. فلا يمكن الحديث عن أي ممارسة ديمقراطية حقه بمعزل عن تأمين الحقوق الأساسية للناس، كما لا يمكن القبول بوجود هذه القيود والتبجح بأن النظام ديمقراطي وأن " كل شيئ على ما يرام ". والمطلبين الأوليين يحققان الخطوة الأولى في الطريق نحو المطلب الثالث. وعكس ذلك ستلبس الديمقراطية طربوشا ديكتاتوريا، ومعروف مآل مثل هذه المزاوجة اللعينة.

 [1] لينين: المؤلفات، المجلد 4، ص 284، باريس – موسكو. 

2. المرجع السابق، المجلد 9، ص 291

3. لينين: المؤلفات الكاملة، المجلد 41، ص 59

4.لينين، المجلد 41، ص 51 – 52

 

 

 

 

 

عرض مقالات: