صلاح عدلي**
حلت في الخامس من مايو الجاري الذكرى المائتان لمولد كارل ماركس الذي احدث انقلاباً في الفكر البشري بطرحه نظريته الثورية التي قامت اساساً على المفهوم المادي للتاريخ، والديالكتيك بوصفه العلم الاوسع والاعمق للتطور في الطبيعة والمجتمع، ونظرية فائض القيمة التي كشفت جوهر الاستغلال في المجتمع الرأسمالي وتناقضاته الاساسية غير القابلة للحل، والدور الثوري الذي تضطلع به الطبقة العاملة في التاريخ لتحرير البشرية وانتقالها من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية.
وكشف التطور التاريخي بعد مرور مائة وسبعين عاماً على صدور البيان الشيوعي عن ان النظرية الماركسية ما زالت حية وقادرة على التجدد والتطور وتقديم اجابات علمية وصحيحة على المسائل الكبرى في عصرنا الراهن وفي المستقبل، وما زالت تمثل سلاحاً جباراً في يد الشعوب وقواها الثورية في نضالها المستمر ضد النظام الرأسمالي في اكثر مراحله عدوانية ووحشية وهي مرحلة العولمة.
والنظرية الماركسية لم توضع دفعة واحدة والى الابد، انها نظرية التغيير والحركة المستمرة، لذلك هي ليست ديناً ولا كتباً ونصوصاً مقدسة تضع اجابات ووصفات جاهزة مسبقاً لمشكلات تطور المجتمعات في كل العصور. انها نظرية ثورية تعتبر الممارسة هي المعيار الوحيد للحكم على التجارب، ومنهجا للتفكير في الحلول الخاصة بتطور كل مجتمع وفقا لظروفه الخاصة ومستوى تطوره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفقا للعصر الذي يعيش فيه، وبالتالي فان كل تجربة باتجاه الاشتراكية تأخذ بكل تلك الاعتبارات، تمثل اضافة جديدة فكرية وعملية للماركسية وإثراء لها.
والماركسية كنظرية علمية وسلاح للنضال يتم تطويرها وتجديدها باستمرار مع كل تطور اجتماعي نوعي واكتشاف علمي جديد، ولقد قدم لينين اضافات عظيمة للماركسية في الجانب النظري والعملي بحكم قيادته لأول ثورة اشتراكية في التاريخ، كما قدم مفكرون كبار آخرون اضافات جديدة اغنت الماركسية بحكم التطبيق الخلاق لها على واقعهم المختلف.

التغيرات الكبرى الجارية
في العالم وطبيعة العملية الثورية في المرحلة الراهنة

ويرى الحزب الشيوعي المصري ان ماركسية القرن الحادي والعشرين لا بد ان تأخذ في اعتبارها التغييرات الكبرى التي حدثت في مسار التطور العالمي في العقود الاخيرة، ولعل اهمها التطورات النوعية والكيفية والمتسارعة التي حدثت في تطور الرأسمالية في مرحلة العولمة، نتيجة لثورة المعلومات والاتصالات وما اتاحته من امكانيات جبارة لتطور القوى المنتجة، وبسبب تعمق ازماتها البنيوية التي تجلت في ازمتها الكبرى عام 2008 والتي ما زالت آثارها مستمرة، وكذلك بفعل قانون التراكم الرأسمالي الذي ادى الى استقطاب هائل غير مسبوق لتركز وتمركز الثروة في أيدي عدد من اصحاب الشركات الاحتكارية متعددة الجنسية على حساب الاغلبية الساحقة من شعوب العالم خاصة في الدول النامية والفقيرة.
وتواكب ذلك مع انهيار التجربة الاشتراكية الاولى في الاتحاد السوفيتي وانتقال العالم الى هيمنة القطب الواحد الامريكي في مطلع التسعينات، ثم التحول الى التعددية القطبية وما كشفت عنه هذه المرحلة الانتقالية من اوضاع خطيرة وحرجة نتيجة صعود قوى اليمين المحافظ الرجعي والمتطرف التي تقود العالم الرأسمالي اليوم، وما تمثله من خطر داهم يهدد الامن والسلم الدوليين بإشعالها الحروب، واثارتها بؤر التوتر في العديد من مناطق العالم، وتحالفها مع المنظمات الارهابية وتأجيجها للصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية، وتصعيدها للنزعات العنصرية، وإثارتها لمشاعر العداء والكراهية للمهاجرين والاجانب، وتدميرها للأنساق البيئية.
ولا تزال البشرية تواجه العديد من الصعوبات والتحديات ويتواصل تأثير الازمة الاقتصادية في البلدان الرأسمالية وتظهر النقاط الساخنة الاقليمية الواحدة تلو الاخرى وتتصاعد سياسات الهيمنة والقوة ونزعة التدخل وتتشابك ظواهر سباق التسلح والارهاب وغيرها من التهديدات الامنية التقليدية وغير التقليدية ولا تزال مهمة السلم العالمي والتنمية المشتركة ثقيلة وطريقها لا يزال طويلا.
ورغم ان هذه المرحلة الانتقالية من القطب الواحد الى تعدد الاقطاب تتم داخل الاطار الرأسمالي في المرحلة الحالية، الا انها تتيح ظروفاً افضل لنضال الاحزاب الشيوعية والقوى التقدمية والديمقراطية في نضالها من اجل استقلال القرار الوطني وانهاء التبعية للامبريالية العالمية وتحقيق التنمية المستقلة المعتمدة على الذات أساساً، وتزيد من قدرتها على المناورة والاستفادة من التعاون المتبادل مع الصين والكتل البازغة المنافسة للدول الامبريالية الكبرى. كما ان مواجهة السياسات الوحشية للامبريالية في هذه المرحلة تقتضي تطوير وتعزيز وتفعيل التضامن الاممي بين الاحزاب الشيوعية والتقدمية في العالم. كما تتطلب ايضا ضرورة التحلي بالجرأة والشجاعة لنقد الاخطاء السابقة في الممارسة، والتصدي للتحديات الجديدة مع التمسك بجوهر فلسفة وروح ومنهج النظرية الماركسية التي تثبت صحتها كل يوم وتطويرها في ضوء فهم الواقع المتغير.
ويرى حزبنا ان العملية الثورية العالمية في العصر الراهن ما زالت هي عملية الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية. وهي عملية تاريخية سوف تمتد لعقود طويلة قادمة، تتخللها مراحل متتابعة تختلف من بلد لآخر ومن منطقة لأخرى حسب الظروف الموضوعية والذاتية. كما ان التناقضات سوف تتجلى فيها بصور مختلفة ولكن يظل جوهرها هو نضال الشعوب وقواها التقدمية ضد الامبريالية من اجل التنمية والعدالة الاجتماعية في اتجاه الاشتراكية، حيث تكشف الوقائع المستمرة عجز الرأسمالية عن تقديم الحلول لتناقضاتها الاساسية التي تتعمق وتتأزم باستمرار، بل وتتأكد مسؤوليتها عن الاوضاع المأساوية التي يعاني منها اغلب شعوب العالم وخاصة في التخوم والدول الفقيرة. وفي مقابل ذلك تبرز مزايا تفوق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في منافستها مع الدول الرأسمالية، وتتزايد قدرتها على تحقيق انجازات عظيمة في فترة قصيرة بدون استعباد واستغلال الشعوب الاخرى وهيمنة على ثرواتها ومقدراتها كما فعلت الدول الراسمالية في مراحلها الاولى.
ونحن نتفق مع افكار الرفيق شي جين بينج في ان العالم يعيش اليوم عصرا جديدا تغيرت فيه امور كثيرة حيث اصبح السلم والتنمية والفوز المشترك لكل البلدان هو التيار السائد، وانه قد انتهى عصر الاستعمار القديم ولم يعد بمقدور كتلة دول ان تسيطر بمفردها على شؤون العالم. كما يتشكل العديد من مراكز التنمية في العالم، ويواصل ميزان القوى العالمي تطوره بإتجاه السلم والتنمية، وتتعمق درجة الترابط والاعتماد المتبادل بين مختلف الدول بصورة غير مسبوقة، وتتزايد رابطة المصير المشترك على نفس الكرة الارضية.
الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.. تجربة ثرية وخبرات ثمينة

وفي ظل هذه الاوضاع في العالم تأتي تجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، بما حققته من قفزة جبارة غير مسبوقة على كل المستويات، لتحيي آمال الشعوب في مجتمعات تحقق العدالة الاجتماعية والاشتراكية، وتقدم للحركة الشيوعية العالمية تجربة جديدة ثرية ليس بغرض تقليدها او استنساخها، ولكن للاستفادة بدروسها وبالرؤية الفكرية التي تطرحها. والتي اعلن الرفيق شي جين بينج الامين العام للحزب الشيوعي انها تسترشد بالماركسية اللينينية وتستند الى الحضارة والخصائص الصينية، وتتوافق مع تطورات العصر ومنجزاته التكنولوجية. ويرى حزبنا انها تجربة تثري ليس فقط تجارب التطبيق الاشتراكي بل والفكر الماركسي ايضاً، وتدفع الشيوعيين في مختلف البلدان لدراستها والاستفادة من دروسها وهم يناضلون وفقا للطريق الخاص لكل بلد وطبقا لظروفه الخاصة للتطور نحو بناء مجتمعه الاشتراكي.
ولقد قدمت الصين تجربة فريدة في التنمية للعالم حيث اكدت على ان طريق الليبرالية الجديدة وتوافق واشنطن ليس هو الطريق الصحيح لتحقيق التنمية في البلدان الفقيرة، حيث ادى الى انهيار العديد من الاقتصادات الوطنية كما ادخل الدول الرأسمالية في ازمة كبيرة عام 2008، وقدمت الصين في مقابل ذلك من خلال سياسة الاصلاح والانفتاح نموذجاً حقق نتائج باهرة في ظل المعادلة الصعبة التي واجهتها. وقد مكنت هذه السياسة الصين من استثمار ما هو متاح في ظل العولمة دون السقوط تحت رحمة السوق الحر والليبرالية الجديدة المتوحشة من جانب، وعدم الخضوع من جانب آخر للاستلاب الثقافي مع حرصها الدائم على الحفاظ على النظام السياسي الاشتراكي للصين تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني.
انها التجربة الاولى من نوعها لدولة اشتراكية تسعى لتطبيق الاشتراكية مع الاستفادة بعناصر الاقتصاد الرأسمالي، والجمع بين التخطيط ومزايا السوق، وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار الاجنبي في اطار سياسة اشتراكية، وذلك وفق منهج التجريب والمنفعة والانتقال من منطقة الى اخرى داخل المجتمع لتحقيق التنمية المتكاملة والمتوازية، مع الحفاظ في نفس الوقت على استمرار استخدام التدابير الاشتراكية الاساسية كالتخطيط، والدور الرئيس للدولة في المجال الاقتصادي والانفاق الحكومي المتزايد للتحسين المستمر في الخدمات الصحية والتعليمية، والارتقاء بمعيشة الشعب وضمان فرص التوظيف ومحاربة الفساد والبيروقراطية بحزم. وعلى المستوى الخارجي تلتزم الاشتراكية ذات الخصائص الصينية بمبادئ التعاون والمنفعة المتبادلة دون فرض شروط او هيمنة او تدخل في شؤون الدول الاخرى. كما تؤكد مبادرة الحزام والطريق وتأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية على ان الصين ستشارك فرص التنمية مع غيرها من الدول النامية.
ويتم ذلك تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني للشعب والجيش والدولة باعتبارها الضمانة الاساسية لتحقيق اهداف الشعب الصيني في دولة اشتراكية وقوية وغنية وديمقراطية وحضارية ومتناغمة وجميلة حتى عام 2050، كما جاء في كلمة الرفيق شي جين بينج في المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني. ومن الخبرات الثمينة ايضا للتجربة الصينية الحرص على الجمع بين قيم الحداثة نتيجة الانفتاح على شعوب العالم، وبين الحفاظ على التقاليد الايجابية في التراث الصيني وتجربته الحضارية العريقة، حيث حرض الحزب الشيوعي الصيني على الاستناد الى هذه الخصوصية وإبداع الشعب الصيني في اثراء عملية التنمية من مختلف جوانبها.
ونتيجة للمزايا التي تحققها الصين في المنافسة الاقتصادية مع الدول الرأسمالية المتقدمة، وتزايد دور وتأثير الصين اقليمياً وعالمياً فان تجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية ستظل مستهدفة بالهجوم والتشويه الفكري من قبل القوى الامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، وسوف تستخدم تلك القوى في هجومها كل ما تملكه من ادوات اعلامية واجراءات اقتصادية وتهديدات ومناورات سياسية وعسكرية لحصار هذه التجربة. ومن جانب آخر فان الطريق المؤدي لاكتمال هذه التجربة لن يكون ممهدا تماما وخاليا من الصعوبات والتحديات من داخل الصين وخارجها. الا ان كل الشواهد والوقائع والتطورات تؤكد ان الحزب الشيوعي الصيني بقيادته الحكيمة، سوف يكون قادراً على مواجهة كل هذه التحديات والتغلب عليها بما يملكه من رؤية واقعية خلاقة وتجربة في حكم دولة هي الاكبر في العالم من حيث عدد السكان، ولمدة سبعين عاماً استطاع خلالها ان يكتسب تأييد الشعب الصيني وثقته، ويستنهض طاقاته لتحقيق قفزات جبارة على كل المستويات ويكتسب تأييداً واعجاباً واسعاً بإنجازاته الكبرى بين شعوب العالم.
وختاماً يتقدم الحزب الشيوعي المصري بالشكر والتحية للحزب الشيوعي الصيني ودائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على هذه الدعوة الكريمة وكرم الضيافة واتاحة الفرصة لنا جميعاً للاحتفال بذكرى مرور مائتي عام على ميلاد كارل ماركس وتبادل الرؤى والخبرات بين الاحزاب الشيوعية واليسارية في هذه المناسبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
مداخلة في ندوة علمية اقيمت في الصين بمناسبة مئوية ماركس الثانية.
**
الامين العام للحزب الشيوعي المصري.